مُسْبَقـةُ الصُّنْعِ سعدي يوسف

أنت تسكنُ مُسْبَقةَ الصُّنْعِ 

بين مساكنِ بَرْزَةَ

وابنِ النفيسِ …

وقد تتمشّى من البيتِ ، صبحاً ، لكي تَبْلُغَ ” الـمَرْجـةَ ” .

الصبحُ يَعْبَقُ بالياسمينِ …

المدينةُ تستيقظُ .

*

لم تكن في دمشقَ ، الغريبَ  …

لقد كنتَ فيها ، كما كنتَ في يومِ مولدِكَ ؛

اخترتَها  ، آنَ نادتْكَ أُمُّكَ باسمِكَ . أنتَ المسَمّى بها ،

وهيَ ( أعني دمشقَ ) عروقُكَ

تَخْفَى ، وتحفِرُ ، تحتَ الأديمِ …

وتمتدُّ بين الجبالِ وجَبْلةَ ،

بين الخليجِ الملَوَّثِ والمتوسِّطِ :

تمتدُّ بين الحياةِ وبين الممات .

*

أنت تَسكنُ مُسْبَقةَ الصُّنْعِ …

*

هل كنتَ تحرِسُ آنِيةً للتهاويلِ والنأيِ

أم كنتَ تهجِسُ : آنَ الأوان ؟

 

*

 

أنتَ تسكنُ مُسْبَقةَ الصُّنْعِ .

تلك الحديقةُ تلْتَفُّ فيها العرائشُ ، والوردُ يفتحُ أزرارَهُ.

العشْبُ يَنْدى ، وتأتي الحمائمُ من جهةِ ” الشيخِ ” ،

لن تقطعَ الشارعَ . الخيرُ أن تنثني صاعداً . ستكون

السلالمُ دربَكَ نحوَ الخفايا .السماءُ ادَّنَتْ . أنتَ فيها.

*

لم تكُنْ ، في دمشقَ ، الغريبَ الذي يـــــــــتساءلُ أو يُســــــألُ.

النارُ كانت تأجَّجُ في الموقدِ . الخـــــــــــبزُ ينضَجُ . واللـــبَنُ الحُرُّ

لا يتخثّرُ إلاّ على شفتَيكَ . الموائدُ تمــــــــــــــــتدُّ من ” بابِ توما”

إلى الجامعِ الأمويّ .الحدائقُ تمتدُّ تحتَ الحدائقِ. تحت الذهول.

*

ويمضي بكَ الطيرُ أبعدَ ممّا ألِفْتَ ، وأبعدَ ممّا يُطيقُ جناحاكَ.

 ” غادةُ ” تمضي بــــقُـــطْنِ الفراشِ إلى أن يطيرَ ، مع الفجــرِ  .

كانت تجيءُ بسيّارةٍ وُلِدِتْ قبلَ قرنٍ . وتسمعُ قعقعةَ الرعــــدِ.

” غادةُ ” جاءتْ إلى الدربِ . ” مُسْبَقةُ الصُّنعِ ” كادتْ تطيرّ!

*

 

سلامٌ عليكِ

سلامٌ على شجرٍ في شوارعِكِ الجانبيّةِ ،

ألف سلامٍ على باعةِ الخضرواتِ

وأهلِ الفلافلِ

والخبزِ …

ألف سلامٍ : دمشق !

 

*

لكنّ يومَكِ ، يا دمشقُ ، أشَقُّ من يومِ القيامةِ.

قد غاضَ نبعٌ ؛

واسترَدَّ الرملُ شوكتَهُ :

بُداةٌ يحملون نِياقَهم في الطائراتِ أتَوا ليستلِبوكِ …

إنْ تاهتْ بأُغنيةٍ ، وماءٍ دافقٍ ، حلَبٌ

فقد تاهوا بما يأباهُ خالِقُهم …

لقد تاهوا بمَقتَلةٍ 

وأطلالٍ دوارسَ ،

علّقوا من رأسِ مِئذنةٍ مُعَفّرةٍ 

ضفيرةَ “غادةَ ” التي ما غادرَتْكَ

وعلّقوا

طفلاً قتيلاً ،

ثمَّ صلَّـوا …

*

جار الزمانُ وأهداني الأذى جاري

 ولم يَعُدْ بــَرَدى  تنويمةَ الســــاري …

والوحْلُ صارَ بديلَ السَّلْسَلِ الجاري

ما كان وجهُ دمشقَ العابسَ الضاري

هل من سبيلٍ إلى كأسٍ وأوتارِ …

هلْ مِن سبيلٍ إلى بوَابةِ البستانْ ؟

 

*

لو كنتُ أعلمُ أنّ ” غادةَ ” غايةٌ

لَلَزِمْتُ أرضَ الشامِ ؛

لم أبْرَحْ

ولم أسرَحْ بعيداً …

كنتُ ، أحياناً ، أُطالِعُ وجهَ ” غادةَ ” في العواصمِ

في مرايا العالَمِ القاسي ،

فأنسى أنني غادرتُ أرضَ الشامِ …

ما أقسى الحياةْ !

*

أنتَ تسكنُ ” مُسْبَقةَ الصُّنْعِ “

ما زلتَ تسكنُ ” مُسْبَقةَ الصُّنْعِ ” …

ما زلتَ منتظِراً ، في دمشقَ التي لن تغادرَ

صوتاً لسيّارةٍ وُلِدَتْ قبل قرنٍ …

سلاماً

دمشقُ !

 

 

لندن 12-1-2015

Facebook
Twitter