قراءة في مجموعة أديب كمال الدين (أقول الحرف وأعني أصابعي) الحرف يوقظ إشراقات الذاكرة

د. عبد المطلب محمود

 

   مع اهتمام الصديق الشاعر أديب كمال الدين واشتغاله المبكر على مكنونات الحروف وما تخبئه في معانيها وأشكالها من مدلولات، وعنايته الفائقة بهذه العلاقة التي بدأت وعُرفت من خلال تجليات المتصوفة العرب والمسلمين، كان لابد من أن يحقق عبر صلاته المتينة بالحروف حضوراً يتميز به لا عن مجايليه من الشعراء العراقيين والعرب حسب، بل حتى على سواهم من الشعراء العالميين الشهيرين وغيرهم، مادام قد آثر الارتباط الروحي ـ أصلا ـ بالحروف وجعل منها وسيلته للبوح بما في أعماق روحه المتدفقة بالشعر، ورسالته الإنسانية التي يؤكدها يوماً بعد يوم وفي مجموعة شعرية بعد مجموعة، منذ أطلق طائر مجموعته الأولى (تفاصيل) قبل خمسة وثلاثين عاما بالضبط، وتحديدا في العام 1976.

   وقد طالما جعل الشاعر من حروفه ـ طوال مجموعاته الشعرية التالية ـ حصانه الذي يمتطيه للوصول إلى “أهدافه” الشعرية، حتى كرسته شاعراً حروفياً باستحقاق، يقول من خلالها ما يعنيه مباشرة أو ما يعني متلقيه معه في الوقت نفسه، حتى إذا ما أصدر مجموعته الشعرية الثانية عشرة (أقول الحرف وأعني أصابعي)، يكون قد “آخى” هذه الحروف وصاحبها مثلما آخته وصاحبته طوال هذه السنين، وعرف خباياها وعرفت أسراره، وأيقظ فيها ـ بل أشعل فيها ـ جذوة روحه، فألفته وتعاونت معه على مواصلة مسيرة “الكشف” بمعانيها ومداليلها الشعرية والصوفية في آن.

     ولعل سائلاً يسأل: أوَ لم ينجح الشاعر (أديب) في تحقيق هذه النتيجة الباهرة في خلال مجموعاته الشعرية الإحدى عشرة السابقة؟ فأجيب ـ شخصياً ـ بالقول: إن نجاح الشاعر ـ أي شاعر أو مبدع منتج ـ لا يتقرر إلا عندما يضع متلقيه على حافة هاوية روحه، ويمسك به منقذاً إيّاه من مغبة السقوط في تلك الهاوية، ليقفا معاً عند الحافة متلازمَين بشعور أن أحدهما أنقذ الآخر، ولا يهم عندها مَن يكون المنقذ الأول، وبهذا الإحساس النبيل ـ بحسب تقديري ـ يصرّ الشاعر على أداء دوره فيُنتج ويُنتج ويُصدر المجموعة تلو الأخرى، ومثله الرسّام والنحات والروائي والمغني، وأمله في كل مرة أن يكون قد أتى بالأعجوبة التي ما بعدها أعجوبة لا في إنقاذ هذا المتلقي أو ذاك حسب، بل في إنقاذ العالم كله من حوله من خطر السقوط في الهاوية.

   من هنا أسمح لنفسي لأن تقول: إن أخي وصديقي الشاعر الحروفي (أديب كمال الدين) استطاع أن “يُنجز” وعداً قطعه على نفسه وعلى متلقيه وعلى العالم، فاستكمل في مجموعته الشعرية الجديدة هذه (أقول الحرف وأعني أصابعي) مشروعه الذي طالما سعى إلى تحقيقه، من دون أن يعني هذا أنه عليه أن يتوقف بعده، لأن المبدع لا يتوقف مثلما أن أي مشروع لا ينتهي بمجرد وضعه على الورق أو حتى إنجازه على الأرض، بل لابد من الإضافات التي تـُغنيه بالمزيد من المعالم الجمالية.

