لعله من سخرية الأقدار، أن يجد فيلق الدبلوماسيين الأميركيين أنفسهم –منذ أسابيع وحتى الآن- يتصارعون مع "أخطاء مبكـّرة" ارتكبوها في بداية احتلالهم للعراق. وحسب محللي صحيفة أميركية، فإنّ البيان رقم (1) الذي أصدره الحاكم الأميركي بول بريمر، سيبقى –ولسنوات طويلة- سبباً للنزاعات بين العراقيين!. وربما هذا هو بعض أسباب ظهور المسؤولين الأميركيين، ومبعوثي الأمم المتحدة، وكأنهم "أكثر تصميماً" على حل الأزمات الأخيرة من المسؤولين العراقيين أنفسهم. إن إحدى الطباع المنفلتة للسياسيين الأميركيين الذين تعاملوا مع العراق، كشفت أنهم يمكن أن يحاربوا جهة ما، أو ظاهرة، ثم يطلبون "ودّ" تلك الجهة، أو يتبنّون الظاهرة التي حاربوها. وأكثر ما يشغلهم الآن فكرة أو قضية "الشرعية" التي يعتقدون أنها أربكت العملية السياسية كثيراً. وما لم يكن يفهموه منذ البداية، إمكانات التغيير، فبعض العراقيين، حاربوا فكرة "الشرعية" لسنوات، لكنهم الآن "جزء حاسم" في العملية السياسية من خلال دوائرهم الانتخابية، وفي الغد القريب من خلال مواقعهم في السلطة. وتقول صحيفة النيويورك تايمز إن بول بريمر وبعد خمسة أيام من تعيينه حاكماً للولايات المتحدة على العراق في شهر مايس 2003، أصدر مجموعة أوامر ممزوجة بالغطرسة الإمبراطورية لرجل متحيز لجزمات القتال التابعة لبيروقراطية المحتل، وأول هذه الأوامر "اجتثاث البعث" العملية أطلقها واستمرت مشاكلها حتى اليوم. وبحسب الصحيفة، فان المصطلح لا يعبر عن اسم العملية بكلمة أخرى في اللغة الإنكليزية، سوى (de-Baathification). ولكن بول بريمر الذي بدا دوما بأنه منغمس بنزعة العراقيين المفترضة للسلطة، لم يفهم أبدا لغة البلد الذي "ورثه". وبالعربية -وهي لغة اكثر تصويرية- فان الكلمة التي استخدمت كانت "اجتثاث"، وهي تعبر عن الاستئصال. وبرأي محللي الصحيفة: كان الأمر رقم 1 البداية التي يجب الآن أن يكون لها نهاية، وهي قريبة الشبه من الوجود الأميركي في ارض تسعى بشكل اخرق لتسبك صورتها الخاصة. وهذه الأيام كما تصورها صحيفة النيويورك تايمز هي المساوية لغسق أميركا في العراق، فبعد سبع سنوات من الغزو والاحتلال والإدارة لبلد لم يكن يتمتع بسيادته فعليا كما زُعم، فان الولايات المتحدة تغادر الان. وهناك حروب أخرى لتخاض، بعد كل شيء. ولكن أصداء الأمر رقم 1 يبرز حقيقة غير مريحة لإدارة اوباما مع اقتراب العراق من انتخابات 7 آذار التي ستقرر من الذي سيحكم بعد مغادرة الولايات المتحدة. والآلية المتصدعة للديمقراطية التي ساعدت أميركا كيفما اتفق في بنائها في أيام بول بريمر تبدو محتمة لوقت طويل بعد أن يذهب الجنود، وستكون الأمور بحاجة الى التدخل الأميركي خشية أن يُدفع البلد الى الترنح. ولسنوات مقبلة، وبكلمات أخرى، فان فيلق الدبلوماسيين الأميركان في بغداد سوف يتصارعون مع أخطائهم الخاصة، وكخلاصة الأمر رقم 1. وفي هذا السياق يقول السفير الأميركي في بغداد