هل من جديد؟

في مقال لمسؤول أميركي سابق، يدعى «بول كريغ روبرتس» (Paul Craig ROBERTS  )، نشر في 1/8/2006، تحت عنوان «عار عليّ أن أكون أميركياً!»، يتوجّه الكاتب للقارئ، بادئ ذي بدء، بالسؤال التالي: «هل تعلم، أيها القارئ الكريم، أن إسرائيل متورطة في عملية تطهير عرقي في جنوب لبنان؟ فلقد أمرت إسرائيل جميع القرويين بالرحيل، ثم دمّرت بيوتهم، وقتلت القرويين الهاربين، بهذه الطريقة لن يعود أحد، ولن يبقى شيء يعود إليه، فيسهل على إسرائيل اغتصاب الأرض، تماماً كما سرقت فلسطين من الفلسطينيين.

هل تعلم أن ثلث المدنيين اللبنانيين الذين قتلوا بفعل الغارات الإسرائيلية على المناطق السكنية المدنية، هم من الأطفال؟ جاء ذلك في التقرير الذي وضعه «يان إيجلاند» (Jan EGELAND  )، منسق معونة الطوارئ في الأمم المتحدة. وهو يقول إنه يستحيل وصول المساعدات إلى الجرحى وإلى أولئك المدفونين تحت الأنقاض، لأن الضربات الجوية الإسرائيلية دمّرت كل الجسور والطرق، وما أكثر المرات التي أخطأت فيها إسرائيل أهدافاً لحزب الله، فأصابت أهدافاً مدنية، علماً بأننا نعرف أن النيران الإسرائيلية موجهة بالأقمار الصناعية الأميركية، ونظام (GPS  ) العسكري الأميركي. وإياك أن تفاجأ باشتراك الولايات المتحدة في الجريمة، ولمَ تريد للدمية أن تكون أقل شراً من الدمية «الأستاذ»؟ ‏

بالطبع، لن تعرف هذه الأشياء، لأن الصحافة والتلفزيون في الولايات المتحدة، لن ينقلاها « (انتهى) ‏
حسبي هذا القدر من مقال السيد «بول كريغ روبرتس». ‏

فهل من جديد بعد؟ لا جديد سوى مزيد من استفحال الغطرسة لأميركا وتفاقم عدوانيتها، في خضوع فاضح وأعمى للسيطرة الصهيونية. ‏

حتى خطاب الرئيس أوباما في 19/5/2011، أمام الكونغرس الأميركي، كان الكثيرون يقولون، في سخرية قاطعة، باستحالة خضوع دولة عظمى بحجم الولايات المتحدة، إلى إسرائيل. ‏

فما عساهم يقولون اليوم، بعد تراجع أوباما المخجل عن مضمون خطابه، بعد يومين فقط من إلقائه، وخصوصاً منذ استقبال نتنياهو في الكونغرس الأميركي، وكأني به هو الرئيس الفعلي للولايات المتحدة؟ ‏

يومها، إذ رأيت «الحفاوة» التي استقبل بها نتنياهو، وكيف كان التصفيق الطويل، وقوفاً، يرافق أقواله الخارجة على جميع القوانين والحقائق، تذكّرت أمرين لهما دلالة كبيرة. ‏

الأمر الأول هو ما ذكره الباحثان الأميركيان، «ستيفن والتز وسجون ميرشايمر»، في كتابهما المعروف «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية» (الصفحة 232)، من أن ما من أحد يتقدم بترشيح نفسه للكونغرس، ما لم يكن قد وقّع على «ورقة موقف»، يبين فيها لجمعية «الايباك» الشهيرة، تأييده التام لإسرائيل! ‏

أما الأمر الثاني، فهو بيت شعر شهير للمتنبي، قاله في العبد الذي يصبح حاكماً، وجاء فيه: «لا تشترِ العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاسٌ مناكيد!» فهنيئاً لعالم اليوم بمن يحكمه من عبيد! ‏

