خالد محمد ناصر الناجي علي السوداني

وهذه حكايةٌ موجعةٌ مستلّةٌ من سِفْر حكايا أهل بلاد ما بين القهرين . إنه جبلٌ ضخمٌ من قهر عظيم ، لو أنزلتهُ على ماخور أوباشٍ قساة عتاة ، لخرّوا إلى الأرض ساجدين راكعين متطهّرين متخفّفين خاشعين من طعم المصاب . جرحٌ عتّقتْهُ الأيام والليالي السود المسخّمات ، حتى كاد الرائي إليه يسمعهُ يصيح ويئنّ .
قبل ثلاثٍ وعشرين سنة من آنكم الذي تحيون ، كان الوحش الأمريكيّ النغل ، قد انتهى من ترتيب دكّة الفرجة لواحدةٍ من أخسّ محارق الدنيا . صاروخان عاتيان أنتجهما العقل الأمريكيّ المريض ، نزلا على هام ملجأ وملاذ العامرية المشهور بكرخ بغداد ، النغل الأول صنع فوهةً برأس المكان ، ليصيح بالنغل الثاني أن انزل عليهم بأمان ، وأقم للسيد المبجّل بوش ، حفلة شواء منتظرة ، أعباقها تسيّح الحلوق وأضواعها تهيّم الخشوم . فجريّتها الغولة ، انشوى كل أوادم الملجأ المحرقة ، لكنّ قوة المصادفة تعاونتْ مع قوة القدر ، فانولدت فيزياء معجزة قد لا تثنّى أبداً . انقذف من بابٍ محظوظ من بيبان الملجأ ، جسدٌ غضٌّ مازال يلبط عند مفتتحات سنوات البهجة الممكنة التي ختمتْ تواً سلالم الدار دور نار نور ، وتمّ نحت اسم خالد محمد ناصر ، في ذيل دفتر المحرقة بوصفه الناجي الوحيد . شالت الناس المذهولة الجسدَ البكر وزرعته ببيت عمٍّ وخالٍ . كان بمستطاع خالد صبحيتها ، أن يشمّ مما يشمّ ، رائحة شواء أجساد العائلة وهي تصعد مرقاةً عتبتها بباب العامرية ، وذروتها بباب الله . شبَّ الولد عصامياّ نقياً كاداً كادحاً منسجماً متناغماً مع وحشته حتى صار طبيباً ، وقبل أن يعلن رأسهُ الشريف عن شيبات الفحولة ، جاءت به الدنيا الغدارة وشتلتْهُ بحلق سيّارةٍ ملغّمة مفخخةٍ ، لتنهي آخر فصلٍ من قصتهِ المدمّاة .
سأطلب وأتوسّل صاحبي الموهوب سومر الهنداوي ، ناقل الواقعة وراويها وساقيها بسواخن الدمع ، أن يصنع للفتى المظلوم أو لحكايتهِ ، تمثالاً ينبت بباب العامرية ، أو عند أعتاب متحف الهولوكوست الرافدينيّ الذي تعسّرت ولادته حتى اللحظة .
سألحّ على أهل السينما أن يعملوا للفتى الشهيد ، شريطاً كتابتهُ لا تحتاج إلى سيناريو أو مؤثرات ومهيّجات ألم .
سأتمنى على صاحبي الترجمان الذي زعل عليَّ لأنني تفلتُ بوجه أمريكا القبيح ، تفلةً عملاقةً ما زالت تسيحُ وتهلهل ، أن يأخذ مكتوبيَ هذا ، ويرميه بأحضان البوشين الأب والإبن وما حولهما من فوائض المنغلة ، ويبشّرهما بنبأ موت الناجي الوحيد من محرقة انثلمت بهجتها بمعجزة كانت أقوى من صاروخ المخازي .
خالد حبيبي
أرجوك ، لا تحزن ولا تهن ولا تغضب . سترى عائلتك هناك في جنة الربّ ، وقد استبدَّ بها شوقٌ هائلٌ لوجهك النبويّ .
رحلتك السماوية هذه ، ستكون من دون فيزا ولا شرطة تنبش حقيبتك طمعاً في أغنية ، وتمسحُ مخّك بحثاً عن أُمنية مؤجلة .
ستهدهدك أُمّكَ الرحيمة وتنيّمك بترنيمة عتيقة ، كنتَ سمعتَها منداحة من فمها الطهور ، قبل حينٍ من دهر العامرية
دللّوووووول يالولد يا ابني دللّول
يُمّه عدوّك عليل وساكن الجووووول
نمْ يا صديقي الجميل . سنلتقي هناك ونسولف . هذا وعد أكيد .

Facebook
Twitter