كريستوفر هيل: "إنها سخرية لاذعة، تلك التي يعود العراقيون في بعض الأوقات إلينا بقدر معين من الاستساغة، ليقولوا: ((إنكم قد ارتكبتم الأخطاء من قبل، فلماذا تعتقدون بأن غيركم سيقترفها مرة أخرى؟)). وبحسب النيويورك تايمز فليس هناك نقص في السخرية في العراق، فبعضها تبلغ حدود السوريالية. وفي سياسات اليوم، فان حزبي البعث والشيوعي اللذين يتحدّثان باللغة العلمانية، باتا مألوفين أكثر للأميركيين. لكن الأميركيين قد منحوا السلطة الى الأحزاب الشيعية الدينية. وتضيف الصحيفة قولها: لكن الأمر رقم 1، قد يكون السخرية الأكبر، فقد كان الخطوة الأولى في تصميم نظام يقبل سياسة حافة الحرب، مسكون من واحد من الرموز المنفية الذي جاءت به الولايات المتحدة الى السلطة. وفي ذلك النظام، ربما تستطيع الولايات المتحدة فقط أن تقوم بدور الوسيط خلال الأزمات والاخفاقات. إنها نتيجة أزمة المشكوك في صحة نسبهم ولكنهم غالبا ما يستشهدون بقاعدة الدكان الخزفية: أنت تكسرها لانك تملكها. وفي هذه الأيام حيث يقترب الانسحاب العسكري من العراق، فان المثل الملائم يجب أن يكون: أنت بنيتها، فأنت تملكها. ومن الجدير ملاحظة كم تغير الدور الأميركي في العراق خلال هذه السنين. وفي سنة 2003 اظهر المسؤولون الأميركيون –كما تقول النيويورك تايمز- قدرة منفردة لتنفير الناس. وأحد المسؤولين الأميركيين، بالعودة الى ذلك الوقت وحتى أصدقاء أميركا الذين يتصببون عرقا في الصيف، متعجبون بعدم كفاءة ممثليهم: هل حقيقة كان هو البلد الذي هزم صدام حسين بأسابيع قليلة؟. وفي هذه الأيام – يتابع محللو الصحيفة حديثهم- يعتبر كل الناس تقريبا الولايات المتحدة حكما مستبدا ، والسياسيون العراقيون ينتصبون مثل الشعائر الدينية حينما تتدخل ولاسيما حينما تمضي على الضد من مصالحهم. ولكنهم حتى مع اعترافهم بالدور الذي تلعبه، وهو الدور الذي نما ببعض الطرق حتى مع انفراد إدارة اوباما بان العراق لن تكون حرب هذه الرئاسة. والازمة حول اجتثاث البعث التي بدأت في الشهر الماضي هي مثال رئيس. واللجنة التي بقيت وريثة لأمر بريمر منعت 511 مرشحا برلمانيا لصلاتهم بحزب البعث. وانتقدت الرموز العلمانية والطائفية هذا التحرك باعتباره تسجيلا للانتصارات من الأحزاب االطائفية الاخرى. وتزعم هذه الأحزاب أنها ببساطة تتبع القانون، والتي تتجه هذه الأيام لكي تترجم بطريقة مرنة ولا شفافة. وهذه الأحزاب تناولت بسرعة سعيراً مضاداً للبعث كسخرية كما كانت فعالة بين جوهر مصوتيها. وعبر المسؤولون الأميركيون عن تحذيرات بالقلق، وعملوا بعد ذلك بحماسة وراء الستار للعثور على حل ، كل ذلك ويدعون في كل وهلة بعدم تقويض السيادة العراقية. وقال السفير هيل: ((ليست لدينا السلطة لكي نكون الفارس الموجه ونقول للعراقيين: هذه ليست الطريقة التي تبحثون عنها، انتم تستطيعون المحاولة ولكنها عادة لا تعمل)). ويضيف هيل لاحقا: ((هذا البلد من النوع الذي إنْ لم تكن فيه فعالا، فإنك لن تكون هناك، وشعبه لا يريد أن يرى أنك مهتم)). وتشدّد الصحيفة على القول: ثمة أوقات بدا فيها المسؤولون الأميركيون، ومبعوثو الأمم المتحدة اكثر تصميماً على حل الأزمة من المسؤولين العراقيين أنفسهم. وفكرة الشرعية أربكت طويلا العملية السياسية في العراق.