إذاً هل من جديد أيضاً؟ ‏

أجل، ثمة جديد في أوروبا، وهو، في الحقيقة، ليس بجديد، فقد كانت ملامحه ترتسم منذ عقود كثيرة، ثم تختبئ، لتتخذ أقنعة متعددة، مع أن أوروبا كانت منذ أكثر من مئة عام، ولا سيما في نطاق دولتيها العظميين آنذاك، بريطانيا وفرنسا، متحالفة تحالفاً آثماً مع الصهيونية، وهاتان الدولتان هما اللتان أقامتا في إسرائيل، مفاعلها النووي الأول في ديمونا، عام 1955. ‏

ثم إن تغاضي أوروبا عن جرائم الصهيونية، على الرغم من خروجها المطلق على جميع قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، واعتداءاتها المتواصلة والمتفاقمة على فلسطين وغزة والأردن والعراق ولبنان ومصر وسورية، كما أن صمت أوروبا المطبق حيال جميع جرائمها الأخيرة، ولا سيما إبان عدوانها على لبنان عام 2006، وعلى غزة عام 2008 ­ 2009، كل ذلك لا يمكنه أن يعني إلا تواطؤاً صريحاً مع إسرائيل ضد العالم العربي ‏إلا أن هذا التواطؤ اتخذ منحى متسارعاً وجديداً، إبان ما سمي الثورة الليبية أولاً، ثم إبان الأزمة السورية. ‏

فبسبب الثورة الليبية، تحركت «المشاعر الإنسانية الميتة» لدى جميع قادة الدول الأوروبية، فهبوا هبة رجل واحد من أجل «إنقاذ الحقوق المدنية» المهددة في ليبيا، و«حماية المدنيين» فيها. واستصدروا قراراً أممياً بتدخل عاجل في ليبيا، وتحركت الولايات المتحدة على الفور مع دول التحالف الأوروبي، وبدؤوا عملياتهم العسكرية من أجل إنقاذ الثورة في ليبيا، وحماية المدنيين فيها. وإذ بهم يقتلون منهم المئات، ويدمّرون وسيدمّرون… حتى أيلول وما بعد أيلول، ما يحلو لهم أن يدمروا، «حفاظاً على حقوق المدنيين وأرواحهم»!… ‏

حقاً، بئس هذا العالم الذي يحكمه عبيد من أوروبا وأميركا وإسرائيل! ‏

كل ذلك، وما يحدث في فلسطين – دعوني من سائر الدول العربية وما يحدث فيها… ­ منذ أكثر من سبعين عاماً، لا يحرك ساكناً، في هيئة الأمم، ولا في مجلس الأمن، ولا في طول الغرب وعرضه، وكأني بالغرب كله، من أميركا إلى كندا إلى استراليا وأوروبا، بات، بفعل الهيمنة الصهيونية، جثة هامدة، لا تتحرك إلا بوحي من مصالح الصهيونية أولاً، ومن ثم بوحي من مصالحها الذاتية. ‏

ثم كانت الأزمة السورية، فأسقطت أوروبا كلها، دفعةً واحدةً ودونما خجل، أوراق التوت الأخيرة، التي كانت تتستّر بها واستماتت، عبر الأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان في جنيف، كي «تنقذ حقوق الإنسان المهددة في سورية»، ولكن بعد تدميرها الكامل، كما حدث في العراق، وكما يراد له أن يحدث في جميع الدول العربية، أما هذا ما كان أعلنه عام 1940، الزعيم الصهيوني «يوسف فايتز» (Yossef   WEITZ  )؟ أما هذا أيضاً ما دعا إليه مؤسس إسرائيل، دافيد بن غوريون؟ أما هذا ما كُتب على الملأ، في المجلات الصهيونية منذ عام 1982؟ أما هذا ما دعت إليه الإدارة الأميركية، من خلال «الفوضى الخلاقة» في الشرق الأوسط الجديد؟ أما هذا ما بلوره «المفكر» اليهودي الأميركي المعاصر، «برنار لويس»؟ أما هذا أيضاً ما دعا إليه «المفكر» اليهودي الفرنسي المعاصر، «برنار ليفي»؟ ‏

