خالد جمال عبدالناصر يستذكر احداث الليلة الاخيرة في بيت الرئيس

خالد جمال عبدالناصر

فى الأيام الأولى من حقبة الثمانينات التأمت الأسرة فى قاعة السينما فى الدور الأرضى من بيت منشية البكرى. وقاعة السينما بالأصل صالة طعام رئيسية كان يستضيف فيها الرئيس ضيوفه الكبار على موائد العشاء. جلست أمى تحية كاظم وحدها على كرسى فى الصف الأول، وجلست فى الخلف مع زوجتى داليا فهمى، وكان معنا شقيقاي عبدالحميد وعبدالحكيم بصحبة زوجتيهما إيمان ونجلاء، كانت أحاديثنا فى ذلك المساء عادية حول بعض شؤوننا الاجتماعية، ولم نتوقع أننا بصدد حادث عاصف بالمواجع القديمة. أخذ عامل السينما عبدالعظيم يستعد لعرض شريط سينمائى حديث، ولكنه أخطأ فى الشريط وفوجئنا بالعرض يبدأ، وصورة أبى على غير انتظار تطل على الشاشة ومشاهد الملايين الملتاعة تزحف خلف نعشه بأنشودة وداع صاغتها بعفوية الوداع يا جمال يا حبيب الملايين. الشريط السينمائى عنوانه أنشودة الوداع للمخرج على عبدالخالق. شيء أقرب إلى الصاعقة ضربنا. أمى غرقت فى بكاء مرير بصوت مرتفع، ومع بكاء أمى أخذتنا الدموع إلى مدى بعيد لم نتصور منذ لحظات، وبعد عشر سنوات تقريبا من وفاة أبى، أننا سوف نذهب إليه.. كأنه مات الآن، كأننا فقدناه الآن، شعرنا بحسرة الفراق، وكما لم يحدث من قبل، لم استطع متابعة الشريط السينمائى وغادرت القاعة مسرعا.
بقميص أزرق طويل وبنطلون رمادى خفيف فى قدميه وقف أبى ذات مساء من الصيف الأخير فى شرفة واسعة على يسار استراحة المعمورة فى الإسكندرية، الاستراحة تواجه البحر مباشرة، كنا فى مطالع الصبا، نلهو على البحر، وأبى يتابعنا من بعيد، ويتمشى أحيانا فى البلكونة، وأحيانا ينزل للتمشى على البحر. كان يحيينا من بعيد، ونحن نرد التحية بحماسة، كنا متعلقين به بصورة لا تصدق، كانت مشيته فى الصيف الأخير تبدو عادية أو لعله أراد بعناده المعروف أن يتحدى المرض، وأن يخفى آلامه عنا، وأن يبدو طبيعيا، بدت حالته الصحية بالنسبة لي تحت السيطرة، لم يكن هناك ما يقلق ولا خطر فى بالنا أن هذه آخر أيامنا مع جمال عبدالناصر، غير أن ضغط الأحداث عليه، من الاستعداد لتحرير الأراضى المحتلة بقوة السلاح إلى مجازر أيلول الأسود أخذ ينال من صحته ويضع قلبه فى مرمى نيران النهاية.
ذات مرة قال لي لن يتركوني أبدا، ونهايتي إما مقتولا أو سجينا أو فى مقابر الغفير كان يدرك أن القوى العاتية التي حاربها سوف تحاول الانتقام، وأن الانتقام سوف يكون مريعا، وعندما حدثت هزيمة يونيو كان تصوره أن يطالب الناس بشنقه فى ميدان التحرير، فإذا بالملايين يخرجون مطالبين القائد المهزوم بالبقاء، وكما لم يحدث فى التاريخ من قبل.
كنا على مائدة غداء ذات يوم عام 1970، ولسبب ما قلت: مضت ثلاث سنوات وكنت أتحدث عن موضوع شخصي مضت عليه هذه الفترة، التفت عبدالناصر تجاهي، قال وكأنه يحادث نفسه:ثلاث سنوات؟!. كانت هذه السنوات قد مضت على النكسة.. لم ينس أبدا هذا الجرح.