وخلف الأزمة قيل أن بعض العراقيين سريعا يتربصون بالأميركيين. وطالب على اللامي مدير هيئة المساءلة التي منعت المرشحين، السفارة الأميركية، بأنها ((يجب أن توقف تدخلها وضغطها)) وحذر رئيس الوزراء نوري المالكي بشكل حاد السفير الأميركي هيل بعدم تجاوز موقعه. وهؤلاء في الجانب الخاسر اتهموا الأميركيين بعدم عمل اللازم. والى الان، مع خوفهم أو توقعاتهم، فان معظمهم ينظر للأميركيين باعتبارهم اللاعب المتفرد بالسلطة للتدخل في العملية السياسية حيث تبدو الأزمة كنموذج. وكان ذلك الإعجاب في بعض الأوقات بالقوة الأميركية اكبر مقارنة بما كانت تستطيع تلك القوة فعله، وبقي أن نرى ما إذا كانت الولايات المتحدة تستطيع التقليل من حدة تأثير الأزمة على مصداقية الانتخابات. وقال النائب المستقل والمرشح حاليا قاسم داود: ((يحتاج العراقيون للأميركيين كوسطاء)). وليس بعيدا جدا غرباء، فان أميركا قد تجد درسا متزنا في جسم سياسي تم تشكيله من محتل آخر. وفي السياسات البيزنطية حتى بمقاييس الشرق الأوسط –تقول صحيفة النيويورك تايمز- فان الطوائف المتنافسة في لبنان؛ كالمارونيين الكاثوليك، الأرثوذكس، السنة، الشيعة، الدروز، تصارع من اجل التساكن تحت فكرة الإجماع. وهذا الأمر تقريبا زائل دوما. وبدلا من ذلك، فان السياسات تحصيلها الصفر عبر المشهد الذي هو بكلمات المهندس هناك لا يوفر "ضمانات للبقاء" للمجتمع . ولسنوات بعد الحرب الأهلية، فان سورية غالبا سادت كقوة متحكمة مستبدة في النزاعات. وفي سنة 2005، فقد انسحبت، ومنذ ذلك الوقت، فان النظام اللبناني بدون صانع ملوك قد بقي لسنوات أخرى في ورطة من عدمه. والقليلون يفتقدون السوريين هناك، ولكن الكثيرين يفتقدون الاستقرار. وقد لعب بول بريمر ومسؤولوه دورا حاسما في تشكيل نظام سياسي عراقي معطر بعلامة اللبنانيين بـ الاعتراف . المحاصصة ملزمة، والسلطة متكرسة على خطوط النزاعات العرقية والطائفية، وغالبا ينتج الإخفاق الكامل مع كل طائفة ترى السياسات هي أن الفائز يأخذ كل شيء. وقد حلت فقط حينما أدى ضغط صانعي الملوك إلى حل الدقيقة الأخيرة. وفي حمرة أفق الأميركيين في العراق، فان الدور الإمبراطوري للوسيط، هو في نظام يثبت الان عدم نجاحه، ولازال يتعلق به .وقال نائب الرئيس جو بايدن في بغداد في الشهر الماضي أثناء أزمة اجتثاث البعث: ((أنا لست هنا لحل الأزمة، فهي متروكة للعراقيين للقيام بذلك ولست أنا)). لكن ذلك يبدو محض كلام اطلق للاستهلاك الاعلامي فحسب فالماكنة الاميركية الاحتلالية مازالت تصنع بيادقها وتظهرهم في الوقت الذي ترتأيه.
- info@alarabiya-news.com