دماغي يشم وخشمي يضحك علي السوداني

 

أكادُ الليليةَ أشمُّ عطرَ التراب البعيد المرشوش برذاذ مطرٍ قديم. عندما يتساقط النثيث فوق الشارع، فإنّ العطر الناتج من بركة هذه الوصفة السماوية، هو عطر اسفلت مبين وفق قانون العادة. أنا على يقين من أنني شممتُ رائحة التراب الطيبة.

يبدو الأمر كما لو أنه صنفٌ من صنوف كثيرة، تحدث عندما تتخبّل الذاكرة أو تتحاضن الحواس تحت لحاف مُحاكٍ من دفء الذكريات.

كأسي الليلة مكسورة، ومزاجي يلوب على عكرة وخواء، مثل جنديّ مخذول راجعٍ من أرض معركة، وزوجته الوحماء تنطره على مبعدة سعال من ساتر الهزيمة.

هذا لا يعني أنني استعملتُ مجازاً لغوياً باهتاً، ورسمت بفرشاتهِ خديعة شمّ التراب البعيد. سأكسر ماعون الحقيقة وأكتب إنَّ للخشم صيواناً يشبه صيوان الأذن، وهو يتحرك اللحظة مثل صيوان خشم حصانٍ وحيدٍ مربوطٍ، توجعُهُ رائحةُ أُنثى هائجة خارج الإسطبل.

سأجد حلاً رحيماً لبلبلة الحواس، فأكتبُ عن أغنية واحدة بصوت عبدالحليم حافظ، قد تجعلك تشمّ رائحة سندويجة العمبة وبيض، التي كانت سيدة لفّات عربانة راسخة بحلق الزقاق الفاصل بين سينما بابل وسينما النصر ببغداد العليلة.

بنفس مسطرة القياس، سيغني داخل حسن “يمّة يا يمّة” فأشمّ رائحة قميص رحيم يوسف. بِوصلة دامية من رواية “شيطان في الجنة” ستندلق أمام منخريّ أبخرة العرق الرخيص وهي تشيّع جسد جان دمّو. مع انسياب مقام الدشت الهادئ على حنجرة حسن خيوكة، سيأتيني خالي الوسيم بلفّة روست باردة.

إذا غنّت فيروز “في قهوة عالمفرق” ستأتي رياح الشوق الكاسر بنفحاتٍ من نعناع وريحان بستان طعمة بالعطيفية. أغنيات سعدي الحلّي معطرة بروائح رخيصة تنبعث من تحت آباط الراقصين المخنّثين، وهم يدوفون أجسامهم الفائرة بصفير الأغضاض المشاكسين.

فيلم الأرض سيشمّمني زنخ معجون الحلاقة على شارب محمود المليجي. صياح ديك سيعيدني إلى نومة سطحِ طينٍ وشميم أذان فجرٍ عتيق. نباح كلبٍ مبحوح سيأخذني إلى حقيبة زارق الأبر عبّود أبولعيبي، وحكايات “قطّاع ستين” ودخان حلاوة حسن سمبوسة بالثورة.

أشتهي الساعةَ أن أطلب منكم الهجرة صوب سطر الحكاية الأول، كي نقع على تمامها، ونحن نقف الآن على عتبة مهواها ومنتهاها. صدّقوني، لقد حدث تمام الأمر الليلة.

Facebook
Twitter