مارس 1969، استشهد الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المصرية على جبهة القتال الأمامية، صدمة عبدالناصر باستشهاد رياض بدت صاعقة كان يراهن على الجنرال الذهبى فى تحرير أراضينا المحتلة بقوة السلاح تحت وابل من النيران وأفق مشتعل بالنار ثقته بالكفاءة العسكرية لرياض كانت بلا حدود، لكنه شعر أيضا بالفخر لاستشهاد رئيس أركان حرب القوات المسلحة على جبهة القتال، مصر تغيرت، ونفضت ثياب الهزيمة بإرادة المقاتلين وبدماء الشهداء، وهو المعنى الذى التقطته مئات الألوف التى خرجت تودع رياض فى جنازة مهيبة اخترقت ميدان التحرير من جامع عمر مكرم. أصر الرئيس على أن يتقدم صفوف الجنازة وتحدى إجراءات الأمن وأزاح رجال الحراسة وذاب وسط الجماهير، كان لديه إيمان صوفي بالجماهير، يشعر بالتوحد معها، وبأنه فى مأمن تماما بحمايتها، رجال الأمن أصابهم الفزع، اقترب أحد ضباط الحراسة من الرئيس بصعوبة شديدة وقال: يا فندم كفاية كده ، نهره عبدالناصر بيده ومضى فى الجنازة حتى نهايتها متأثرا بهتاف الشعب.. رياض ما متش والحرب لسه مانتهتش
حتى الآن.. ورغم مضي كل هذه السنوات الطويلة يساورنى شعور طاغ بتقصير الأطباء في علاج الرئيس إلى حد كبير، حاولوا إرضاء الرئيس على حساب صحته، وقد تفرض أجندة الالتزامات أن يلقى خطابا جماهيريا أو يعقد اجتماعا سياسيا فى ظل أزمة صحية تستدعي أن يستريح. يقول للأطباء: عاوز أروح أخطب فيلتزمون بما طلب دون مناقشة أو اعتراض، يعطونه مضادات حيوية من أقوى جرعة ممكنة، وفي اعتقادي أن هذا النوع من العلاج بتسكين الآلام لمقتضيات السياسة هو أقرب إلى سوء استخدام تكنولوجيا المضادات الحيوية، وقد أنهك صحة أبي بصورة خطيرة. ليس من واجب الطبيب أبدا أن يستجيب لطلبات المريض، حتى ولو كان رئيس الجمهورية، ليس من واجب الطبيب حين يقول له الرئيس:تعال اديني حقنة ريفالين أن يكون الرد الفوري حاضر ، لا أغفر لأطباء عبدالناصر هذا التساهل المفرط فى مقتضيات العلاج.
السيرة الصحية لوالدي ترتبط بتواريخ السياسة.. أثناء الحصار الاقتصادى الذى فرضه الغرب على مصر أصابه مرض السكر عام 1958، وبعد نكسة 67 نالت منه مضاعفات السكر بصورة خطرة، إرهاق العمل المتواصل فى الليل والنهار لتحرير الأراضي المحتلة بقوة السلاح أصابه بأزمة قلب، وأزماته الصحية كان يمكن باستمرار تداركها، مضاعفات السكر تمت السيطرة عليها، أما الإرهاق وتحدي أوامر الأطباء بالراحة فلا سبيل لتداركهما، من عرف عبدالناصر في تلك الأيام كان يدرك بسهولة أنه غير مستعد للنوم مرتاحا أو الاستمتاع بأى شيء قبل إزالة آثار العدوان.
