لا تثقوا بالولايات المتحدة – 7د. حسين سرمك حسن

تدمير هاييتي وإخراجها من الحياة

قلنا إنّ الولايات المتحدة دمّرت دول أمريكا اللاتينية بصورة مرعبة بالإنقلابات العسكرية واحتضان الديكتاتوريين والاحتلالات العسكرية والقصف والحصار الإقتصادي واستنزاف الموارد وبـ “فرق الموت” وغيرها من الوسائل البشعة التي تسحق حقوق الإنسان وإعلانها ، وفي كل ذلك كانت تدوس قرارات الأمم المتحدة بل تسخر منها وتدعو إلى تغييرها – كما سنرى في حلقة مستقلة – .
وكقاعدة أثبتها التاريخ :
(أي دولة تمد الولايات يدها نحوها يكون مصيرها الخراب والموت والدمار).
لنستمر بالشواهد من أمريكا اللاتينية بعد أن عرضنا تدمير الولايت المتحدة لنيكاراغوا في الحلقة السادسة :
***

كانت هاييتي مستعمرة إسبانية ثم استعمرتها فرنسا . تحرّرت بثورة للعبيد في 1/كانون الثاني/1804؛ العبيد المواطنون الأصليون الذين غيّروا الإسم الفرنسي القديم “سانت دومينغ” إلى إسم (هاييتي) الذي يستخدمه الشعب . تبلغ مساحة هايتي 27،750 كم2، ونفوسها 10 ملايين نسمة. وتعد أول جمهورية سوداء في العالم ، وثاني جمهورية في العالم الجديد.
بين عام 1849 و1913 دخلت سفن البحرية الأمريكية المياه الهاييتية 24 مرة لحماية أرواح الأمريكيين وممتلكاتهم كما تزعم الولايات المتحدة . ثم غزاها الرئيس الأمريكي (ويلسون) صاحب إعلان حق الشعوب في تقرير مصيرها الشهير عام 1915 ، وكان الغزو الأكثر تدميرا ووحشية . قتلوا الناس ، ودمّروا الدولة ، وألغوا النظام الدستوري وأعادوا العبودية . قتلوا 3250 وأعدموا 400 من المقاومين ، وكان العدد الإجمالي للقتلى هو 15000 . نزعوا ملكية الفلاحين ، واستولت الشركات الامريكية على مقدرات البلاد ، وسُمح للأمريكيين بالاستيلاء على الأراضي الزراعية . دمّروا المزارع الصغيرة ودعموا الاقلية المستبدة الثرية وأعادوا الرق وعبودية الاستعمار الفرنسي . ثم فرض الأمريكان دستورا جديدا جرى عليه استفتاء غريب شارك فيه أقل من 5% من السكان وكانت النتيجة 99,9% .
ملاحظة مهمة جدا :
——————–
لاحظ أنّ أول دولة ترعى نتائج الـ 99,99% في الإنتخابات المفبركة هي الولايات المتحدة الأمريكية. 
عودة :
——-
بعد 10 سنوات اعترفت وزارة الخارجية الأمريكية بانها فرضت هذا الدستور بطرق استبدادية. 
وارتباطا بالصحافة الحرّة أيّدتْ النيويورك تايمز المذابح وأكدت على (حق الولايات المتحدة في حماية امننا وسلامنا) (والتدخل الأبوي لإعطاء منافع السلم للشعب المعذّب بالثورات).
