مجرد إشتباه !! صفحات من كتاب الأيام الغابرة شكر حاجم الصالحي القسم الثاني

لا … أنـــا … مـــولـــود فـــي الســـدة !!

 

 

صحا من نومه فرأى حوله رجالاً بمختلف الأعمار يفترشون أرضية الحجرة الضيقة بأغطية ملونة ‘ ألقى عليهم تحية الصباح فردوا عليه بعبارات موجزة تفوح منها رائحة الشك والريبة ‘ تفحص وجوههم بنظرات عابرة فأستدل من خلال شحوبها  واثار الكدمات والأورام الواضحة فيها على حجم الأذى والمعاناة التي كابدوها ‘ واستذكر في تلك اللحظات ما جرى له على ايدي اولئك الاشرار في دار الاستراحة ‘ حاول ان يمد جسور الحوار معهم إلا ان نظراتهم الغامضة حالت دون تحقيق ما يتمناه ‘ اعاد المحاولة مرة أخرى وسأل الكهل الذي يجلس الى جواره عن سبب توقيفه وعن المدة التي أمضاها في هذا المكان ‘ فرد عليه محمد أمين قائلاً : تهمة سياسية !! وادار وجهه صوب رفاقه القدامى ‘ أحس بحرج شديد ‘ سأله ثانية : ارجوك أين المغاسل ؟ ــ في نهاية الممر … توكأ على الحائط واسند يده الى الارض ثم نهض متوكلاً على الله ‘ فأحس ان آلآم الموجوعين والمعذبين كلهم قد تلبست عظام جسده الذي ادمته سياط الليالي الغابرة وقبضات الشقيين زكي ومحسن في مقهى مهدي الطعمة وفي الطريق الى قبو التعذيب في ذلك المساء الأسود ‘ رش على وجهه كمية من الماء البارد ‘ فسرت في اعضائه رعشة ألم حارق ‘ كفّ عن الأغتسال ‘ ولما نظر في كسرة المرآة المثبتة في الجدار المقابل هاله ما رأى من بقع زرقاء تحت الجفنين وأورام ظاهرة فوق الحاجبين والصدغين ‘ عاد منزعجاً الى مثواه وجلس متقرفصاً فوق فراشه يفكّر فيما جرى له وما سيجري ‘ ولعن الساعة التي أوقعته بين مخالب هؤلاء ‘ وتحسّر على ايامه الغابرة التي قضاها بين  أهله وخلاّنه وتسربت الى أنفه في تلك اللحظة رائحة السمك السداوي الأخاذة التي تفوق على رائحة ( الريف دور ) التي كان يطيّب بها وجهه بعد كل مرة يحلق فيها ذقنه ‘ وأستذكر صاحب علي العبدون الذي غمره بفيض كرمه ورعايته اثناء اشتغاله بمعيته في علوة الأسماك ‘ ولم يفق من سطوة إستذكاراته إلا بعد أن سأله أحدهم عن فعلته التي جاءت به الى هذا المكان وعن مهنته ومسكنه ولم يسترح من عناءاته المتراكمة وأوجاعه الممضة إلا حين أفاض في سرد وقائع ما تعرض له وما رأه من مشاهد دامية في دار الأستراحة التي أصبحت وشماً لا يفارق ذاكرته ‘ وعندما تعرف السائل على ملابسات قضيته طمأنه قائلاً : لا تخف انها مجرد يومين أو ثلاثة وتذهب الى السجن ‘ فالمكان هنا ضيق ولا يحتمل كثرة اعداد الذين يُلقى القبض عليهم ‘ وفي السجن ستكون الحالة افضل مما هي عليه الان ‘ اطمئن ولا تقلق فكلنا في ( الهوى سوى ) !! ولماذا ثلاثة أيام أو يومين هنا ؟ لا بد لك ان تقول كل ما لديك من معلومات وان تجيب على كل الاسئلة التي ستطرح عليك في سرداب المقر وسترى فيه انواع الهراوات والعصي والانابيب البلاستيكية والحبال السميكة والكلابات الحديدية المعلقة في السقف ‘ وستتذوق لكمات أبي العوف وركلات ناجي الأعور وستسمع سيل بذاءات عبد الوهاب ‘ وسوف لن تعود الى هنا كما تذهب ‘ بل ستعود محمولاً على بقايا بطانية ملأتها دماء الضحايا الذين سبقوك ‘ وما عليك إلا ان تحتمل كل ذلك وان تكون رجلاً بكل ما تعنيه الكلمة .. ما الذي تقوله أرجوك ‘ هل هذا صحيح حقاً ؟ صدقني لن يفلت أي معتقل من هذا الذي قلته . انه قدرنا الذي اخترناه بأنفسنا ولن نندم عليه !! ومن قال لك انني أخترت هذا الطريق الشائك ‘ والله ‘ لا علاقة لي بأية جهة ‘كل ما في الأمر انها تهمة باطلة ألصقها بيَ بعض أصدقاء السوء !! كلنا نقول ماتقول عندما نقع في المصيدة ولكن الحقيقة تظهر خلاف ذلك .. على كلًّ سترى ونرى … وقطع حوارهما صوت ضربات متلاحقة على الباب ‘ واذا بناجي الأعور يستدعيه للمثول امام المحقق ‘ يا ستار ..يا ستار ونهض ببطء وسار وئيداً خلف ناجي في ممر ضيق وبعد خطوات اصبح وجهاً لوجه مع رجل ضخم الجثة ‘ مجدوع الانف ‘ يضع على عينيه نظارة سميكة استطاع ان يلمح من ورائها عينه المفقوءة ‘ وقسمات وجهه الحادة ‘ استاذ هذا هو !! دعه . واذهب انتَ الى واجبك ‘ أجلس ايها الــ …. ‘ أحس بالموت البطيء وهو يستمع لشتائم هذا الاستاذ !! ألم أقل لك اجلس يا ابن القـــ ……… ‘ جلس وكل عظامه ترتجف هلعاً وخوفا فقد يتمادى هذا المفقوء العين ببذاءاته الوقحة ‘ ولكن لا يهم فهذا هو معدنه كما يبدو .. ـــ ما صلتك بسيد هادي ( ابو عامر ) ؟ عمي شقيق أبي ‘ هل أنت من السدة أم من قرية السادة؟  طيّب ما الذي دعاك لكتابة هذه المنشورات ضد الحكومة ًـــ وأخرج حزمة ورق من اضبارة سميكة لوح بها امام وجهه ـــ ؟ لم اكتب أي ورقة ضد الحكومة اقسم لك برأس الحسين . ولماذا اعتقلوك اذاٍ ؟ وشاية لا نصيب لها من الصحة . ألم تعترف في السدة بانك كتبتها ؟ نعم .. اعترفت .. نعم ولو كان حضرتك نال كل ذلك الضرب بالقبضات وبالاسلاك الكهربائية لأعترفت ـــ حضرتك انت ــ بكتابتها تخلصاً مما أنت فيه . ـــ لا يمكن ان اصدّقك !! ارجوك انظر في وجهي ولاحظ هذه الكدمات واثار الجراح الشاخصة .. وان اردت ان لا تصدّقني فانا تحت يديك افعل بي ما تشاء ..

