نصف قرن على رحيل السياب رائد الشعر الحر د. عبداللطيف اطيمش

لعلها مصادفة أدبية طيبة، أن يتزامن صدور كتاب عن بدر شاكر السياب، مع المبادرة التي أطلقها اتحاد الأدباء العرب في إمارة أبوظبي حتى يكون عام 2014، عام الاحتفاء بمرور خمسين عاما على ذكرى رحيل هذا الشاعر الكبير.

إن المكانة الأدبية الرفيعة التي يحتلها «السياب»، عربيا وعالميا، تدعونا إلى أن نستعيد الدور الريادي الذي لعبه في تطوير الحركة الشعرية العربية، وفتح الآفاق الواسعة أمام الشعر العربي الحديث ليحتل مكانه المرموق على خارطة الشعر العالمي.

إننا نأمل ألاّ تكون مبادرة اتحاد الأدباء العرب هذه مقتصرة على تذكّر السياب، وإنما تكون بادرة من أجل تذكر المبدعين العرب الآخرين، والاحتفاء بمنجزهم الأدبي، وجعل ذلك تقليدا أدبيا سنويا نكرّمهم فيه، ونلفت الانتباه إلى ضرورة دراسة أعمالهم، بروح جديدة معاصرة، وإعادة طبع نتاجهم الأدبي وتعريف الأجيال الجديدة بمكانتهم الثقافية.

إن هذه المبادرة، يمكن أن تكون، فرصة سانحة، للفت الانتباه إلى أهمية إبداع السياب وإعادة قراءته من جديد، بعيون معاصرة فاحصة، تكشف عن العناصر الغنية والعميقة لتجربته الفنية والشعرية، وتدرس الدوافع الخفية التي كانت تحرّك وجدانه وتثير مكامن الشعر المتوهج في أعماق نفسه.

إن معظم من كتبوا عن «السياب» لم يستوعبوا للأسف، جوهر أحاسيسه السايكولوجية، وروافد إبداعه الحقيقية، التي جعلته في مواجهة مع واقعه المزري، من أجل معتقداته ومبادئه الشخصية. فقد ظل هؤلاء الكتاب ومعظمهم غير مؤهلين لهذه المهمة، يحومون حول الظواهر الشكلية الخاطفة والمكرورة، التي لا تكشف عن شيء، سواء في أبعاد قصائده، أو في مسار تجربته الحياتية.

لا بدّ إذن من دراسة شعر «السياب» من خلال منظور نقدي معاصر، يعتمد على أحدث المكتشفات في علم النفس، وعلم الاجتماع والدراسات الأنثروبولوجية الحديثة. وأن يكون ذلك كله على أيدي نقاد متخصصين في الشعر وحده، لا نقادا «عموميين» ينقدون كل شيء، ويخوضون دون معرفة في كل الأجناس والفنون الأدبية دون أن تعنيهم قواعد النقد أو أساليب الكتابة أو جوهرها، ودون تمييز بين لون أدبي وآخر.

معظم من كتبوا عن السياب لم يستوعبوا للأسف، جوهر أحاسيسه السايكولوجية، وروافد إبداعه الحقيقية، التي جعلته في مواجهة مع واقعه المزري

وفي غياب النقد الأدبي الجاد، وانحسار القيم الأدبية الرصينة تجرّأ كثير من الصحفيين وكتاب المقالات اليومية الذين لبسوا لبوس النقاد، تجرؤوا للأسف على نقد شعر «السياب»، وراحوا «يحلّلون وينظّرون» لقصائده بكتابات متهالكة يسمونها «نقدا»، وهم في الحقيقة لا يفقهون شيئا عن الشعر ونقده، ولا دراية لهم بمدارس النقد الأدبي أو التراث الشعري العربي.

لا بدّ أن يكون هناك تخصص في النقد، بدلا من النقد العام الشامل. لماذا لا يكون عندنا نقاد متخصصون في الشعر وحده، وآخرون في الرواية، وآخرون في القصة والمسرح وهكذا في كل جنس من الأجناس الأدبية، مثلما هو معروف في الآداب الأجنبية؟

فالشعر، على سبيل المثال، حظي بعناية خاصة في الأدب الأنكليزي والأدب الأميركي، فصار له نقاد متخصصون اقتصرت أعمالهم ودراساتهم النقدية على كل ما يتعلق بالشعر وحده، دون غيره.