   نعم؛ لقد قدّم الشاعر في هذه المجموعة ما “انتهى” إليه وقد نضجت تجربته الحروفية المدهشة، فلخّص معاناة الإنسان الذي كانه أو الذي يودّ أن يكونه ـ هو أو سواه ـ حتى لنجده يبدأ في هذه المجموعة بقصيدة (ثمة خطأ) التي كأنما يريد من خلالها الإشارة إلى ذلك الخطأ أو العصيان الذي ارتكبه أبو البشرية (آدم) منذ بدء الخليقة، فهو خطأ : “يكبر/ وآخر يتناسل/ وثالث يشيخ/ ورابع يبكي/ وخامس يهرب من منفى إلى منفى/ ومن دمعةٍ إلى دمعة/ ومن رمادٍ إلى رماد…” (ص9)، فهو خطأ دخل في جميع تفاصيل الحياة التي ذكرها الشاعر أو التي لم يذكرها ـ وهي كثيرة بالفعل ـ لينتهي إلى تقرير أنه : “خطأ/ لا ينسى ولا يتسامح حدّ الموت/ يفتح بابَ الموت/ بهدوءٍ أسود/ ويطير.” (ص10).

ومن (آدم) ينتقل أديب إلى السيد المسيح (ع) أو يحيى المعمدان الذي بيع رأسه إلى ممثل الإمبراطورية الرومانية عبر رقصة وحشية من (سالومي) التي لم يشأ الشاعر ذكرها، وهذا ما قالته القصيدة الثانية من المجموعة، ثم بالانتقال إلى عتاب (يوسف) الصدّيق (ع) لأبيه في القصيدة الثالثة (العودة من البئر) (ص13) الذي جعله الشاعر قناعاً للتعبير عن مأساة (كائن ـ كون) في مواجهة كذب الكذابين وحقدهم وأراجيفهم: “إذن لماذا تركتهم هكذا/ يرقصون طرباً من لذة الحقد والانتقام؟/ لماذا كنتَ ضعيفاً إلى درجة الوهم؟/ لماذا كنتَ طيّباً/ كطيبة دمعتكَ الطاهرة؟/ ولماذا أورثتني دمعتَكَ الطاهرة/ يا أبي؟” (ص16).

      ومن يوسف ينتقل بنا الشاعر إلى (الحلاج) الصوفي الأشهر عبر تاريخ مواجهة الظلم والقسوة حدَّ الموت، حتى ليتماهى الشاعر مع قناعه في قصيدة (إني أنا الحلاج): “إني أنا الحلاج/ اسمُكَ اسمي/ ولوعتكَ لوعتي/ ودمعتُكَ دمعتي/ ووهمُكَ وهمي/ وصليبُكَ صليبي./ أرجوك/ إنها النار التي لا تبقي ولا تذر/ فلا تقترب منها أيهذا البشر!” (ص19)، لينتقل إلى زوربا ـ الشخصية التي صارت أسطورة ـ في قصيدة (زوربا) التي يقول فيها : “سترقص أيها الزوربويّ المهووس/ بالفجر والحبّ والبحر./ وسترفع قدَمَكَ الثانية/ وتقفز قليلاً،/ سترى أنكَ قد رأيتَ فجراً/ وربما تذكرتَ قبلةً من عسل/ وربما صعدتَ إلى الماضي.” (ص21)، ثم إلى أشخاص عرفهم الشاعر أديب كمال الدين وأراد منا ـ نحن قرّاء مجموعته الشعرية المتلقين ـ أن نعرف منه ما عرفه عنهم ومنهم، لا المعرفة العادية الساذجة التي عاشوا وعشناها معهم، بل التي التصقت بذاكرته الشاعرة والتي أحالتها شعريته الحروفية إلى “كيانات” إنسانية تحمل بدلاً منا هموماً ومتاعبَ ـ لا بل حتى مواقفَ ـ ما كان لنا أن نُيديها في أوقات خوف أو ضعف أو تردد أو استكانة، وقد هجمت علينا شرور كتمت أنفاسنا وقتلت فينا الحياة قبل أوانها، فهو ـ أعني الشاعر أديب كمال الدين ـ ألقى على عاتق الشاعر الراحل الصديق (رعد عبد القادر) مثلا في قصيدة (صقر فوق رأسه الشمس) ما أراد أن يُطلقه من همومنا الإنسانية الكبيرة، فهو يُخاطبه بالقول : “لم تكن تتوقع/ أن تنتهي الرحلة / بهذه السرعة./ فلقد أعددتَ مبتهجاً/ المزيدَ من المشاهِد لمسرحيتِك/ والمزيد من الفصول لروايتِك/ والمزيد من الأمطار لحديقتِك./ لكن،/ كما ترى،/ فإن الرحلة/ قد انتهتْ بسرعة/ إلى ما ينبغي لها/ أو إلى ما لا ينبغي لها/ ولا فرق!” (25).

