لوحة وقصيدة – المتجردة قراءة : داود سلمان الشويلي

يقول الجاحظ عن الشعر: ((ضربمنالنسيجوجنسمنالتصوير)).

)إن الرسم شعر صامت.. والشعر تصوير ناطق..(- الشاعر اليوناني “سيمونيدس”

قال “هوراس”: ( القصيدة مثل اللوحة( .

ويقول نزار قباني في قصيدة ( الرسم بالكلمات  (:(كل الدروب امامنا مسدودة … وخلاصنا .. بالرسم بالكلمات).

استقبل الشعراء أعمال الفنانين التشكيلين ، وكذلك استقبل الفـنـانون الشعر ، لوجود علاقة بين الاثنين ، و نجد من نتائج هذه العلاقة رسومـات ولـوحـات فـنـيـة كثيرة تصنف على انها قصائد شعرية مصورة أو مجسمة ، منذ ” امرؤ القيس” حتى يومنا هذا.
في دراسة سابقة تحدثت عن العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي من خلال دراسة المنجز الابداعي للفنانة “عاليا الوهاب ” وكانت الدراسة بعنوان (المرأة البدينة بين الشعر والفن التشكيلي.. الخطاب التشكيلي لجمال المرأة البدينة.. الفنانة عالية الوهاب إنموذجا) حيث وجدت ان هناك علاقة بين الشعرمنذ اقدم العصور ،والفن التشكيلي ، وقد نشرت على صفحة ( اشكال والوان ) لصحيفة ” الحقيقة”.

هذه العلاقة محكومة بما يسمى التناص ، التناص بين ماهو فني وما هو شعري ، اذ انها تأتي في حالة تبادل نصي ( قصيدة / لوحة ) وتتصف بتأثر كبير بين الاثنين ، فتخلق عند ذاك تناص نوعي وكمي بينهما ، وفي هذه الحال يكون تبادل الادوار مسموح به ، اذ يمكن للقصيدة ان تسبق اللوحة زمنيا ، ويمكن للفن التشكيلي ( اللوحة ) ان يسبق القصيدة.

وفي هذه الدراسة سنتناول بعض لوحات الفنان فيصل لعيب التي تناصت بصورة عفوية ولكنها ابداعية مع قصيدة ” المتجردة ” للشاعر العربي الجاهلي النابغة الذبياني.

تتصف شخوص الفنان النسوية بأنها جميعا عارية، او شبه عارية ، وهذا الاسلوب اتاحه عيشه في اوربا المنفتحة على كل شيء ، ومنها رسوم فناننا التشكيلي ، وايضا هي تجسيد بقصد او دون قصد لقصيدة ” المتجردة ” التي تناصت معها ، فهي تكون عارية كما قال الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني في قصيدته ( سقط النصيف ) :

قصيــدة ” المتجردة” للنابغة الذبياني التي يقول في اولها :

أَمِن آلِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغتدِ … عَجلانَ ذا زادٍ وَغَيرَ مُزَوَّدِ

حيث بقول فيها :

وَلَقَد أَصابَت قَلبَهُ مِن حُبِّها … عَن ظَهرِ مِرنانٍ بِسَهمٍ مُصرَدِ

نَظَرَت بِمُقلَةِ شادِنٍ مُتَرَبِّبٍ ………..أَحوى أَحَمِّ المُقلَتَينِ مُقَلَّدِ.

وَالنَظمُ في سِلكٍ يُزَيَّنُ نَحرَها……ذَهَبٌ تَوَقَّدُ كَالشِهابِ الموقَدِ

صَفراءُ كَالسِيَراءِ أُكمِلَ خَلقُها….كَالغُصنِ في غُلَوائِهِ المُتَأَوِّدِ

وَالبَطنُ ذو عُكَنٍ لَطيفٌ طَيُّهُ………وَالإِتبُ تَنفُجُهُ بِثَديٍ مُقعَدِ

مَحطوطَةُ المَتنَينِ غَيرُ مُفاضَةٍ…..رَيّا الرَوادِفِ بَضَّةُ المُتَجَرَّدِ

قامَت تَراءى بَينَ سَجفَي كِلَّةٍ… كَالشَمسِ يَومَ طُلوعِها بِالأَسعُدِ

أَو دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوّاصُها..,…….. بَهِجٌ مَتى يَرَها يُهِلَّ وَيَسجُدِ