هذا التخصص في النقد أنتج أعمالا نقدية باهرة، أصبحت مراجع يعتدّ بها في الآداب العالمية، في موضوع الشعر ومدارسه وأغراضه الفنية. ففي بريطانيا مثلا عرف الأدب الأنكليزي ناقدين متخصصين في الشعر، هما «وليم إمبسون» المتخصص في الشعر الحديث، والذي عرفه الأدباء والمثقفون العرب من خلال كتابه المهم، الذي أسس للحداثة الشعرية في القرن الماضي وهو «سبعة أنماط من الغموض».

أما الناقد الثاني فهو «ولسن نايت» المتخصص في الدراما الشعرية الشكسبيرية، وصاحب كتاب «دولاب النار» الذي يعتبر مرجعا نقديا متميزا في هذا الباب.

وفي أميركا، برز ناقدان رائدان في موضوعات الشعر والنظريات الشعـرية المـختلفة.

الأول: هـو الناقد «أبرامز» صـاحب كتـاب «المرآة والمصباح» وهو متخصص في الرومانتيكية كمذهب شعري عام، ونظرية الأدب وتأثيرها على الحركات الشعرية.

والناقد الثاني، هو: «كلينث بروكس» وهو متخصص في الشكل بالشعر الأنكليزي، وتطوّر القصيدة من خلال النمو الداخلي لصناعتها الفنية.

في أدبنا العربي القديم، كما هو معروف، كان هناك نقاد متخصصون في نقد الشعر منذ بداياته الأولى في العصر الجاهلي، حين كان الشعر هو الجنس الأدبي الوحيد السائد في البيئة العربية. فمنذ بدء تاريخ النقد العربي، وقبل عهود التدوين، كان النقد ملازما للشعر وتابعا له، وكانت هذه هي وظيفته الأدبية التي لا غنى للشعر عنها، معتمدا على عنصرين: المشافهة الخطابية والذوق الانطباعي.

بدأت أولى مراحل نقد الشعر على أسس وقواعد منظمة أثبت من خلالها النقد سلطته الأدبية التي اعترف بها وخضع لها الشعراء وجمهور الشعر من المستمعين على حدّ سواء

وفي العصر الجاهلي بدأ النقد «شفاهيا» معتمدا على الذائقة الفردية الانطباعية، وعلى الخبـرة والمراس في سماع الشعر وصناعته.

وحين نصبت أول خيمة في العصر الجاهلي، للنابغة والأعشى الكبير، للحكم على أفضل الشعراء، بدأت أولى مراحل نقد الشعر على أسس وقواعد منظمة أثبت من خلالها النقد سلطته الأدبية التي اعترف بها وخضع لها الشعراء وجمهور الشعر من المستمعين على حدّ سواء. وعلى ضوء هذه القواعد غير المكتوبة اختيرت المعلقات، وعلقت على أستار الكعبة باعتبارها أفضل النماذج الشعرية التي أقرّها النقد واعترف بها الجمهور، ومن خلالها ظهرت أولى الطبقات الشعرية لتصنيف الشعراء، والتي أطلق عليها «طبقة الشعراء الفحول».

ومنذ بداية التدوين في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني الهجري برز نقاد الشعر الأوائل المتخصصون في هذا الباب، أمثال: قدامة بن جعفر، الآمدي، العسكري، الجرجاني، الجمحي، وانتهاء بالقرطاجني.

ومن هنا يظهر إذن أن لنا تاريخا طويلا في نقد الشعر، وأن لنا نقادا متخصصين أرسوا لنا عبر امتداد العصور الإسلامية قواعد وأسسا رصينة متقدمة لهذا الفن الشعري الذي هو أقدم الفنون الأدبية في تاريخ الأدب العربي.

فما أحرى بنا، ونحن نستعيد هذه الحقائق الأدبية المعروفة في تاريخنا الشعري والنقدي القديم، أن نعطي اليوم لشعرنا حقه وأن نسلّمه إلى من يعرف جوهره وحقيقة صناعته، ليكشف لنا عن أسراره ومكامن الجمال والإبداع فيه.

Facebook
Twitter