دخن سيجارة وسحب ورقة بيضاء وضعها امامه وقال بليونة واضحة :ـــ ضع توقيعك هنا ‘ واشار الى اسفل الورقة ‘ ولم يشاهد سطراً واحداً على مساحة تلك الورقة  الشاسعة … وبعد ان نفذ ما أمر به هذا المفقوء العين ‘ أذن له بالانصراف …

في الحجرة لم يصدق اصحابه ما قاله لهم عن المحقق وعن التحقيق ‘ لكنه أيقن ان عمه السيد هادي توسط له عند هؤلاء ‘ وربما سيطلق سراحه في القريب العاجل ‘ ولكن الامور جرت على غير ما توقع ‘ ففي صباح اليوم التالي حشروا في سيارة قديمة مضت بهم الى بناية كبيرة ‘ أدُخلوا من بوابتها الواسعة الى صفيّن من الغرف المتقابلة ‘ ومنها جرى ايداعهم في مكان ضيق لاتزيد مساحته على عشرة أمتار بعد ان تم تدوين اسمائهم والمعلومات الأمنية عن كل واحد منهم . وفي (( الرياضة الخلفية )) اسم المكان الذي حشروا فيه كان عددهم يربو على تسعة عشر فرداً ‘ بينهم المدرس والطالب والعامل والمعلم والكاسب والعاطل عن العمل ‘ وكان محمد امين الكهربائي الذي يزيد عمره على الستين أكبرهم سناً واكثرهم خبرة في المعتقلات والسجون فهو نزيل نقرة السلمان وسجن الكوت من قبل ‘ وقد تولى ترتيب امورهم الادارية والمعيشية واصبح ممثلهم عند ادارة السجن ‘ وغالباً ما يناكده اسكندر ويكثر من الاعتراض على تصرفاته ‘ وكانوا ينقسمون الى فريقين بعد العشاء ليمارسوا لعبة المحيبس المعروفة ‘ الفريق الأول يتألف من : طالب و محمد و عدنان و هادي و فارس و هاشم و حكمت و لطيف و حمزة ويرأسه طالب ويتألف الفريق الآخر من : حسين و هاني و اسكندر و علي و جواد و شاكر و ضياء و عبد الاله و محمد جواد ويرأسه عبد الاله ‘ ومهما تكن نتيجة اللعبة فلا غالب ولا مغلوب ‘ الجميع يتناولون علب البسكويت المحلّى وبعض الفواكة الطازجة .. استمرت عناءات الرياضة الخلفية اياماً ثقيلة فلم يهنأ المحشورون فيها بأغفاءة مريحة بسبب ضيق المكان ‘ وفي اغلب الاحيان ينقسم الموجودون الى ثلاث وجبات لأخذ قسط من الاستلقاء والراحة ‘ وأغلب ما كان يزعجهم قضاء حاجتهم داخل الرياضة الخلفية امام انظار الآخرين رغم وضعهم حاجزاً من القماش يفصل تلك الصفيحة القذرة عن مكان استراحتهم ‘ ومن الانصاف القول انهم لم يتعرضوا للأهانات التي كانوا يتلقونها في اماكن أخرى ‘ لكن أشد ما كان يضايقهم انتظارهم الممل في طابور طويل للوصول الى المرافق الطافحة بفضلاتها الآسنة وافراغ ما في بطونهم اثناء فترة السماح لهم بالمكوث تحت اشعة الشمس لوقت لايزيد على نصف ساعة تمتد أحياناً الى ساعة كاملة عندما يتولى مراقبتهم الفصيل الأداري في السجن الذي أقام محمد امين مع آمره علاقة حسنة .. ومرة طرح لطيف النداف فكرة الهروب اثناء الذهاب الى الطبابة لكن المقترح جوبه بالرفض المطلق لأستحالة تحقيقه ‘ فالأسوار العالية والاسلاك الشائكة تحيط بالبناية من جميع الجهات وعيون الحراس