ولكي لا نطيل على السادة القرّاء ونصل إلى هدفنا بإيجاز وبسرعة نقول إنّ حاكم هاييتي الذي كان مقرّباً من قلب الولايات المتحدة كان ديكتاتورها – كما كان الحال في نيكاراغوا في الحلقة السابقة السادسة – الذي حكمها بالحديد والنار ، هو وأسرته ، (فرانسوا دوفالييه) (1907-1971) ، وأتصف حكمه بالإرهاب والاعتداء على جميع حريات المواطنين وممتلكاتهم ، وقد جمع بين مساوئ الأقطاع والعصابات الإرهابية. فرض عزلة مظلمة على هاييتي وكان المناصر للولايات المتحدة داخليا وخارجيا . وبعد وفاته في عام 1971 خلفه ديكتاتور آخر صديق للولايات المتحدة هو ابنه (جان كلود دوفالييه) وكان عمره 19 عاماً ، وسار على نهجه في تسليم ثروات البلاد للأمريكان ، وكانت من ضحايا البنك الدولي – المخلب الاقتصادي للولايات المتحدة – الذي اتبع الديكتاتور توجيهاته. وبرغم مذابحه البشعة لم تتحدّث الولايات المتحدة ولا صحافتها عن حقوق الإنسان في هاييتي إلّا عندما وصل الديمقراطيون إلى الحكم . كانت ليلة زفاف الديكتاتور بـ 2 مليون دولار وشعبه أفقر شعب في نصف الكرة الغربي. جمع الملايين من تجارة المخدرات وبيع الأعضاء البشرية من اجسام الهاييتيين الذين يموتون في الشوارع.
مع إزاحة دوفالييه كان الدخل الفردي السنوي لـ 60% من السكان ستين دولارا أو اقل تبعا للبنك الدولي ، ومعدل الوفيات مرتفع بشكل مذهل ، وكان المواطن يهلك في عمل نهار كامل مقابل 20 سنت ! 
في حزيران 1985 تبنّت الهيئة التشريعية في هاييتي بالإجماع قانونا يفرض على الأحزاب السياسية الاعتراف بالرئيس مدى الحياة جون كلود دوفالييه كحاكم أعلى للأمة ، وأقرّ القانون بأغلبية 99,98% .
ملاحظة مهمة جدا أخرى :
————————–
لاحظ من جديد أخي القارىء هذه النسبة 99,98% والرئيس مدى الحياة .
عودة :
——–
أعلن الرئيس الأمريكي أن هذا القرار (قرار الرئيس مدى الحياة) هو : (خطوة مشجّعة إلى الأمام) ، وقال رونالد ريغان لمجلس الشيوخ إن الولايات المتحدة سوف تقدّم المساعدات العسكرية والاقتصادية لدوفالييه بسبب التطورات الديمقراطية !!!
بعد أن اشتدت الثورة الشعبية ضد دوفالييه غادر البلاد وخلفه الجنرال (هنري نامفي) . وهنا بدأ مسلسل فرق الموت . في حزيران من عام 1987 قام الجيش والحرس الوطني (الماكوتس) بمجزرة رهيبة راح ضحيّتها المئات . ولكي يعطل الانتخابات التي تقرر أن تجري في تشرين الثاني من عام 1987 والتي كان من المتوقع أن يفوز بها الأب المناصر للفقراء (جان أرستيد) تم قتل 300 في يوم الانتخابات فتم تاجيلها . واستمر مسلسل التقتيل والتشريد . أعلن السفير الأمريكي :
(لا أرى أي أدلة على وجود سياسة معادية لحقوق الإنسان . صحيح أن العنف موجود لكنه جزء من الثقافة).
بعد شهر هاجمت فرق الموت كنيسة الأب (أرستيد) وقتلت وجرحت أكثر من 150 شخصا . 
تولّى رجل الدين التحرري الشجاع الملتزم بـ (الخيار التفضيلي لصالح الفقراء) الذي ناصره اساقفة أمريكا اللاتينية ، السلطة في شباط من عام 1990 كأول رئيس منتخب ديمقراطيا في تاريخ هاييتي . لكن لفترة قصيرة فقد أطاح به انقلاب عسكري رتّبته الولايات المتحدة في الثلاثين من أيلول من العام نفسه .
أصاب فوزه الشعبي الولايات المتحدة بالرعب لانه لا ينسجم مع نموذجها للديمقراطية.
قال أرستيد : (لا أستطيع قبول فكرة أن على هاييتي أن تكون ما تريده الولايات المتحدة أن تكون).
