يا شاعر إيقاعات النمل.. هل نراك ثانية أيها الأسمر الجميل؟


الى :روح صديقي الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر
جميل حمادة

لن يجيء محمد إلى ليبيا ثانية.. صار الأمر صعبا قليلا؛ أليس كذلك؟ وربما لن نراه في فلسطين. فقد مضي محمد عفيفي مطر.. مضى إلى أفق بعيد ومستحيل. مضى الشاعر الصديق، الشاعر الكبير المناضل محمد عفيفي مطر.
قال لي: يا جميل ماذا تفعل بأطفالك.. أنت لست وحدك، لا تستقيل، لن يعينك أحد ولن يهتم لأمرك أحد.. هذا هو الوطن العربي..”! وكنت في ذلك الوقت من عام 1992 على ما أذكر قد أردت أن أستقيل من وظيفتي في برنامج الأمم المتحدة الانمائي بسبب موقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحاصرته لأطفال العراق فيما عرف بعد ذلك “برنامج النفط مقابل الغذاء”.
أضاف قائلا: يا صديقي لن ينظر إليك أحد ولن يبالي بك أحد. أمة متعبة.. أمة مغيبة مهزومة.. دعك من ذلك، لا تضيع نفسك وأبناءك. وأنت فلسطيني.. أين ستذهب، ومن سيقبل بك. وخليك في عملك.. أنت لن تغير العالم باستقالتك” احمد ربك أنك في ليبيا”.
حمدت الله حقا ودائما، واستمعت إلى نصيحته الجليلة، وبقيت مع أطفالي وفي وظيفتي. حين عرفنا عليه الصديق الشاعر علاء عبد الهادي والدكتور عبد الهادي عبد الرحمن “شفاه الله” فرحنا كثيرا. أذهلنا صمت محمد عفيفي وقتلنا حزنه الكبير الذي لا يكف. في عام 1992 تقريبا، – إذا لم تخني الذاكرة، وهي كثيرا ما تفعل – ذهبنا جميعا إلى مهرجان شعري كبير في مدينة “البيضاء” الليبية. وهناك كان الفرح والحزن معا يجتمعان جنبا إلى جنب. نغني ونبكي حصار العراق.. وقتل العراق.. خاصة وأنه عاش في العراق سنوات جعلته يعشق العراق وهو يرى فيه شعلة المستقبل، وطريق التحرير.
ألقى يومها قصيدة شهيرة له، وكان قد بلغ الخمسين من عمره، فسماها “خمسون” التي يقول في آخر جملة فيها مفعمة باليأس الكبير “وهي خمسونك الأبد”.. استمعنا إليها بكل جوارحنا وآلامنا وهواجسنا. ثم ألقيت أنا قصيدة مطولة عن العراق كان اسمها “القصيدة التي نسي الشاعر عنوانها”.. فنالت اعجابه واعجاب الجمهور العربي والليبي في ذلك المهرجان. لم أعد أتذكر حجم الفرح الذي انتابني حين علمت بأنها حظيت باعجاب محمد عفيفي.. فرحت كطفل، وهو يمد ابتسامته الغامضة المشوبة بحزن خفي.. بعينيه الداكنتين الغائرتين وشعره الأشعث، وكان يحاول محمد أن يضحك.
في مدينة “البيضاء” ضحكنا كثيرا ..ربما لم يضحك محمد عفيفي مطر مثل ذلك من قبل. والفضل يعود في المقام الأول لصديقنا الدكتور عبد الهادي عبد الرحمن، ثم لي أيضا.
بعد ذلك بدأنا نسمي أنفسنا بأسماء آلهة أسطورية، ثم طورناها لآلهة “محلية”.. اخترعتها أنا والدكتور عبد الهادي عبد الرحمن، مثل “إله الدخان”، إله السجائر، إله النوم، إله الكسل.. وهكذا.
ثم بدأ محمد يشترك معنا في اختراع تسميات الآلهة.. كانت تلك بعد أن قال محمد عفيفي “ما هذا الضجيج الذي أسمعه في السموات؟” فقال الدكتور عبد الهادي، يا سيدنا هذا إله الغرف يقوم بجولة تفقدية على غرف المشاركين في المهرجان..! ثم بدأنا نطلق الأسماء على أصدقائنا ثانية؛ هذا إله الشعر، هذا إله الأرشيف، هذا إله الضحك.
هذا إله الحمامات، ذاك إله الأسرار.. وهلم جرا. ضحكنا يومها كثيرا.. حتى شعرنا أننا انتزعنا محمد إنتزاعا من ثوب حزنه القاتم، وتراه حاول جاهدا أن يبين لنا أنه يدخل معنا في ذلك المناخ الاستثنائي من الهزار..!
كنت أشعر أن محمد أخ كبير بالنسبة لي.. أشعر أنه يشبهني أو أنني أشبهه.. كنت أحس كأنني كبرت معه في مخيم الشاطيء الفلسطيني، فمحمد عفيفي كان فلسطينيا أكثر من بعض الفلسطينيين. كانت فلسطين تسكنه من رأسه حتى أخمص قدميه، مثل بغداد.