يقظة على الدوام تترصد حركة كل شيء داخل الأسوار ‘ وكانت افراحهم لاتوصف عندما يحين يوم المواجهة : فأضافة الى لقاء عوائلهم ومعرفة اخبار الخارج فانهم يستمتعون بتناول وجبات طعام أعدتها امهاتهم واخواتهم ويحصلون على مصروف جيب وعلب سجائر تنقذهم من ابتزاز مسؤول حانوت السجن والاسعار التي يفرضها على بضائعه ‘ وفي المواجهة الثانية دهشوا لرؤية مصور فوتغرافي كهل طلب منهم الوقوف لألتقاط صور تذكارية لهم لقاء ربع دينار عن كل صورة ‘ وكالأطفال في العيد سّرحوا شعورهم وارتدوا أجمل مالديهم من ملابس ووقفوا امام المصور الأشيب الذي وثق تلك اللحظات بكاميرته ( الكوداك ) ‘ على أمل الاحتفاظ بها للذكرى في أيامهم الآتية … وفي احد الصباحات الثلجية حضر مأمور السجن ومعه اثنين من الحراس الى الرياضة الخلفية وأبلغ كبيرهم العامل الكهربائي محمد أمين بأرسال كل ثلاثة موقوفين الى الادارة لأغراض تتعلق بتجديد المعلومات الأمنية ‘ ذهبت الوجبة الاولى المكونة من طالب و هاني و حكمت وعند عودتهم اخبروا باقي زملائهم أن الادارة نظّمت لهم صحائف عمل جديدة ‘ استبشر بعضهم خيراً وقال أحد النزلاء من ارباب التجارب السابقة ان ذلك فأل حسن ‘ وعادة ما يسبق اطلاق السراح تنظيم مثل هذه الصحائف ‘ وقال آخر : ان ظروف البلد السياسية تنبيء بحدوث تطورات ايجابية ‘ اذ تناقلت الانباء فشل محاولة انقلابية واعتقال معظم المشاركين فيها‘ مما يتطلب تهيئة اماكن لاعتقالهم ‘ واخلاء سبيل من لم تثبت ادانته من الموقوفين القدامى … وتوالت الوجبات على مكتب الادارة واصبح لكل واحد من نزلاء الرياضة الخلفية صحيفة عمل تزينها صورة شخصية حديثة ‘ مضت خمسة أيام أحس خلالها الموقوفون بتغير أوضاعهم فزادت الارزاق وأتيح لهم المكوث ساعتين يومياً تحت الشمس ‘ واصبحت اذاعة السجن تصل أسماعهم وجاءهم المصور الفوتغرافي الكهل قبل الموعد المتفق عليه ‘ فأعطاهم صورهم التي التقطوها من قبل وأخبرهم عن استعداده لتكبير صور من يرغب بعد اطلاق سراحه وبأسعار مخفضة ‘ ولما سأله عبد الاله عن اسباب كل هذه التحولات في معاملتهم ‘ أجاب بغموض : قريباً تفرحون ان شاء الله … وصدقت نبوءة ابي حميد المصور ‘ فقد جيء الى السجن بموقوفين جدد بملابسهم العسكرية ‘ وجرى ايداعهم في قاعة خاصة لكي لا يختلطوا بالنزلاء والموقوفين الذين سبقوهم ‘ وفي تمام الساعة العاشرة صباح الخامس والعشرين من مايس … زفت ادارة السجن البشرى باطلاق سراح الوجبة الاولى من الموقوفين ومن حسن حظه انه كان من بين هذه الوجبة ‘ وفي الباب الخارجية للبناية العجوز تنفس هواءً نقياً لأول مرة بعد ثلاثة أشهر وتسعة أيام من الفراق والحبس والعذابات النفسية والجسدية المدمرة … ونام ليلته في احضان مدينته الصابرة على انغام هدير فراتها السلسبيل … ( يتبع في العدد المقبل)

 

Facebook
Twitter