أَو دُميَةٍ مِن مَرمَرٍ مَرفوعَةٍ………… بُنِيَت بِآجُرٍّ تُشادُ وَقَرمَدِ

سَقَطَ النَصيفُ وَلَم تُرِد إِسقاطَهُ ……….. فَتَناوَلَتهُ وَاِتَّقَتنا بِاليَدِ

بِمُخَضَّبٍ رَخصٍ كَأَنَّ بَنانَهُ ……….عَنَمٌ يَكادُ مِنَ اللَطافَةِ يُعقَدِ

نَظَرَت إِلَيكَ بِحاجَةٍ لَم تَقضِها…. نَظَرَ السَقيمِ إِلى وُجوهِ العُوَّدِ

تَجلو بِقادِمَتَي حَمامَةِ أَيكَةٍ…………….بَرَداً أُسِفَّ لِثاتُهُ بِالإِثمِدِ

كَالأُقحُوانِ غَداةَ غِبَّ سَمائِهِ………..جَفَّت أَعاليهِ وَأَسفَلُهُ نَدي

زَعَمَ الهُمامُ بِأَنَّ فاها بارِدٌ…………عَذبٌ مُقَبَّلُهُ شَهِيُّ المَورِدِ

زَعَمَ الهُمامُ وَلَم أَذُقهُ أَنَّهُ…..يُشفى بِرَيّا ريقِها العَطِشُ الصَدي

أَخَذَ العَذارى عِقدَها فَنَظَمنَهُ …………مِن لُؤلُؤٍ مُتَتابِعٍ مُتَسَرِّدِ

لَو أَنَّها عَرَضَت لِأَشمَطَ راهِبٍ ……عَبَدَ الإِلَهِ صَرورَةٍ مُتَعَبِّدِ

لَرَنا لِبَهجَتِها وَحُسنِ حَديثِها………وَلَخالَهُ رُشداً وَإِن لَم يَرشُدِ

بِتَكَلُّمٍ لَو تَستَطيعُ سَماعَهُ……لَدَنَت لَهُ أَروى الهِضابِ الصُخَّدِ

وَبِفاحِمٍ رَجلٍ أَثيثٍ نَبتُهُ…ك..َالكَرمِ مالَ عَلى الدِعامِ المُسنَدِ

فَإِذا لَمَستَ لَمَستَ أَجثَمَ جاثما ………مُتَحَيِّزاً بِمَكانِهِ مِلءَ اليَدِ

وَإِذا طَعَنتَ طَعَنتَ في مُشَهدِفٍ..رابي المَجَسَّةِ بِالعَبيرِ مُقَرمَدِ

وَإِذا نَزَعتَ نَزَعتَ عَن مُستَحصِفٍنَزعَ الحَزَوَّرِ بِالرَشاءِ المُحصَدِ

وَإِذا يَعَضُّ تَشُدُّهُ أَعضائُهُ…عَضَّ الكَبيرِ مِنَ الرِجالِ الأَدرَدِ

وَيَكادُ يَنزِعُ جِلدَ مَن يُصلى بِهِ …بِلَوافِحٍ مِثلِ السَعيرِ الموقَدِ

لا وارِدٌ مِنها يَحورُ لِمَصدَرٍ …عَنها وَلا صَدِرٌ يَحورُ لِمَورِدِ

تروي المصادر بأن السبب في مفارقة النّابغة  للنعمان : ((خبر يتصل بحادثة المتجردة. والمتجردة هذه، امرأة النعمان، وكانت فائقة الحسن، بارعة الجمال، وقيل بأن النابغة دخل على النعمان، ذات يوم، فرأى زوجته المتجردة وقد سقط نصيفها فاستترت منه بيدها. فأمره النعمان بأن يصفها له فأنشد قصيدته تلك .

وكان للنعمان نديم يقال له المنخّل اليشكري يتهمِ بالمتجردة ، فلما سمع هذا الشعر، قال للنعمان: ما يستطيع أن يقول مثل هذا الشعر إلا من قد جرّب. فوقر ذلك في نفسه، وبلغ النابغة ذلك فخافه فهرب إلى غسان.‏

ثم علم أن النعمان عرف الحقيقة فجاء النابغة إلى الحيرة مع رجلين من فزارة هما: زيّان بن سيار ومنظور بن سيّار ،وكان بينهما وبين النعمان مودة ،و أشار النابغة إلى إحدى القيان أن تغني أبياتاً من قصيدته‏

