خان الشابندر .. دعارة بغداد ما بعد 2003 وارد بدر السالم

بعد انقطاع طويل عن النشر يعود الصديق القاص والروائي محمد حياوي الى المشهد السردي العراقي برواية ( خان الشابندر) التي أصدرتها دار الآداب اللبنانية قبل وقت قصير وستكون هذه الرواية إطلالة أخرى من إطلالات الرواية العراقية الجديدة على واقع ما بعد 2003 .
…..
بشكل طبيعي ستتشابه هذه الرواية الشابندرية مع أكثر من 400 رواية عراقية صدرت خلال السنوات الماضية بما يشي بانفتاح السرد الروائي على سرديات العراق الكبرى المتحولة سياسياً وبالتالي المتحولة اجتماعياً ونفسياً ..(يشمل هذا التشابه روايتي أيضاً – عجائب بغداد – الصادرة 2012 )

غالبية شخصيات روايات ما بعد 2003 تنطوي على الرائي – الراوي – العائد من خارج العراق ليرى التحولات المجتمعية الجديدة فيرصد المتغيرات النفسية والأخلاقية ويعيد سيرة بغداد الماضية كونها الجوهر ويعقد مقارنات بين الماضي والحاضر ويرصد زوايا المجتمع وسلوكياته الكثيرة التي افرزتها وقائع التحولات السياسية الجديدة.

وخان الشابندر تقع في هذا النسق السردي بشكله العام ، لكنها تختار زاوية رصد من هامشية المجتمع وأكثرها عتمة وظلاماً بل وأكثرها احتداماً مع الواقع وتمرداً عليه في الخان الذي يوصف بأنه مكان سري للدعارة تتناوب فيه شخصيات نسائية قلقة ، مثلما تتناوب فيه شخصيات رجالية بعضها شبحي وبعضها كرّسه المؤلف ليكون ظهيراً للحالة المناقضة التي فيها الخان.

لذلك شاعت أخلاقيات الرائي او الراوي في صوته المتنقل عبر المكان الذي كان يوجد فيه كلما وجد ذلك ممكناً ، وربما هي أخلاقيات اجتماعية محتملة في جو اجتماعي لم يفسد كثيراً بعد فهناك شيء من النقاط المضيئة في مفاصل الحياة ، لكنها ليست بالضرورة اخلاقيات الرواية التي لا تحفل بمثل هذه الالتقاطات وإن بدت واقعية في صميمها ، غير انها ربما تضعِف من حركة السرد وتحيله الى واقعيات غير ملائمة فنياً وتقتل روح الخيال في كثير من الأحيان .
ش…
تنبني خان الشابندر على سيرة واقعية من خلال موشور اجتماعي يحلل الواقع ليتوقف عند غرف نوم في منزل عاهرات وسط بغداد ولا يغادرها الا قليلا في مساحة أخرى من العاصمة ، وهي سيرة جمعية لنساء احترفن البغاء بناء على ظروف يمكن تخمينها في العادة ، مع وجود شخصيات هامشية تؤدي أدوارا صغيرة موَظّفة سردياً لملء فراغات معينة بطريقة المونتاج ومن ثم ربط أوصال الرواية بحبكة مركزية .

السيرة الواقعية لبائعات الهوى في خان الشابندر وما يحيط بهنّ من فزع تتسبب به ميليشيات الملا ( ويقصد به السيد) الباحثة عن هذه النماذج لإنشاء مجتمع الفضيلة ، هو بالنتيجة أحد أسباب هذه الميليشيات الطائشة التي أخذت دور السلطة وصادرته وأوجدت فجوة مضادة للتمرد بشقه الاجتماعي ومن ثم الفكري من دون أن تدرس إمكانية إصلاح المجتمع بطريقة متحضرة ومشروعة . لهذا تجد ان عاهرات الخان هن أكثر حكمة وذكاء وتفتحاً من هؤلاء الشراذم الذين خرجوا من قاع المجتمع بعدما تهيأت لهم الظروف المناسبة . وبالتالي أراد حياوي أن يعطي صبغة مثالية أو شبيهة بهذا حينما جعل من شخصياته النسوية المستلبة يعرفن ولو الإطار العام من الثقافة والقراءة الأدبية بشقها الرومانسي التاريخي ويقف على تحصيلهن العلمي واختلاجات الأفكار حينما يصارعها العقل وهو يقرأ الواقع المتغير بطريقة فيها حكمة أو نقد ذاتي وما الى ذلك.

غير ان هذا نسج صعب الى حد كبير حينما تكون الحاضنة الثقافية – حتى بشكلها الإطاري – حاضنة موازية لبيوت دعارة وتتفاعل معها تمرداً او انتقاماً او حاجةً أو يأساً تسببت به انفلاتات سياسة ما بعد 2003 بشكلها المعروف. وهو ما يمنع السرد أن يتطور الى مناقشة قضية أعمق من هذه الالتقاطات في ضوء معطيات الاحتلال وتحويل المجتمع الى كابوس ميليشاوي يقضي على كل بارقة أمل في أن تمضي الحياة بشكلها الطبيعي ؛ وأعتقد حاول الصديق حياوي أن يبقى في هذا الهامش الاجتماعي طويلاً لتأجيج الصراع النفسي والأخلاقي من هذه البؤرة الشاذة بشخصياتها النسائية المستلبة غير ان هذا البقاء كان محكوما بشخصيات قليلة استنفذت طاقاتها مقدماً وظل المكان مسرحياً محاصراً بجدارن الخان وهو ما جعله يدور في الحلقة ذاتها من دون أن يطور نفسه سردياً ، واعتقد ان الصديق حياوي انتبه الى هذه المفارقة نسبياً فعمل على استرجاعات معينة لبعض شخصياته النسائية ، لكنها كانت استرجاعات متوقعة في تسبيب الحالة التي قضت على براءات بعض النسوة من بائعات الهوى (لوصة ومن معها) وكما في كل روايات ما بعد 2003 فإن السياسة القمعية الماضية هي التي أوصلت الحياة الاجتماعية الى ما هي عليه الآن..

نجحت الرواية الى حد جيد بأن تحوّل (حالة الدعارة) الى حالة رومانسية فيها فذلكة من وجع واستقصاء أخلاقي – سياسي ـ وهي دعارة ما بعد 2003 التي كشفت البنية التحية لمجتمع غارق في الرذيلة مثلما فيه فضيلة تستقصي دوافع هذا الانفلات بروح فيها ايجابية البحث التي يمثلها الراوي – الرائي .

خان الشابندر وصلة فيلمية من القاع الأسود أوصلها حياوي الى السطح لنراها جميعاً بقصدية رؤية المستوى المخفي من مستويات الأنساق الاجتماعية الجديدة التي يطاردها جماعة الملا – ويقصد به جماعة السيد ماكنتوش..!

Facebook
Twitter