قبل ذهاب والدي لمصحة تسخالطوبو فى الاتحاد السوفيتي للاستشفاء قضى شهرا كاملا فى الإسكندرية على سرير المرض متأثرا بمضاعفات مرض السكر، فيللا المعمورة ثلاثة أدوار وأبى وأمى يعيشان في الدور الثالث.. دخلت عليه ذات يوم فى غرفة النوم فوجدته يتأوه من الألم، حاول أن يخفي علامات الألم، كنا نحس به، لكنه نجح لحد كبير فى خداعنا والتهوين علينا، لم نعرف أنه أصيب بأزمة قلبية حتى فوجئنا بالثانية القاتلة، حتى أمي لم تعرف.. لا أسامح نفسي حتى الآن على أنني لم أفهم أن إقامة المصعد فى بيت منشية البكرى فى 21 ساعة تعني أن أبي أصيب بأزمة قلبية تمنعه من صعود السلم للدور الثاني. صاحبنا الرئيس والدتي وأنا وشقيقاي عبدالحميد وعبدالحكيم فى رحلة العلاج لمصحة تسخالطوبو فى الاتحاد السوفيتي، تحسنت حالته الصحية هناك، لم يكن مسموحا لنا بالحضور معه فى جلسات العلاج. قضينا في تسخالطوبو أوقاتا رائعة، لم نكن قلقين على صحته.. لعله نجح فى خداعنا، ومازلت أعتقد أن والدى مات بالإرهاق أكثر مما مات بأزمة قلب أيلول الأسود.
نصحه الأطباء بممارسة الرياضة، بدأ يلعب التنس فى ملعب خلفي فى البيت، مدربه اسمه غريب مازال يمارس التدريب حتى الآن فى نادي القوات المسلحة فى الجلاء منذ الخمسينيات، كان أبي يلعب التنس مع محافظ القاهرة صلاح الدسوقى، بعودة أبي لممارسة الرياضة كنا نقول له:عايزين نلعب معاك يا بابا، ونستمر في خبط الكوره كنا نلعب معه أحيانا كرة قدم، يشوط أبي الكرة ويقول اجر يا خالد كنت أسمع كلامه كجندي وأجري أسابق الريح لإحضار الكرة، وفي السنوات الأخيرة عندما بدأ يتألم من مضاعفات مرض السكر،كان يطلب مني أن أرتدي أحذيته الجديدة الناشفة ويقول البس الجزمة يومين طريها واديها لي.
28 سبتمبر 1970 الساعة الخامسة من مساء هذا اليوم كنت انتهيت لتوي من تدريب كرة اليد فى نادي هليوبولس في ضاحية مصر الجديدة، جلست مع أصدقائي فى التراس نحتسي الشاى والقهوة، كانت على المائدة المقابلة داليا فهمى زوجتى في ما بعد، لم يكن هناك شيء غير عادي، مؤتمر القمة الطارئ لايقاف نزيف الدم فى عمان انتهى بالنجاح، أبي يعود اليوم للبيت بعد أربعة أيام قضاها في فندق هيلتون النيل للمشاركة في القمة وإجراء الاتصالات الضرورية، لم أكن أعرف أنه لم ينم ولم يرتح طوال هذه الأيام بسبب أنه لابد من وقف نزيف الدم الفلسطينى فجأة رأيت أمامي عصام فضلي، وهو ضابط من قوة الحراسة الخاصة بالرئيس، لم يحدث من قبل أن أرسل والدي لاستدعائي ضابطا من حرسه الشخصى قال لي: تعالا عاوزينك فى البيت. ولم يزد حرفا. فى أقل من خمس دقائق وصلت، صعدت سلم البيت قفزا بتساؤل كاد يشل الروح:ماذا حدث؟.فكرت فى كل احتمال، ولم يخطر على بالي أبدا ما حدث.