في أول أسبوعين بعد الانقلاب قُتل ما لا يقل عن ألف شخص ، ثم قُتل مئات غيرهم في شهر كانون الأول . ولم يسجل أحد فظائع القتل في الأرياف . اضطر مئات الألوف إلى الإختباء . وكان الهدف مزدوجا :
أولاً- تدمير المكاسب الاجتماعية والسياسية التي انجزت في عهد الأب أرستيد بعد سقوط الدكتاتور دوفالييه. 
ثانياً- ضمان تدمير كل البنى اللازمة لاحراز هذه المكاسب ثانية بصرف النظر عما يمكن أن يحمله المستقبل السياسي للبلاد .
ولهذا شُنّت حملة لتدمير النقابات والمنظمات التي جلبت أرستيد وانتخبته عن طريق خطف القادة النقابيين  ، قتل الصحفيين ، تدمير الإذاعات ، وتفجير الصحف .
موقف الصحافة الأمريكية المتحرّرة :
———————————–
النيويورك تايمز : (أرستيد قائد متعصب خطر يعتقد أن شعبيته يمكن أن تكون بديلا عن سياسة خذ واعطِ) و (التصريحات المتزايدة الحدّة من قبل الأب أرستيد التي يحمّل فيها مسؤولية فقر الجماهير على الطبقات الأكثر ثراء هي سبب الإنقلاب).
مجلة “فورين أفيرز” : (لم يكن سهلا جدا التمييز بين الديمقراطيين (أرستيد) والديكتاتوريين (دوفالييه) في هاييتي)
قبلها اقترحت النيورك تايمز (زيارة أرستيد لواشنطن قد تدعم صورته كقائد عاقل ملتزم بالديمقراطية يكسب لنفسه مصداقية عند الرئيس بوش).
موقف الشعب الهاييتي البطل :
—————————–
ولكن رغم البؤس والحصار والموت والتقتيل على يد فرق الموت كانت اللازمة التي يرددها الفقراء :
)أبقوا الحصار . لقد أعطانا أرستيد الكرامة والأمل – إننا مستعدون للمعاناة إن كانت ستعيده لنا).
ما الذي قدّمه أرستيد للشعب الهاييتي ؟
————————————-
لقد فاز القس (جان برتران أرستيد) في انتخابات كانون الثاني عام 1990 وتسلم أعماله في شباط 1991 – كما قلنا – بنسبة 67% ، وهُزم مرشح الولايات المتحدة (مارك بازين) وهو موظف في البنك الدولي بعد أن حصل على 14% من الأصوات برغم كل إمكانات الولايات المتحدة وبرغم العنف والتقتيل والتهديد ودور فرق الموت ضد المواطنين ومنظمات المجتمع المدني . ولاحظ أن مرشح الولايات المتحدة كان من موظفي البنك الدولي كما كان مرشحها في نيكاراغوا (راجع الحلقة السابقة).
فما الذي قام به أرستيد للشعب المحروم ؟
انحاز إلى الفقراء . قضى على تجارة المخدرات . قام بالإصلاح الزراعي . خفض معدل الفساد . حجّم البيروقراطية . أوقف تدفق اللاجئين إلى الولايات المتحدة الذين كان يموت منهم المئات في البحر . حجّم العنف .
هنا ثارت الولايات المتحدة وتحت ستار “الديمقراطية” كالعادة ، فأسست منظمات “ديمقراطية” دعمتها بالأموال ، ثم أعدّت لانقلاب عسكري أطاح بالرئيس أرستيد في 1 أكتوبر من نفس العام 1991 أي بعد ستة أشهر فقط من تولّيه الرئاسة. هنا بدأت مسيرة رهيبة لتدمير المنظمات المدنية وتفتيت النقابات وقتل المدنيين المناصرين لأرستيد . كان الناس يُقطّعون إربا إرباً ، وتشوّه وجوههم ، ويُرمَون في الحفر .
فرضت بعض دول أمريكا اللاتينية حصارا اقتصاديا على حكومة هاييتي ساندته الولايات المتحدة (في الظاهر) ثم خرقته حكومة بوش وبعدها كلنتون لضمان مصالح الشركات الأمريكية وتحت غطاء توفير فرص عمل للهايتيين المساكين !!
