على باب مقهاي العتيقة علي السوداني

وهذه عودة ثانية مجرورة بقوة الحنين، صوب مقهى حسن عجمي بالحيدرخانة من أطيان شارع الرشيد ببغداد العباسية البديعة. كنت أصلها مشيا ممتعا من جهة الكرخ عابرا جسر باب المعظم، مانحا جبل نظرات إلى تحت الجسر حيث نسوة ملفوفات بالسواد يحطن بما تبقى من مقام الخضر، يشعلن شموع المُراد بأيمانهنّ والدموع بحدقاتهن.

كان جلّ زبائن المقهى هو من الأدباء والفنانين، لكنّ الفعل الأكبر سيكون للطاولي والـدومنة والنفاق الأدبي الكثير.

بعد انفناء أزيد من ثلاثين سنة على دخولي الأول إلى هذا المكان البائس بأثاثه وخدماته ونظافته، أجدني منزرعا بباب حسبة من مات ومن هاجر. أشهر الموتى كان عبدالستار ناصر وسامي محمد ويوسف الحيدري وغانم محمود وعبدالجبار البصري وموسى كريدي وسليم السامرائي وغازي العبادي ورعد عبدالقادر وجان دمّو وكزار حنتوش وكمال سبتي وعقيل علي وحاكم محمد حسين وصباح العزاوي وعبدالأمير جرص وخضير ميري وهادي السيد حرز وهادي الجزائري وإسماعيل عيسى بكر والنادل الأشهر أبو داوود الذي أشتهي الآن استكان شاي من يده القوية.

لا أتذكر أنني شفتُ أبا داوود متلبسا بضحكة أو مقترح ابتسامة، وربما سقط آخرون من ثقب الذاكرة وغاب مشهد تابوت.

مقهانا يا سادة يا نجباء كانت بتخوت معمولة من الخشب القاسي، ومفروشة بحصران من قصب رفيع يستعمله بعض الجلاس كأداة فعالة لتنظيف الأسنان من دحائس الأكل الرخيص، أو لتفريغ الروح من بعض انفعالاتها، وكلما قام أحمد أبو كرش صاحب المقهى بتبديل وتجديد تلك الحصائر، تكررت رغبته بشتم الزبائن ولعنهم بطريقته البغدادية اللذيذة التي من فرط جمالها وطرافتها، سيستقبلها الجلّاس بضحك عظيم.

من كائنات المقهى الجميلة، ثمة قاسم أبو الجرائد الذي يبيعك الصحيفة، وبعد ساعتين سيعود إليك علّه يجد رغبة منك بمنحها له كي يبيعها إلى زبون آخر، أو يعيدها لمسترجع الجريدة.

وعندك كائنان طيبان معطوبان بمخّهما، ويجيدان الإنكليزية هما سعد الدين وأستاذ خضر الذي ظلّ يفتش عن حبيبته المفترضة حتى النهاية، لكنه لم يجدها.

لدينا أيضا رجل يحمل فوق رأسه طبقا من خشب تستدير فوقه دوائر معجنات يسميها أهل العراق بالسميط، وأغلب الظنّ أنّ السميط هو أحد أبناء الكعك أو البقصم أو البادم أو الشكرلمة والله أعلم.

 

Facebook
Twitter