حركة غير عادية فى الدور الثاني فى غرفة الرئيس، الباب مفتوح، أبى أمامى على السرير مرتديا بيجامة.. طبيبه الخاص الدكتور الصاوي حبيب يحاول انقاذ حياته بصدمات كهرباء للقلب، السيد حسين الشافعي فى زاوية الحجرة، يصلي ويبتهل إلى الله، الدكتور الصاوي قال بلهجة يائسة كلمة واحدة:خلاص. الفريق أول محمد فوزى نهره بلهجة عسكرية:استمر ثم أجهش بالبكاء.. نفذ أمر الله، أخذت الأصوات ترتفع بالنحيب. لم أبك، وقفت مصدوما. بكيت بمفردي بعد أسبوعين لثلاث ساعات مريرة. لم أصدق أن أبي رحل فعلا، أمي أخذتها حمى الأحزان الكبيرة، أخذت في الصراخ والعويل كأي زوجة مصرية بسيطة تنعى رجلها وجملها في غمرة الحزن طلبت أمي من صديقي محمد الجيار ألا يغادر غرفة الرئيس أبدا، لمدة ثلاث ساعات جلس الجيار على الأرض بجوار سرير عبدالناصر يبكي بحرقة ويقبل قدميه. جاء أنور السادات وتبعته على عجل السيدة جيهان بفستان أزرق، السادات نهرها:امشى البسي أسود وتعالي. بدأ توافد كبار المسؤولين فى الدولة على البيت، بعد قليل اجتمع عدد كبير من الوزراء وقيادات الدولة في صالون منشية البكرى، تقرر نقل جثمان الرئيس الى قصر القبة حيث تتوافر هناك امكانات الحفاظ عليه في درجة تبريد عالية لحين إحضار ثلاجة خاصة لهذه الحالات، والانتهاء من إجراءات الجنازة وإعلان الخبر الحزين على الشعب. بدأت الإذاعة والتليفزيون فى بث آيات من القرآن الكريم، لم يدر أحد بما حدث، حاولت داليا الاتصال بي للاطمئنان، أخيرا أمكنها الوصول لعامل السويتش..أخبرها وهو يبكى:الريس مات.
قوة الحراسة الشخصية لعبدالناصر، وفي مقدمتهم محمد طنطاوي الذى كنا نطلق عليه لقب الطبيب حملت جثمان الرئيس على نقالة إسعاف بلا غطاء، وجهه مكشوف، ابتسامة رضا تعلو وجهه، رائحة الموت كريهة، لكنها بدت مسكا، أمي تابعت الجثمان المحمول على نقالة إسعاف بصراخ رهيب دوى فى المكان الذى كان للحظات قليلة مضت المقر الذي تدار منه مصر والصراعات على المنطقة، قال لها السادات على طريقة أهل الريف فى مثل هذه الأحوال: يا تحية هانم.. أنا خدامك.
 مضى أبى أمام عيوننا محمولا على نقالة إسعاف ولم يعد، لم نره مرة أخرى. لم تذهب معه أمي ولا أحد من أبنائه الى قصر القبة. أمي جلست على السلم تنتحب، حتى الآن مازالت تدوي فى وجدانى كلمات أمي الملتاعة، وهى تتابع الخروج الأخير لعبدالناصر من بيت منشية البكرى: وهو عايش خدوه مني وهو ميت خدوه مني. سيارة إسعاف الرئاسة نقلت جثمان أبي من بيت منشية البكرى إلى قصر القبة قبل إعلان الخبر المفجع على الرأي العام . فى مدخل القصر الرئاسى قابلت أنور السادات، طلبت منه بإلحاح: عاوز أشوفه يا سيادة النائب. رفض السادات هذا الطلب، قد تكون له أسبابه، ربما خشى أن تنفلت مشاعر شاب صغير لرؤية جثمان والده، ومع ذلك لن أغفر للسادات أبدا أنه لم يمكنني من إلقاء نظرة أخيرة على أبي.