فلما سمع الملك النعمان، هذا الشعر قال: هذا شعر النابغة،وسأل عنه، فأخبر مع صديقيه الفزاريين، فأمّنه النعمان. واسترجع النابغة مكانته عند الملك النعمان واستأنف مدائحه فيه.))  – يوكيبيديا -‏

في هذه القصيدة  يصف الشاعر الجسد الانثوي وكل شيء فيه ، وكأنها عارية تماما ، او شبه عارية كما في قصيدة لامرئ القيس التي يقول فيها :

فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَـا … لَـدَى السِّتْرِ إلاَّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّـلِ

 ولبسة المتفضل هو ما تبقى على جسدها من ثياب قليلة جدا تستر المرغوب فيه.

قسم الفنان لوحته الى ثلاثة اقسام افقية ، في القسم العلوي حيث الخيمة اظهر شابا وسيما ينظر من باب الخيمة متلصصا ، وقد بانت على محياه علامات الدهشة لما يرى ، ماسكا بوردة حمراء كأنه يشير الى الشاعر الذبياني الذي رآى المتجردة والنصيف يسقط منها .

وفي القسم الوسطي وهو الاهم والذي يأخذ من الفنان جهدا كبيرا في تخطيطه ، يظهر الفنان الثيمة الرئيسية للوحة ، وهي الفتاة وقد نضت ثيابها الا ( لبسة المتفضل ) أي انها غطت نصف جسمها السفلي بالنصيف .

هذا الجزء وضع فيه الرسام اناء الفواكه دلالة على ان الجلسة ملوكية ، وفتاة يظهر راسها وبيها وسادة دلالة على ان الجلسة هانئة ، رخية .

المرأة في وضع فيه اتقاء نظر الجالسين ، حيث وضعت يدها على نهديها وخبأتهم تحتها ، واليد الاخرى وضعتها فوق السره لتخبئها .

اليدين اتخذت وضع الخشية من عيون الناظرين لها ، انها تخاف على المناطق الحساسة جدا .

اما المنطقة الوسطية التي فيها منطقة حساسة جدا ، فقد لفت عليها النصيف المتساقط.

ان اكتناز جسد المراة باللحم يذكرنا بالمجاز اللغوي الذي يقول ( خرساء الاساور او الحجول ) لامتلاء جسمها باللحم ، و هي تعيش عيشة الترف التي تمنع الاساور او الحجول من ان ترن.

في لوحة الفنانة الضينية جيا لو هي الاخرى تتناص مع القصيدة على الرغم من انني متأكد جدا ان الفنانة غير مطلعة على القصيدة ، وليس في نيتها التناص معها ، الا ان الابداع الانساني ينهل من النيع نفسه .

في لوحة الفنانة الصينية نجد المرأة وقد سقط نصيفها الى الاسقل فأتقت الذين ينظرون الى ذلك  بيديها ، فقد وضعت احدى يديها على نهديها ، فخبأتهم ، واليد الثانية غطت موضع السرة ، وكفها غطى منطقة الوسط ، واصابعهاتحاول الامساك بالنصيف الساقطوذلك محاولة منهالتبقيه يغطي الوسط.

في لوحة الفنان خوان مدينا سقط النصيف من على جسدها كله فسقطت هي حياء وخجلا من الناظرين لها .

استلقط عالرية على جنبها وادارت وجها وجسدها الى الجهة الاخرى بعيدا عن المتلقين وقد خبأت المناطق الحساسة بتكور ، جسدها وقد امتدت احدى يديها تحت راسها وكأنها تخبيء عينيها حياء وخجلا .

ان الابداع الانساني يشترك في مفردات المنتج للفنان ، اوالشاعر ،لان اللوحة و القصيدة تصدران  من نبع واحد .

قصيدة الصورة هذه على الرغم من انها قد جاءت بفعل توارد الخواطر الانساني ، الا انها تعد من الفعاليات التي هي اقدم من النقد الفني الذي يقدم من اجل معرفة الاساس الذي بنيت عليه هذه اللوحة او تلك .

قال الجرجاني عن القصيدة : ((أصواتمحلهامنالأسماعمحلالنواظرمنالأبصار)) . ( الوساطة بين المتنبيوخصومه تحقيقوشرحالمرحومالأستاذمحمدأبوالفضلإبراهيم الطبعةالرابعة ١٩٦٦ ص ٤١٢ .).

 

Facebook
Twitter