   ثم ألقى على عاتق الشاعر الراحل (محمود البريكان) الذي عاش مع السيّاب والبياتي وسعدي يوسف وغيرهم من الشعراء الكبار الرواد وغيرهم، وانتهى قتيلاً بسكين لص يذبحه في بيته، هموم أسئلة الروح التي كان الشاعر (البريكان) ومثله شاعرنا (أديب) يعيشانها معا، ولم يكن أي شاعر صادق مع نفسه إلا يعيشها معهم، فهو يقول في قصيدة (حارس الفنار قتيلاً): “فاقلب الكراسي والمائدة/ أيهذا الفنار/ وحطّم الكؤوس/ على مسرح النفوس./ فلقد ذهب الذي اعتزل وما نجا/ والذي أنفق العمرَ كله/ يخدم الحرفَ كله/ ويُبسمله كل ليلة/ بالياء والسين./ ذهب بعد أن رقص/ مع الزائر المهول/ عارياً كنبي/ عارياً يحملُ بيديه الضعيفتين/ رأسَه المقطوع!” (ص31)، ليُعيد الشاعر تذكيرنا ـ بهذه البساطة في اللغة  التي تعني كأنّ شيئاً لم يكن ـ بقصة النبي (يحيى/ يوحنا المعمدان) الذي راح ضحية مؤامرة بين ممثل الإمبراطور الروماني وأم سالومي التي جعلت من رأس النبي “مهرها” لنيل مآربها منه، مثلما أخبرتنا الرواية التاريخية عنه.

   بعدها ألقى الشاعر أديب كمال الدين على عاتق الإمام (الحسين) هموم طفولة أيقظها ـ باكراً ـ وجع الظلم والشعور بالأسى في مواجهة ما يمكن أن نسمّيه بـ (فتنة الدنانير) التي تُشترى بها الذمم في الأزمنة الرديئة، فها هو في قصيدة (يا صاحب الوعد) يُعيد على متلقيه قصة الغدر التي أعانت الظالمين على المكر والانتقام من دعاة الحق : “يا صاحب الوعد/ كنتُ أركضُ خلفهم/ ـ أنا الشاهدُ الأخرس ـ وأكاد أختنقُ من تراب الخيول./ لقد انتصروا!/ الله أكبر!/ وكانت الدنانيرُ تلقى على الناس/ في كوفة الوعد. أيّ وعد؟/ وشعراء الكدية يُهللون/ لدمكَ المسفوح/ ويمتدحون رمحاً حمل وعدَك/ وسيفاً حزّ عنُقَ مُحبّ الإله.” (37)، ثم ليقول في المقطع الثالث من القصيدة : “لبيك/ يا حاء الحق./ لبيك يا سين السرّ/ وياء السرّ ونون المحبّة./ …. / في كوفة الوعد. أي وعد؟/ ـ صرختُ عند رأسك الطيّب ـ يا صاحب الوعد/ ـ ولوّحتُ بقلبي الممزّق ـ وداعاً أيها المتبرقعُ بدم الأنبياء./ وبكيتُ أكثر من ألف عامٍ وعام/ بدموعٍ من لوعةٍ واشتياق./ كانت خيولُ عبيد الدنانير/ تنهب الأرضَ نهباً/ ورأسك الطيّب الزكي/ بدمه الزكي/ ليكتب سرّاً لا يٌدانيه سرّ،/ ليُصبح اسم الشهيد له وحده/ سرّاً لا يُدانيه سرّ :/ سرّ الحاء والسين والياء والنون/ يُقتلُ غدراً/ ويُمثَّل به في كربلاء البلاء…” (39).