مساء الاثنين 28 سبتمبر، 1970، نهر الدموع امتد من الماء الى الماء على خريطة أمة العرب، فى كل قرية عربية مأتم، قال المصريون البسطاء: عمود الخيمة سقط . قرأ المصريون فى طوفان الدموع ما سوف يحدث غدا وبعد غد بهتاف: عبدالناصر يا عود الفل من بعدك حنشوف الذل.. الأناشيد الحزينة أخذت تدوي فى سماء القاهرة التي كانت يومها عاصمة العرب وعاصمة حركات التحرير الوطني، صرخات ملتاعة تستعيد اسما واحدا لخص كل شيء، حقبة كاملة من الصعود والانكسار، النصر والهزيمة، اسما بدا شهابا قد مضى وتاريخا قد مضى، وإرادة ومقاومة لم يعد يعرف أحد ماذا سوف يحدث بعدها، مات عبدالناصر فجأة، ولم يكن أحد يتوقع أن يغيب مبكرا فى سن الثانية والخمسين، الصدمة المروعة هزت مشاعر المصريين أخذ الملايين يصرخون باسم رجل يرقد وحده فى غرفة مبردة فى قصر القبة.
كان أبى فى ذهابه وإيابه إلى البيت يشاهد مسجدا تبنيه إحدى الجمعيات الخيرية فى شارع الخليفة المأمون عند كوبري القبة، بدا للرئيس أن مشكلات مالية تحول دون استكمال بناء المسجد، استقصى الأمر من معاونيه، تدخل لتوفير الإمكانات اللازمة لاستكمال البناء، لم يكن يدري أنه سوف يدفن فى ضريح بهذا المسجد.
عندما بدأت الحشود الهائلة من المصريين البسطاء تزحف باتجاه بيت منشية البكرى، فور الإعلان عن وفاة الرئيس وقفت عند مدخل البيت مأخوذا بالمشهد الحزين، شاهدت عن بعد شخصا يرتدى زي طلاب الكلية البحرية الأبيض، لم أتبين فى البداية من هو، حتى أدركت بعد قليل أنه أخي عبدالحميد، أتوا به على عجل من الإسكندرية، وقف عبدالحميد عاجزا عن دخول البيت من فرط الحشود التي حاصرته بقلوبها وأحزانها. كنت قد قاربت العشرين من عمري يوم وفاة أبي، علاقتنا بالجيران فى منشية البكرى حكمتها قواعد أمن الرئيس، ومع ذلك لم نشعر يوما بأننا فى وضع أفضل لكوننا أبناء جمال عبدالناصر، ولا هو نفسه كان يسمح بأية ميزات لأبنائه، وذات مرة قال لي: لو استخدمت اسمي للإساءة إلى أحد أو تجاوز فى التصرف، فلن أتردد فى وضعك فى السجن الحربي. فى هذا اليوم الحزين طلب جيراننا من أطقم الحراسة رؤية خالد لتقديم واجب العزاء.

طلبوا من أمي فى اليوم التالى أن تذهب الى قصر القبة لتلقى العزاء من الشخصيات الدولية والعربية التى وفدت للعاصمة المصرية للمشاركة فى مراسم الجنازة. أمي لم تشعر بأنها في مكانها الطبيعي، كانت تقول باستمرار عن بيت منشية البكرى بيتي وقررت أن تعود لبيتها كي تتلقى العزاء فيه، وتتخفف من المراسم الرسمية، بلا قصر قبة أو إجراءات خاصة، فالعزاء أرادته من بسطاء المصريين وعامة الناس.
لثلاثة أيام تدفقت على بيتنا عشرات الألوف تعزي نفسها ولا تعزينا فى جمال عبدالناصر، الملايين أخذت طريقها من القرى البعيدة فوق أسطح القطارات في أكبر عملية زحف في التاريخ المصري نحو العاصمة، ضافت الطرقات بأحزان المصريين، كانت مصر تبكي الرجل الذى أحبها كما أحبته، كنا فى بيتنا مأخوذين بالمشهد الجليل فى غمرة الحزن لم نشعر بأننا نحزن بمفردنا، مات عبدالناصر يوم الاثنين مضى الثلاثاء ببطء أشد. مضى يوم الأربعاء والأحزان تفيض على جنبات النيل، حان يوم الخميس، الوداع الأخير لعبدالناصر، يوم الهول العظيم فى مصر، ليلتها وفى ظلمة الحزن أخذت مصر تنشد بأصوات ملايينها الملتاعة أنشودة الليلة الأخيرة الوداع يا جمال يا حبيب الملايين ثورتك ثورة كفاح عشتها طوال السنين.
