دموع النسور

عالية محمد حسن

قصدت ذات يوم احدا لمدن وقد ساورتني الهموم..فقلت في نفسي عللني اسري بعض كروبها هنا وهناك ..فلم يزدني شئ من المناظر الشائقة ،والمظاهر الزائفة إلا انقباضا على انقباض فخرجت اطلب الصحراء مستعيضة عن الرياض والزحمة بالخلاء..فما سرت حتى لاح لي شبح انسان ..فقصدته لعرف سره ..فأذا به شابا كالبدر في ليلة تمامه وكماله أبها من البهاء ولكن المشيب قد جلله واثار دمار قد بانت على جسده.. ناصع اللحية ،تدل خصون وجهه على انه يناهز قرونا من العمر وقد البسه الوقار من حلته بردا يوجب له الأكبار والأعظام ،فتهيبته فكنت مبهورة بالنقيضين الشيب والشباب فتقدمت اليه بخطى حذرة فقتربت منه وقلت السلام عليك ايها الأب الصالح فلتفت وقد ابتم ابتسامة يعصرها الألم ..فطلبت منه ان ارافقه دربه علني اجد تفسيرا لهذه الظاهرة التي اثارت حفيظتي فقال لامانع لدي لكن دربي طويل محفوف المخاطر وانا عليل من دهور حملتني فوق ارادتي فقلت له من انت بالله اخبرني ولماذا يجللك المشيب وانت في ريعان شبابك وارى الحسن قد بلغ منك مبلغه،وهيبتك ورهبتك تدل على انك شخ غير عادي فقد قائلاً :انا مشرق الأرض وانوارها ،انا الحضارة انا العلوم ،انا ركن من اركان الالمعية ،انا اقطاب العلوم بأشكالها انا حمورابي وكلكامش ..فأخذني الدهش لما سمعت بهذه التفاصيل وقاطعته بحرقه وقلت انت كل هذا واراك خائر القوى ،حزين مسلوب الأرادة ،وفيك من الخير مايجعلك سعيد مبتهج متسيد على العالم كله بما تملكه من كنوز ..فقال بأبتسامة ساخرة لقد كنت عرضة لهجمات الكثير الكثير من الكواسر والمغول والفرس وغيرهم وتوغلوا عندي اقوام همجية وعشت لقمة ساغة لأطماع اجنبية كثيرة منذ يوم ولدت وليومنا هذا ..فأغرقت عيناه الدموع من الم وحرقة وحين نظرت اليه على هذا الحال جللني العرق خجلا وجمد دمي وجلا ً فقلت له وانا امسح على كتفه بيد مرتجفة لا عليك ايها الأب الصالح..فقال والله ما بكيت ابدا طيلة حياتي مهما تلقيت من هجمات واطماع لكني ابكي اليوم لأني كنت اظن بأني سأتنفس الصعداء واعيد امجادي على يد اولادي واحفادي واهلي واحبابي فقد تراصوا عليّ تراص الذئاب اذا ازمعت الوثاب فتحتشد الطوائف من كل حدب وصوب يترامون بالنار يقتل بعضهم بعضا وينهب بعضهم بعضا لقد هدموا المدنية ،واثاروا الفتن والطائفية وحرقوا العلوم وشوهوا الصناعات لا تنهض بجهودهم امة ولا يقوم بهم علم، غوات اباحيون ،ناعمون مترفون ،نفوسهم عمارتها الدعارة والقبح ،يندسون كالأفعى بملمس لين وناب عاطب ينفث السم ويتوارى، عاثوا في الأرض فسادا مختلفين الأراء والمذاهب صاروا اصنافا وفرقا ،يسكنون مدن شاهقة وقصور ،وشوارع متلألئة بالنور ،ومركبات غاديات الرواح ،وسيارات سوانح وبوارح ،اخلاقهم مبتذلة وادابهم منحطة ،ضيعوا اموالي وهدموا اعماري بنفوس عمرتها الهواجس ،وصدور عشعشت بها الوساوس ،نياتهم فاسدة ،اقتادوا الى المقتضيات البهيمية ، فلا يزالون بصراعهم على المقاعد على حالة توجب الأسف ،يأخذون فوق حاجتهم ويتكلفون ما وراء طاقتهم يتظاهرون في ذلك ولا يخجلون ،بل يعدونه مما يتنافس فيه المتنافسون ويتباهى به المتباهون .لقد استوت عندهم حالات الحياة وسقطت جميع الفواصل بينها ايقظ مايكونون اذا نامت عيونهم ،ووقفت حواسهم ،قد خلصت ارواحهم من سجن المادة فأصبحت اجسادهم مطايا لهم يعتملوها كما يعتمل احدنا الدابة ،أي مدنية هؤلاء سيبنون ونفوسهم اضاعت الناموس .
رأيتني بعد كفاح الأبطال الطويل ومناظرة الأقران ، ومقارنة الخصوم في السياسة او في العلم او الأعمال في حاجة الى مخلوق خيالي بالغ اقصى درجات اللطف والدعة ليلطف من شرتي ويهدأ من جيشاني ويجتذبني بما اودع فيه من الحوادب من عالم المخاصمات والمقارعات ،الى عالم الهدوء والسكينة لأفرغ الى ذاتي ولو سواد ليلتي واعود الى اعمالي في اليوم التالي بأكثر قوة واكبر نشاط
فقد اخذت يديه بين يدي وقبلتها وقلت له ايها الشيخ الصالح ..انت العراق نعم هو انت ذاك العراق.. هيهات ..هيهات ..هيهات ياعراق متاع قليل ثم تصيبهم المثلات ،وتحل بناديهم القوارع ، وتأخذ بمخنقهم النوائل عقابا على مافرطوا وافرطوا، والنظام الوجودي يأبى ان تتسرب ذرة من الخلل الى بنائه فلا يعذر جاهلا على جهله ،ولا يطاول مفتونا في فتنته ولو كشف لك عما تحت هذه الحلل المزركشة ،والأكسية المطرزة ،وما في باطن هذه الأجساد الممردة، والخدود الموردة .من جراثيم الأدواء العضالة ،واصول العفونات القتالة لوليت منها فرارا وملئت منها رغبا
لا تحزن ياعراق، ان للقديم فضلا لا ينكر ،وللحديث شأنا يؤثر ،ان مهد الأنسانية وعش الحقائق الأولية هي اصولك وتقاليدك وعقائدك ولغتك ومنك درجت شخصيتنا وبك تمثلت انسانيتنا ففي نسيانه ،نسيان الاصول وهجر العقائد ،وأماتة اللغة ،وفقد لصورة الماضي التي لا مسرح لنفس انسانية ألا منها ولا مرتاض لعواطفها ألا بها، فنكون كأننا خلقنا الساعة كهولا بغير طفولة او شيوخا بغير كهولة ،لا يرتبط الحاضر بالماضي في اذهاننا برابط ولا يجمع بين اثار انفسنا جامع فنكون كاننا سقطنا من السماء فجأة ،ونبتنا في  الارض لغته ، والانسانية لا تحيا الا بأولها ، ولا ترقى الا بتاريخها ، انت الاول يا عراق ، وانت الاخر يا عراق ، وانت التاريخ يا عراق ، لن يدخل تاريخك اليأس ابدا يا عراق .. فكن هكذا

Facebook
Twitter