   وإذ يهدي الشاعر قصيدة من قصائد هذه المجموعة إلى الفنان العالمي (شارلي شابلن)، يستعيد صوراً من عوالم الطفولة، ومن ذكريات مشاهداته في دور السينما أيامها، ليتماهى مع ذلك الفنان من خلال أبرز لقطات أفلامه حيث الفقر والجوع والرغبة في محبة النساء الجميلات، وحيث السخرية من العالم الرأسمالي والحرمان، فهو يخاطب الفنان : “صباح الخير أيها الضحك/ صباح الخير أيتها القهقهة،/ أيتها السخرية،/ أيتها السعادة،/ أيتها الطفولة المتهرئة،/ أيها الفقر الأسوَد،/ أيها الغنى الأبيض./ صباح الخير أيتها الدموع،/ أيها الجوع،/ أيها الحذاء المسلوق….” (ص60)، ثم بالقول في ختام القصيدة: “صباح الخير أيها النجاح العظيم،/ أيها الضحك والضحك والضحك حدّ الموت!” (ص61)، ليروح يتغنى بالحروف في قصائد (الموكّل بفضاء الله) عن حرف الألف، و(الحاء والألف) عن حروف مفردة الحق، ثم عن رحلاته بين مطارات المنافي، ليعود بنا الصديق الشاعر في هذه المجموعة المتميزة إلى عالم الأصدقاء ثانية عبر قصيدة (مديح إلى مهند الأنصاري)، المخرج الإذاعي العراقي الذي غيّبه الموت عام 2000، بعد رحلة حياة وفن شاقة، ليخاطبه بالقول : “كانت حقيقية/ شمسُكَ أيها الراحل ـ الباقي./ ليست محاطة ًبالغبار/ ولا معجونة ًبالأكاذيب./ ليست بحجم حبّة قمحٍ/ ولا بحجم برتقالةٍ ذابلة….” (88).

   وإذ يستعرض الشاعر تفاصيل “شعرية” من سيرة ذلك الفنان الراحل الكبير، يختم القصيدة بالقول : “شمسكَ كانت تُحبُّ الله/ واللهُ يُحبُّ سرَّ النون/ وصاحب النون!” (90)، ليخبرني بعد أن أهداني هذه المجموعة الشعرية المدهشة ببساطتها من حيث اللغة ومن حيث “الموضوعات” التي تناولها فيها، ولاسيما تخصيصه الكثير من قصائدها لأصدقائه ـ أصدقائنا ـ الراحلين، بأنه أستطاع أن يحاور الأصدقاء بأسلوبيته الحروفية “وأطلق في فضاءاتهم الكبيرة أسئلة الروح التي عمّق المنفى فيها الصراخ المستتر الهادئ والتأمل العميق الموجع”.. حتى لقد وجد نفسه تكتب عنهم ومعهم وإليهم، ولم يكتب عنهم تحت رغبة التكريم والتبجيل، حتى لأحسب أن دلالة إشارة الشاعر إلى أصابعه في عنوان هذه المجموعة الشعرية كمعادل لمعنى الحرف، تقدّم مدلولاً غائباً / أو مُغيَّباً على عملية الكتابة التي ينتقل عبرها ما في الذاكرة من إشراقات روحية إلى الورق، وتتحوّل هذه الإشراقات إلى حروف فكلمات فأبنية شعرية تتوحد مع بياض الورق ليمكن عندئذ نقلها إلى المتلقي بأمانة أولاً، وبسهولة ويُسر بلا شك.

    وأعترف أنني فعلت ما فعله الصديق الشاعر (أديب كمال الدين) مع أصدقاء مقرّبين آخرين، لا لأجعل منهم “مناسبات” للمحبة الحاضرة لهم أبداً في ذاكرتي ، بل لأكتشف من خلالهم ما تبقى من إشراقات هذه الذاكرة في رأس اشتعل شيباً، أحسب أن صديقي أديب كمال الدين أحسن صنعاً في انتزاعها ـ قبلي ـ من مكامنها، وأطلق كوامنها بشاعرية حروفية مدهشة، وإن هي إلا قراءة منطلقها هذه المحبة لا نقد يتطاول على مبدعها العزيز الذي عقد مع الحروف صداقة لا تضاهيها صداقة، واستودعها أسراره وهمومه ولواعجه وأفكاره، وكانت أمينة عليها مثلما كان ـ هو ـ أميناً عليها، وهذا ما تفصح عنه مجموعات أديب السابقة وهذه المجموعة تحديداً بصورة على درجة كبيرة من الصدق والتميّز.

*************************************

* أقول الحرف وأعني أصابعي- شعر: أديب كمال الدين- الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، لبنان 2011

 

شاعر وباحث أكاديمي ـ العراق

Facebook
Twitter