فى صباح يوم الوداع الأخير وضع جثمان أبي فى طائرة هيلكوبتر بصحبة طائرتي شرف، حلقت الطائرات فى سماء القاهرة فوق النيل، فوق أمواج البشر التي تدفقت إلى الشوارع بالملايين، المشهد أثار الأحزان. أخذت الجماهير الغفيرة تتطلع بعيون دامعة إلى السماء:الوداع يا جمال.لحظتها وقفت فى أرض ملعب الجولف في نادي الجزيرة الرياضى مع شقيقي عبدالحميد وعبدالحكيم وصديقى محمد الجيار ومحمود القيسوني وكأننا يتامى بانتظار هبوط الطائرة بجثمان الأب الراحل. هبطت الطائرة ببطء، تحرك حرس الرئيس لنقل الجثمان بسيارة خاصة من الباب الخلفي للنادي القاهري الشهير إلى مقر مجلس قيادة الثورة على النيل، لم أذهب إلى نادي الجزيرة بعدها غير مرة أو مرتين، الذهاب إلى هذا النادي يستدعى أحزانا فوق طاقتي الإنسانية على التحمل، في مجلس قيادة الثورة وضعوا النعش على مصطبة عالية من الجرانيت، حكيم ارتمى باكيا على النعش، تصورنا فى البداية أن الجنازة سوف تمضي بتنظيم محكم، غير أن الأمور كلها أفلتت بضغط هائل من الجماهير الحزينة التى أخذت تصرخ يا ريس.. سايبنا ورايح فين
بدأ الموكب الحزين من مجلس قيادة الثورة، وضعوا جثمان أبي على مدفع، مشينا وراءه كما كنا نمشي دائما، لكنه الآن لم يعد معنا، تدفقت الحشود تحاول أن تقتحم الموكب الرسمي، وفرضت كلمتها في النهاية، ضغطت بتدافعها الرهيب على الرؤساء والقادة، تبخرت إجراءات الأمن المشددة ، وبعد قليل غادر المسؤولون الكبار الجنازة بنصائح أمنية، ومضيت مع اخوتي وأصدقائى وحدنا وسط الحشود الهائلة وراء المدفع حتى فندق هيلتون النيل، الناس يضغطون علينا من الخلف فى محاولة للمس نعش الرئيس، وربما بأمل إلقاء نظرة أخيرة عليه من قريب، وفى تدافع الجموع بدا شقيقى الأصغر عبدالحكيم 15 عاما فى ذلك الوقت يعانى بشدة من ارتطام متوال بالمدفع، وأخذ يصرخ: ضلوعى حتتكسر ثم نظر حوله وكنا قد تباعدنا عنه، وخشى أن يكون قد ضاع فى وسط الزحام الرهيب، وأخذ ينادي بصوت عال : أخوتى فين؟. كاد أن يضيع فعلا عبدالحكيم منا وسط تدفق أكثر من 5 ملايين مواطن فى تدافع رهيبب بأحزان كبرى على كوبرى النيل، خفت أن يضيع منا حكيم فى هذا اليوم، وأخذت أصرخ هاتوا أخويا الصغير. وكانوا قد حجزوا غرفة خاصة لوالدتي فى فندق هيلتون النيل، وعلى مقربة من هذا الفندق وقفت والدتي في أعلى مقر الاتحاد الاشتراكى تتابع الجنازة بقلبها ودموعها، ولعلها خشيت في هذا اليوم أن تفقد الزوج والابن الأصغر معا.