ترى، إلى أي هاوية يسير بالعالم كله، هذا الغرب الذي أُخذ حتى الجنون بنشوة القوة؟ ‏

أما من صوتٍ رادع؟ بلى هناك أصوات ترتفع من قلب أميركا وأوروبا، بل من قلب إسرائيل! ‏

من أنبلها صوت من سويسرا، صاحبه هو «جان زيغلر» (Jean ZIEGLER  )، وقد نشر العديد من المؤلفات البالغة الدقة والجرأة، التي يندد فيها، بما يسميه في مقدمة كتابه الشهير «إمبراطورية العار»، «النظام العالمي الجديد». ‏

ومنها أيضاً صوتُ عظيمٍ من فرنسا، هو «روجيه غارودي» (Roger GARAUDY  )، وقد كتب الكثير في هذا الشأن، وتعرض لمضايقات، بل لتهديدات لا تحصى، ومن أهم ما صدر له، كتابه «قضية إسرائيل» (عام 1983)، وكتاب آخر هو «الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل» (عام 1996) ‏ إلا أني، ككاهن عربي، أعيب على كنائس الغرب صمتها المريب، إزاء الشر الفادح الذي يهدّد به الغرب، ذاته والعالم بأسره! ‏

ولذلك، رأيت من واجبي أن أوجه، منذ أيام قليلة، نداء إلى كنائس الشرق والغرب، عساها تستيقظ، فيوقظ بعضها بعضاً، وتوقظ بدورها هذا الغرب الظالم والمتعامي عن حقوق شعوب برمتها، بدءاً من الشعب الفلسطيني – وفلسطين أرض السيد المسيح! – بل عن حقوق شعوبه كلها، في معرفة الحقيقة والدفاع عنها. ‏

وقد فرحتُ إذ كتب لي أسقف فرنسي، يقول: «نداؤك مرعب»، وكتب نائب فرنسي سابق يقول: «نداؤك مؤثر، وأنا أعمل على نشره». كما كتب مفكر وكاتب مسيحي فرنسي، يقول:«نداؤك هذا، يجب أن يترجم وينشر». ‏

إلا أني أعرف أن هذا قليل جداً جداً، إزاء ما يجب أن نقوم به، نحن العرب، لنعرّف الغرب على حقيقة قضايانا، وحقيقة إسرائيل. ‏

وهنا، ثمة سؤال مضنٍ، يطرح نفسه: أين إعلامنا؟ أجل، أين إعلامنا؟ أبعد عشرات السنين من الظلم الذي حل بفلسطين، والذي يحل بالعالم العربي، ويوشك أن يقضي عليه، ومن الظلم الذي أحاق بسورية وأراد أن يقضي عليها، أتساءل، ويتساءل كل عربي صادق، ما الذي حال ويحول دون أن نملك، ولو في سورية وحدها، إعلاماً بحجم القضية الفلسطينية وبحجم المقاومة التي ستقرر وحدها وجودنا، بل أيضاً بحجم وجودنا، كعرب، اليوم وغداً؟ ‏

وأتساءل بحزن وقلق: من سيدري، في طول الغرب وعرضه، والإعلام هناك كله خاضع للهيمنة الصهيونية، من سيدري بالدماء الغالية التي تسفك فوق الأرض العربية؟ ومن سيذكّر الغربيين بالدماء الغالية أيضاً، التي سفكها مقاوموهم إبان الاحتلال النازي؟

‏ الأب الياس زحلاوي

جريدة تشرين السورية

Facebook
Twitter