من سيرة السيجارة الاولى علي السوداني

وهذه حرثةٌ مباركةٌ ثانيةٌ أو عاشرةٌ، لأرض وبابٍ كنا أتينا عليه من أجل بياض عيون القلب والرئتين والأسنان والشوارب والإصبعين السبابة والوسطى.
هي علّة التدخين التي نستعيدها اليوم، بعد انفناء أزيد من ربع قرنٍ على أول شفطة سمٍّ بدتْ سرية ساعتها، كما قبلة قلقة على خدٍّ عتيق.
لا أعرف كيف انضممتُ إلى نادي المدخنين المنتظمين. ربما كنت تحت سلطان منظر أصدقائي الأوغاد الذين كان عليَّ مقاسمتهم فحولةً مبكرة.
أذكر جيداً أنني لم أمرّ بعلبة سجـائر الأب النـائم، أو حتى صينية اللفـافـات وتبغها الرخيص، التي كانت تدور على الناس الثرثارة، بخيمات العزاء العائلية، أو تلك التـي كانت تُدكّ أوتادها فتسيح الدموع السواخن، على مقاتل الحسين وأهله وصحبه.
ثمة أشياء مضببة قد تكون سحلتْني صوب بئر التبغ. شرائط السينما الأولية، ورجولة شبيهي جارلس برونسن، وإيستوود والثنائي بود سبنسر وترانس هيل. لست على يقين من أنّ الطلياني الوسيم جوليانو جيما، هو مَن كان يشعل سيجارته بوساطة عود كبريت طويل ينزلق على كعب حذائه الكاوبوي البديع. ثمّ أنني لا أعرف إنْ كانت صورته متحركة فوق غلاف أخير، من مجلة أجنبية يعيش عمّالها وكتبتها المفلسون، من ريع إعلان المارلبورو الأحمر والكريفن أبوالبزونة السوداء والروثمان المهرّب.
بباب سينما بابل البغدادية المذهلة شالت عربتي الملونة، الكرزات والمكسرات والعلك وعلب سجائر بلدية وأفرنجية، لكنني لم أفكّر أبدا في إشعال لفافة واحدة، حتى لو حان ميقات خروج زبائن السينما من الدور الأخير، ودفعي عربة الرزق الحلال صوب سوق شبّوط بالبتاويين، والدكان الصغير مأوى العربة ومنامها الأمين.
من المؤكد أنني لم أشعر بغيرة قاتلة من منظر نادية لطفي الشهية وهي تمصّ نصف السجائر المستعملة في فيلم “أبي فوق الشجرة” وعبدالحليم الذي شيّبَ رأس عماد حمدي، وحطّم قلب ميرفت أمين. متأخرة جاءت ثلاثية المقهى والجريدة وفنجان القهوة. أظنُّ أنَّ نجاة الصغيرة ستتحمل جزءاً هامّاً من طشّات التبغ التي سخّمت أيامي، بعد أن غنّت رائعة نزار قباني التي خاصرتها تقول “على المقاعدِ بعضٌ من سجائرِهِ، وفي الزوايا بقايا من بقاياهُ”.
زبدة المكتوب هي أنَّ التدخين عادةٌ وليس حاجة، فاجتنبوه كي تسلم أجسامكم العزيزة.

Facebook
Twitter