من عند فندق النيل هيلتون أخذت سيارة إلى الجامع الذى أصبح فيما بعد معروفا باسم جامع جمال عبدالناصر عبر طريق صلاح سالم بصحبة صديقى محمود الجيار، وصلنا بصعوبة بالغة قبل صلاة الجنازة، دخلنا إلى حرم الجامع من ناحية الكلية الفنية العسكرية، البوابة كانت مغلقة، وبدأت الجماهير المحتشدة تدرك أن أولاد عبدالناصر قد وصلوا ثم تحركوا باتجاهنا، وبسرعة أصدر الفريق أول محمد فوزى القائد العام للقوات المسلحة الذى كان يستند بظهره إلى جدار الجامع الخارجى أوامره بعمل كردون من قوات الصاعقة من حولى حرصا على حياتي من فيض عواطف الحشود، رأيت عمي عز العرب يبكي بهستيريا ويضع على طريقة أهل الصعيد فى إبداء الحزن التراب على رأسه ويقوم بتمزيق الستائر.
عاشت أمى سنوات طويلة بعد رحيل أبى، وتوفاها الله فى 25 مارس 1990، طوال هذه السنوات لم تخلع ملابس الحداد السوداء على جمال عبدالناصر، ألححنا عليها كثيرا لارتداء ملابس ملونة، وأحيانا كنا نبادر بشراء مثل هذه الملابس من أجلها، ونردد على مسامعها الحكمة المصرية الشهيرةالحزن فى القلب غير أنها لم تقتنع أبدا، وكان أملها الوحيد أن تدفن بجواره ذات يوم.
المدفن عبارة عن حجرتين، دفن أبى فى إحداهما، وفيما بعد دفنت أمى فى الثانية، يومها أخذت تطالب وسط موجات من البكاء ما يشبه الوصية. لازم ادفن معاه، فى حجرة الدفن رأيت أشرف مروان ومحمد الجيار، ربما كان هناك آخرون لا أتذكرهم الآن، وفى غمرة الحزن قال أحد ضباط الحرس الجمهورى: ياريت أنا اللى مت. وما إن انتهت إجراءات الدفن حتى أخذ بعض العمال يسدون القبر بالطوب، وهذه كانت أسوأ لحظة فى حياتى.
ا 2 ديسمبر1971، فى هذا اليوم عقدت قرانى على زوجتى داليا فهمى فى بيت منشية البكرى، فى حضور رئيس الجمهورية الجديد أنور السادات وعدد كبير من الوزراء وكبار المسؤولين، حرصت يومها على دعوة أساتذتى فى كلية الهندسة من جامعة القاهرة، السادات شهد على وثيقة الزواج في صالون جمال عبدالناصر، كل شيء يحيطه جلال الغياب، الملابس سوداء، وراعى الحضور إلى أقصى حد ممكن ضبط التصرفات المعتادة في مثل هذه المناسبات حرصا على مشاعر أسرتي، نزلت أمي من الدور الثانى، سلمت على الضيوف. وبدا أنها قد تقبلت التهاني كما هو معتاد فى الأفراح، غير أنها كانت في دنيا أخرى مع رجل آخر، فجأة أخذت تنظر حولها كمن تبحث عن شخص بعينه وتتوقع أن يكون على رأس الحفل السعيد، ثم أخذت تسأل :جمال فين.. الريس فين؟.. أمى سيدة مصرية بسيطة تؤمن بالله، وتصلى الفروض في مواقيتها، وتزور أولياء الله الصالحين وفى الملمات تلجأ لمقام سيدنا الحسين، وتدرك أن هذه إرادة الله وحكمته، غير أنها فى هذه المناسبة العائلية افتقدت وجود رفيق حياتها، غابت كل الوجوه، وحضرت صورته، وحدها فى القلب.. لعشر دقائق كاملة أخذت تسأل.. والدموع فى عيوننا، ولا مجيب، ماتت أمى منذ خمسة عشر عاما، وهناك فى أمتنا بأوضاعها المحزنة الحالية، من لا يزال يسأل بإلحاح: جمال فين.. الريس فين؟

 

Facebook
Twitter