وبرغم التقتيل والتقطيع والحصار والتدمير عاد أرستيد إلى الحكم بين عامي 1994 و1996 . ثم انتخب ثانية في عام 2001 وفرضت عليه الولايات المتحدة تقديم تنازلات للمجلس العسكري الحاكم بتأليف حكومة مشاركة تضم عناصر المجموعة الاقتصادية (المعتدلة) من مدراء ومالكين محليين لمصانع النسيج ومصانع كرات البيسبول وممن لهم ارتباطات بالمصالح الزراعية الأمريكية . وإذا كان هؤلاء خارج الحكومة فالحكومة ليست ديمقراطية كما يقول الأمريكان . بعد مدّة أصبح موظف البنك الدولي الذي خسر الإنتخابات (مارك بازين) رئيساً للوزراء .
ولاحظ الفارق بين سلوك المناضل وسلوك موظف البنك الدولي :
————————————————————
نُصب موظّف البنك (بازين) رئيسا للوزراء وألقى خطابه باللغة الفرنسية أمام حشد رسمي من رجال ببزات رسمية ونساء معطرات باثواب بيض
أما القس المناضل (أرستيد) فقد ألقى خطابه بلغة الشعب واستلم وشاح الرئاسة من احدى الفلاحات .
إنقلاب أمريكي جديد :
——————–
وبالرغم من موافقته القسرية وتنازلاته التي كان عليه أن لا يقدّمها ، فلم يتم تطويع الرئيس أرستيد تماما لخطط الولايات المتحدة ، ولهذا وضعوا خطة كشفتها وثيقة سرّية من وثائق وزارة الخارجية الأمريكية حول التعامل مع أرستيد تمّ تسريبها وتنص على (إعادة رمزية لأرستيد كخدعة دعائية ، ومن ثم إزالته كليا بعد أن يخف الانتباه العام) وهذا ما حصل فعلاً . فقد تم القيام بانقلاب جديد حيث تم اختطاف أرستيد وزوجته ليلا في عام 2004 واقتياده من قصر الرئاسة ، وهو معصوب العينين وموثق اليدين ، لينقل بطائرة أمريكية إلى المنفى في جنوب أفريقيا. وقد أعلن أرستيد لوسائل الإعلام بعد ذلك بأن الولايات المتحدة خطفته وأجبرته على مفادرة هاييتي .
السلوك الأمريكي الإنتهازي في التعامل مع قضية اللاجئين :
——————————————————— 
وقامت الولايات المتحدة بـ (لعبة اللجوء الإنساني والسياسي) . فحين يحكم هاييتي دكتاتور أو طغمة عسكرية يتم غلق اللجوء في وجه المدنيين والناشطين الهاربين ويُعادون بالقوة إلى هاييتي . وفي اليوم التالي تجد الشرطة هؤلاء الأشخاص وقد تم تقطيع جثثهم بوحشية في الشارع كما يقول نعوم تشومسكي (كتاب أسرار وأكاذيب وديمقراطية) .
في السبعينات فرّ آلاف الناس من الجزيرة المنهوبة بواسطة القوارب لكن موظفي الولايات المتحدة أجبروهم كلهم تقريبا على العودة لأن لا قيمة دعائية لمعاناتهم . في عام 1981 أطلقت إدارة ريغان سياسة منع جديدة ، فمن أصل 24000 هاييتي تم اعتراضهم من قبل حرس السواحل الأمريكيين خلال 1981 – 1991 لم يعط حق اللجوء إلا لـ (11) أحد عشر شخصاً باعتبارهم ضحايا اضطهاد سياسي ، بالمقارنة مع قبول 75000 ألف كوبي من أصل 75000 كوبي لأن الموقف الأمريكي ضد المناضل كاسترو يتطلب ذلك . وفي حكم أرستيد تلاشت طلبات اللجوء بسبب انتهاء الإرهاب (20 طلب لجوء) ولكن بعد الإطاحة به عاد تدفق قوارب اللاجئين ليصل عدة آلاف من الأشخاص سنوياً وتمت إعادة معظمهم برغم الظروف الوحشية التي تنتظرهم . 

 

Facebook
Twitter