عواصف البياض وأحضان الشرق الدافئة عبد الرزاق الربيعي

من نافذة الطائرة المتجهة من مسقط إلى باريس ، فإنّ أكثر مشهد يلفت الأنظار، مع دخولها الأجواء الأوربيّة ،إذا كانت الرحلة نهاريّة ، كما هو الحال مع رحلتي ، منظر البياض الذي يطرّز قمم السلاسل الجبليّة ، ولا يفصل بينها، والنظر سوى أكداس الغيوم التي تسير كقطيع أغنام بيض ،كان ذلك المنظر ساحرا بالنسبة لمن نشأ ، وعاش في منطقة استوائيّة حارّة ، فجأة خطر ببالي الطيّار الفرنسي الكاتب انطوان دي سانت اكزوبري ، وبخاصّة كتابه ” أرض البشر ” الذي يقول به “إن الأرض تفيدنا عن أنفسنا أكثر مما تفيدنا كل الكتب، ذلك أنها تقاومنا” ويتحدّث به عن رحلاته ، ويذكر حادث هبوط اضطراري حصل له في منطقة جبليّة تغمرها الثلوج ، ومعاناته ، من البرد ، والجوع ، وحتى العطش ، خلال تلك الأيّام التي أمضاها ضائعا ، يتشبّث بأمل واهٍ للنجاة ، حتى العثور عليه من خلال عمليات البحث التي كان يجريها رفاقه ، ومن المفارقات إن اكزوبري ، فقد حياته في رحلة أخرى عام 1944 ،وانقطع خبره ، ولم يتمّ العثور على رفاته إلّا عام 1988 م على الساحل الفرنسي قبالة مرسيليا حيث سقطت طائرته بعد هبوب عاصفة ثلجيّة ، واصطدامها بأحد الجبال الثلجيّة ، أبعدتُ عن بالي المصير الذي آلت إليه طائرة اكزوبري ، وواصلت استمتاعي بما أشاهد من مناظر طبيعيّة جميلة ، تتوشّح بالبياض الذي يظل بالنسبة لنا رمزا للنقاء، والصفاء ، حتى بدأ الظلام يحجب الرؤية ، ولا يستطيع الناظر أن يرى سوى ظلال شاحبة لجبال بعيدة غارقة في بحر الوجود الذي يبدو لا نهائيّا ، أغلقت عينيّ ولم أفتحهما إلّا بعد أن أعلن قائد الطائرة عن قرب الوصول إلى  مطار “تشارل ديغول ”  ، وما أن بدأت  الطائرة بالهبوط ، حتى تحوّل سحر  المشهد الذي كان يبهرني في الأعالي  إلى واقع ثقيل ، ففي مثل هذه الأيّام التي تشهد تساقط الثلوج يكون الاستنفار العام في المناطق التي تشهد هبوب العواصف الثلجيّة في أقصى حالاته ، خشية وقوع حوادث سير ، وتدهور مركبات بسبب تزحلقها ، لضعف احتكاك إطاراتها بالأسفلت ، لذا تفرض بعض الدول الأوروبيّة التي تشهد  تساقط الثلوج بكثرة على سائقي المركبات أن يضعوا لمركباتهم إطارات خاصّة تقاوم الإنزلاق كما هو حاصل في السويد ، والنرويج ، والمانيا ، وفنلندا ، والدنمارك ، أمّا في فرنسا ، فالأمر متروك لأصحاب المركبات ، لذا حين واجهتنا عاصفة ثلجيّة ، أنا وصديقي “عبدالعزيز النجدي” الذي كان يقود المركبة ، في طريقنا لبلجيكا ، أحسستُ بحالة الإرتباك التي داهمته ، خشية الإنزلاق ، وبالفعل حصل إنزلاق أكثر من مرّة رغم سيره البطيء ، ومهارته في القيادة، وكانت مركبات الخدمة التي تكشط الثلوج قبل تراكمها ،وترشّ الملح لتساعد على إذابته، تمارس عملها بنشاط ، رغم إنّها كانت تعرقل حركة المرور بسبب بطء حركتها ، لكنها كانت تعطي شعوراً بالإطمئنان ، وشيئاً ، فشيئاً ، بدأ سحر البياض الذي يفرش مناديله على قمم الأشجار، والشوارع، والبيوت، وزجاج المركبات ، والحشائش، يتراجع إزاء الخطر المحدق الذي يسبّبه ، والذي يصل إلى درجة أن يسبب تجمّد الأطراف ، والإصابة بـ”الغنغرينا ” فيسارع الأطبّاء إلى بتر العضو المصاب سريعا ، ومثلما ينصح الظمآن بشرب الماء على شكل جرعات ، فإنّ على الذي يتعرّض للإنجماد أن يتدفّأ بلفّ العضو المنجمد ببطانيّة ليفقد البرودة شيئا ، فشيئا ، ويكون الإرتماء بين حضن ً دافىءعلاجاً ناجحاً لمثل هذه الحالات ، وإذا لم يحصل سيء الحظّ الذي يحدث له مثل هذا الإنجماد ، عند عاصفة ثلجيّة ، فإنّه سيكون في حالة خطر محدق !

هذا الخطر الذي رصده اكزوبري في “أرض البشر” وهو يقول” في الثلج يفقد المرء غريزة الحفاظ على الذات فقداناً تامّاً ” كفيل بأن يجعلنا نحلم بأحضان شمسنا الدافئة ، وإن كان ذلك الدفء حارقا أيّام الصيف بخاصّة في منطقة ملتهبة كمنطقة الخليج لدرجة تجعل سكّانها يحلمون بالبياض الذي لا يخلو من شرّ!.

Facebook
Twitter