وهو بشعره الأشعث تشعر أنه أينشتاين القصيدة العربية الفريدة.. عندما أنجزت مجلة الناقد ملفا عنه، على إثر اعتقاله، وجدت كل الشرفاء يريدون أن يكتبوا عنه، وقد فعل جلهم، وكان ملفا واحدا لا يكفي. قلت له أخي محمد أريد أن أشتغل دراسة نقدية عن أعمالك الأخيرة.. فقال لي والله يا جميل معنديش نسخ
لكني سأحاول أن أحصل لك على بعضها. وكان محمد صادقا كعادته فجاءني بمجموعة “إيقاعات النمل” و “يتحدث الطمي”. كتبت شيئا حينها حول مجموعته “فاصلة إيقاعات النمل” ولم أدري أين نشرته؟
وفي عام 2005 تقريبا قامت مجلة المؤتمر بتنظيم أمسية شعرية لمحمد عفيفي مطر، وللشاعر هشام قشطة.. مع عدد من الشعراء الليبيين، وكانت أمسية بديعة.. قمنا بتغطيتها .. ووعدته بأن أرسل له تلك المتابعة.. وقد حاولت كثيرا، وتحدثت معه بالهاتف، وقلت له أن المتابعة جاهزة وقد نشرت في دوريتين.. وسأحاول أن أبعثها لك.. قال لي: شكرا يا جميل يا ريت تحاول.. قلت سأفعل.. ولكنني أخفقت كأي عربي. فقد صعب لي محمد المسألة.. قال: يا جميل أنا لا أخرج من قريتي كثيرا.. إلا في حالات استثنائية..”! مازالت قصيدته لدي، مازالت “أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت” لدي بخط يده.. إنها موجودة .. ولكنها في حاجة إلى مزيد من البحث والتمحيص…!
وكان محمد قد ترك شقته الخاصة مضافة لأصدقائه من الشعراء الذين يجيئون من كافة أنحاء الوطن العربي لزيارة مصر، لكي يقيموا فيها ويسكنوا ويأكلوا ويشربوا، دون أن يدفعوا قرشا واحدا، وهو ليس أغنى منهم في الأغلب الأعم. وكان بامكانه أن يستثمرها أو يستفيد منها على نحو ما، ولكن محمد عفيفي لم يكن أبدا من ذلك النوع من الشعراء. كان محمد زاهدا كبيرا، أكبر من هذه الصغائر والشهوات والاحتياجات الدنيوية التافهة.
كان هو الأنقى والأكثر نزاهة وصوفية وسموا. وهو قابع هناك في المنوفية في قريته النائية المتواضعة العتيقة “رملة الأنجب” لا يلوي على شيء.. فقد انتهت الاحلام وابتعد الشعر وتلاشى الفرح..؛ عندما ابتعدت أطيافه حيث يموت الأطفال هنالك خلف الجدار الفولاذي، وعلى ضفاف دجلة.. وفي أزقة بغداد قريبا من الرشيد، ومن السياب ومن جواد علي ومن المتنبي ومن جسر الكرخ الخشبي.. وهم يموتون في مخيمات غزة.. وراء الجدران بلا ثمن.
محمد عفيفي مطر، هذا الشاعر الانسان البسيط حد الزيتون، والجارح حد السيف، الكبير في قصيدته وفي مواقفه التي لا تقبل المساومة. في عام 2007 جاء محمد ثانية إلى طرابلس في مهرجان الربيع الأول الذي أقامته مجلة “المؤتمر” وشارك فيه ما يقرب من اثنتي عشرة شاعرا. وفي ذلك الوقت كان محمد عفيفي مازال حزينا، بل كان أكثر حزنا من ذي قبل، وهذا أمر متوقع، فلم يعد الحزن اليوم يقتصر على محمد عفيفي مطر.
صار الحزن .. والموت عنوانا يوميا لكل شيء في المناخ العربي، صار كليشيه للعلائقي وللثقافي والسياسي.. وصار الفرح يشكل حالة نشاز في الأوساط الثقافية العربية.. ماتزال قائمة حتى هذه اللحظة.. صار الفرح شكلا من أشكال اللامعقول.. فأي شيء يمكن أن يدفعك إلى الفرح وأنت ترى كل هذا الموت، وكل هذا الانهيار، وكل هذه الضغينة والتآمر.
وصار من الصعب مثلا أن تسأل محمد عفيفي مطر؛ لماذا أنت دائما حزين يا صديقي..؟ ذلك لأنك سوف تسأل نفسك أولا ذات السؤال الآن؟ في مطعم فندق الونزريك جلسنا معا أنا ومحمد عفيفي والشاعر الصديق محمد الكيش.. كانت الزيارة قصيرة، وأصر محمد الكيش على دعوة عفيفي ونحن معه للعشاء في بيته في السواني.. وافق محمد عفيفي بعد محاولات مضنية من الكيش.. ولكن لظروف لها علاقة بالمهرجان وبرنامجه لم تتم الدعوة..
وغادر محمد دون أن نراه.. يا إلهي رحماك.. أنزل سكينتك عليه وتقبله مع الشهداء والأبرار، وألهم أهله جميل الصبر والسلوان، وأسكنه يارب فسيح جنانك. “إنا لله وإنا إليه راجعون

Facebook
Twitter