سمكات الولد نؤاس

علي السوداني

 

هذه عصرية مبروكة انفتحت على خير عميم . زارتنا جارتنا العراقية منتهى ، وهي تحمل على يمينها ، طاسة ملفوفة بنايلون شفاف ، من منزلة ومرتبة النايلون الذي يستعمل في المطاعم الفخمة . قالت سأجعل عشاءكم الليلة ، خلطة من طعوم الذكريات . فاتحة مدهشة تنام فوق مجاز عظيم . جلست الطبيبة منتهى والسعد بعينيها ، وأزاحت غطاء الطاسة فبانت بضاعتها . سمك حجم واحدته بقدر اصبع الخنصر . هو أقرب الى نوع من سمك يعرفه القوم العائشون في مدائن جنوب بلاد ما بين القهرين وأهوارها ، اسمه ” زوري ” الذي يخلطه الناس هناك ، بمستحلب كثيف من طحين التمن ، ويشوونه فوق قرص طيني مدور تشتعل تحته نار هادئة ، اسمه ” طابك ” بكاف أعجمية . قالت ان الطاسة جاهزة ، مملّحة ومثوّمة ، مع رشة كمّون ورائحة ليمون ، وزادت أن طمّسوه بزيت لم تفض بكارته من قبل ، حتى يأخذ لونه شيئاَ من لون الذهب ، ثم أخرجوه ناشفاَ ، وقرقطوه مع عظامه من الرأس حتى الذيل . صنعنا لزائرتنا الطيبة ، فنجان قهوة ، وسالفة تجر سالفة ، حتى غادرت وتركتنا بمواجهة هذا السمك المبين . صغيرات وجميلات مثل سلمون ملون يلبط في حوض صالة ، ولأننا طلاب نكد وحزن وقهر ، سأل الولد الحلو نؤاس ، سؤالاَ ضخماَ يشبه صفعة غادرة ، فيه عتب وزعل من بني آدم لأنهم اصطادوا هذه الكمشة من سمكات صغيرات مسكينات بريئات كنّ يرقصن ويلعبن من دون أن يسببن أذى ، وأفراطاَ في تسميمنا وتيتيمنا وتحطيم قلوبنا ، زاد نؤاس أبو خد مرصّع ، ان الخروف ” خطيّة ” وينبغي عدم ذبحه ، ومثله الدجاجة ، وبعلها الديك ، والبقرة وثورها والغزالة وأبنة خالتها ، بل والزمال ابن الزمال ، والكلب ابن السطعش كلب الذي تتناهبه سكاكين وقامات الفلبينيين القساة . قلت يا وليدي يا روحي يا حبيبي ، ان الأمر بات متأخراَ ، اذ أن السمكات فارقن الحياة ، فدعنا نأكلهن بدم بارد وضمير لا يشكو من علة . قال : كلوهن أنتم . قلت : لك ما تشاء وما تشتهي . طفرت الى المطبخ وأشعلت ناراَ تحت طاوة وزيت ذهبي جديد ، لكن نواساَ لم يترك أباه في خلوته الشهية . وقف فوق رأسي ، ورسم على وجهه النبوي ، أسىَ عظيماَ كأنه ألف عراق . أطفأت النار ، وقبضت بالخمسة المخمسة على لحيتي ، وشلت طاسة السمك وزرعتها في سلة الزبل ، وأستغفرت ربي وشكرته ، لكن الولد لم يرض بما رضيت به ، وأقترح عليّ أن أجمع السمكات الناعمات بكيس نايلون ، وأذ يحل الليل ، نخرج الى الشارع عند الحاوية الرصاصية ، حيث تتجمع قطط الزقاق ، ناطرة لحمة أو شحمة ، أو عظمة أو بعض زفر . طمّست العشرة في سطل الزبالة ، ولملمت السمك الزلق وختمت عليه كيس الحسرة ، ونطرت أخير الليل ، كي أتمم على الولد الحائر ” نوسي ” نعمتي . ليلتي تشبه عصريتي . فلم السهرة ، بطلاه عملاقان كأنهما سليم البصري وعامله عبّوسي ، واحد اسمه جاك نيكلسون ، والثاني هو مورغان فريمان . أخبرهما الحكيم ، أن ليس ثمة متسع من الزمن ، كي يتعايشا طويلاَ مع مرض مميت دهمهما . قررا أن يقضيا ما تبقى من عمر ، في الترحال والمقامرة والنبيذ والنساء والحماقات . حوار يشلع القلب عن شكل الموت والمدفن ، وتصميم التابوت ودرب الجنازة . نيكلسون قال بحرق الجثة ، لأنه مرتعب من فكرة النوم ببطن حفرة تنزل تحت الأرض سبعة أقدام . مورغان ثنّى على الفكرة ، وأوصى أن يكبس رماد جسده في علبة قهوة ماليزية . نؤاس المحروس نام . على خرير الليل ، خرجت وحيداَ الى مزبلة الحارة . دستة قطط يتصايحن ويتماوأن ، وهرّ رمادي عبوس يتمدد فوق الحائط ، ذيله يشير الى بوصلته المستفزة ، ولسانه يرطب شفتيه . كان أبن الكلب ، يوحي ولا يشهر ، وكانت القطات اللاعبات ، يتغنجن قدامه ، كما لو أنهن يرتعن عند مفتتح شباط اللباط . عزيزي الهر المطاع المهيمن القوي : أرجو لك ليلة بديعة . هذا سمك طيب ، فأعدل بين نسائك ما أستطعت . حبيبي نؤاس : نومة هانئة مطمئنة ، وأحلام جميلة ، وردية وزهرية وبنفسجية وجورية . هل ارتحت الآن وليدي ؟ أنعل أبو السياسة .

Facebook
Twitter