وجه كأنه عشيرة امهات علي السوداني

أصواتٌ كثيرةٌ في الدار وما حولها. تعجبني تلك الأحافيف القادمة من باب المساء، أو تلك النازلة على خواصر وسرر وثنيّات الليل. لم أرَ حتى الآن كلبَ الزقاق. أتخيلهُ بُنّياً ضخماً مثل ذاك الذي أكل هبرةً عظيمةً من مؤخرة بنت الجيران سعدية الحميراء الحلوة، ما جعلَ تالياً ليلةَ دخلتِها تنام على قلقٍ مبين. وقعتْ هذه العضّة الموجعة قبل أربعين سنة.

كان الكلبُ الجوزيّ اسمهُ بوبي أو لاسي أو تان تان أو أيَّ كلبٍ دائحٍ على شاشة سينما الخيّام. ربما كان واحدا من خزنة الذاكرة وسكرابها الذي ينام على كمشة كلابٍ وكلبات مستلّات من شاشة الكاوبوي البعيدة. عشّاق سعدية كثيرون، لكنهم كانوا يتفرّجون على محنتها من خلف عباءات الأمّهات، حتى لحظة هروب بوبي بقوة وابلٍ من سلاحٍ أبيضَ منه القنادر والنعل والحجر والشتائم القوية المهينة التي صيّرتْ لاسي الشارد، كلباً إبن سطّعش كلبة.

ثمة صوت مدوزن يهبُّ عليَّ من المطبخ. ثلّاجة الأكل والشرب تسير بقوة ماطورٍ أعرج بادتْ إحدى قائمتيه، فصارت تطلقُ زخّة هلاهل ملتبسة حالَ الشغل والإنطفاء. أصواتٌ ليلية مبهمة لا تُعرفُ منابعها، أشهرها ذلك الذي يشبهُ ألفَ حرفِ زايٍ معلوكٍ بين الطواحن والضروس. صوت سيارة الخضرة. رنين الحديد المنولد من بطن ضرب مفتاح الحلِّ والشدِّ ببدن جرّة الغاز. بحّات جارتي السبعينية وهي تهشُّ بعصاها شقاوة أطفالٍ قساة. الموسيقى الرحيمة التي يُنتجها خشمُ الولد نؤاس وهو ينام على مفتتح زكام أيلول اليابس. صوتُ الكناريّ الذي فقد ونيستَهُ قبل سنة، فصار يغنّي خارج قياس ساعته البايولوجية. صوتيَ الرنّان بعد الكأس العاشرة، وهو يؤدّي مذهلة سعدي الحلّيّ “عشق أخضر”. صوت خزّانات الماء بعد تبلبل الهواء في بطونها. صوت فقدان ثلاثة صحون في مجلى الغفلة.

أمّا أعذب الأصوات التي تلبطُ في مخّي الليلة، فهو ذلك الزخيخ الآتي من عربانة الذرة المسلوقة، وحنجرة صاحبها الذي ينغّم ويلوّن ويدلّعُ ويُسلطن النداء ويزوّقهُ بلازمة “يالله عالذراية.. هاي ذراية” مع رغبة قوية بمحو نقطة الذال.

بائع الذرة هو كائنٌ ينتمي إلى أوادم الصنف الذي لا يفقد الأمل. يمرّ بالزقاق ثلاث مرات ليليات، ويمارس على شرفات وروازين الساكنين، أعظم عملية تحفيز للشراء. صوتُهُ جبل من حنينٍ يدوزنهُ كما أذان فجر مُدافٍ بشهقةِ ياسمين.

في كلِّ مرةٍ أنشتلُ فيها على سورِ قِدْرهِ الفائر الطيّب، تنولدُ فيَّ مشتهاةً مكبوتة أتوسّله فيها وأُخبرهُ أنّ تنغيمتهُ اللذيذة تكاد تُسكرني من دون خمرة فاِركنْ عربتك تحت شرفتي يا شقيقي، وأعدْ على مسمعي الولهان، ترنيمتك الأُمويّة العذبة ألف مرة ومرّات، لكنني أجبنْ وأسكتْ وأكتفي بطعم الزاد والملح، وبابتسامةٍ كأنها عشيرة أُمّهات.

Facebook
Twitter