تيتانك ( الحلم الذي غرق )علي الدندح

أحلام البشر عبر الزمان كانت و ما تزال تحمل بين طياتها نزعة التحدي و نبرة العصيان لطبيعة و جغرافية المكان , لكن هيهات هيهات لتلك الأحلام أن يكون لها الغلبة على ما أتقنته صنعة الرحمن من ابداع في سماء بناها و أرض سواها .

فمن بين أضغاث الأحلام البشرية و لدت سفينة الركاب البريطانية (( تيتانك )) و التي قدرت لها تلك الأحلام أن تكون قاهرة المحيطات و البحار , تمخر عباب الماء دونما كلل أو ملل , فكيف يمل أو يكل من لا يعرف الغرق .

هذه السفينة أو لنقل المدينة العائمة , توافرت لها عوامل عديدة لتجعلها بحق أسطورة في عالم البحار , فقد تم تصميمها و بناؤها في ترسانة هارلاند وولف في مدينة بلفاست ليبلغ طولها 269 مترا , بينما تم تصميم قاعها ليكون قاعا مزدوجا مانعا لتسرب المياه و مقسما الى ستة عشر جزءا و لقد روعي في هذا التصميم أن تكون السفينة مقاومة للغرق حتى ولو امتلأ /على أسوأ الظروف / أربعة أجزاء من قاع السفينة , لتتمكن على الرغم من ذلك على الأبحار بسلام و بلا أدنى تأثير على سلامتها .

و عندما أكتمل بناء هيكل السفينة تم تدشينها الى حوض المياه العميقة بترسانة هارلاند وولف و ليتم تحقيق الجزء الاخر من الحلم بأن يكون تأثيثها فاخرا يوفر أقصى درجات الراحة و الرفاهية لركابها , و لقد استغرق هذا التأثيث حوالي عشرة أشهر روعي فيه استخدام أفخر أنواع الأثاث لتلبة جميع الأذواق و الرغبات , لهذا فقد تنوعت أنماط أثاثها بين نمط عصر النهضة الايطالي و النمط الالماني القديم و النمط الامبراطوري , بينما استوحيت زخرفات الدرجة الاولى من زخارف قصر فرساي .

و لقد روعي في تصميم ( التيتانك ) أيضا و جود أجنحة فاخرة خاصة بالاقامة على ظهر السفينة تتكون من حجرة للمعيشة و الاستقبال و حجرتين للنوم و حجرتين لتخزين الملابس و حمام و دورة مياه خاصة و ممشى ممتد أمام الجناح ليتمكن من خلاله قاطنيه من رؤية البحر و السير على ظهر السفينة بهدوء و سكينة .

كما راعى مصممو ( التيتانك ) و جود حمامات تركية و و أخرى كهربائية و صالة ألعاب رياضية و ملعب لممارسة رياضة الاسكواش , و لقد زودت السفينة بستة عشر قاربا خشبيا للأنقاذ أضافة الى اربعة قوارب مطاطية قابلة للطي مما يتيح قدرة أنقاذ لحوالي ( 1178 ) مسافرا , أي ما يعادل نصف عدد الركاب الذين يمكن أن تحملهم ( التيتانك ) و المقدر عددهم ب ( 3547 ) راكبا , كما زودت السفينة برفاص بخاري بحري عملاق ثلاثي المراوح بينما تم تحميل السفينة بحوالي ( 5892 ) طنا من الفحم لتشغيل محركات السفينة التي تستهلك ( 690 ) طنا من الفحم يوميا .

لكل ذلك لم يكن مستغربا أبدا أن يكتب توماس أندروز المدير الاداري في ترسانة هارلاند وولف الذي أشرف على تصميم و وضع جميع اللمسات الخاصة ببناء التيتانك قائلا : ان السفينة متقنة الصنعة كما أرادتها العقول البشرية أن تكون ) و لكن من العجائب أن يكون قائل هذه الكلمات أحد ضحايا السفينة .

بداية أم نهاية ؟!

بدأت رحلة التيتانك الاولى قاهرة الغرق كما صورتها أحلام البشر في منتصف نهار يوم الاربعاء 12/4/1912 / م , من مدينة سويز هامبتون في انكلترة في طريقها الى مدينة نيويورك الامريكية و على متنها ( 2200 ) راكب من بينهم عدد كبير من الشخصيات العامة و المهمة و العديد من رجال الأعمال الذين رأوا في عبور الاطلنطي على متن هذه السفينة رحلة امنة و نزهة جميلة .

بدأت الرحلة بقيادة الكابتن ( ادوارد . ج . سميث ) الذي كان يطلق عليه لقب كابتن المليونيرات و الذي يخطط للتقاعد عقب قيادته للسفينة أقصد المدينة العائمة , الا أن الاقدار لم تمهله , ففي حوالي الساعة الحادية عشرة و أربعون دقيقة من مساء يوم 14 / 4 / 1912 / م , و نظرا للسرعة العالية التي قدرت ب 21 عقدة بحرية في منطقة مليئة بجبال الثلج ارتطم قاع السفينة باحدى هذه الجبال العائمة مما أدى الى وقوع شروخ بقاع السفينة و دخول الماء الى خمس من أجزاء قاع السفينة الستة عشر لتنشق السفينة عقب ذلك الى جزأين و تغرق في مياه الأطلنطي في الساعة الثانية و عشرين دقيقة من صباح يوم 15 / 4 / 1912 / م .

و من المفارقات أنه بينما كانت التيتانك تعاني أهوال الغرقو اشارات الاستغاثة تنبعث منها كانت أقرب سفينة تبتعد عنها مسافة 32 كم , الا انه نظرا لعدم وجود عامل لاسلكي في نوبة عمل على ظهر تلك السفينة لم تتمكن السفينة من التقاط و سماع استغاثات التيتانك و تقديم العون لها و الذي كان من الممكن أن يسهم في تقليل حجم الخسائر حيث ان أقرب سفينة استمعت الى استغاثة التيتانك مانت السفينة ( كارباثيا ) التي وصلت الى موقع التيتانك في الساعة الرابعة من صباح يوم 15 / 4 / 1912 / م , أي بعد حوالي ساعتين من غرق التيتانك لتتمكن من التقاط حوالي  ( 705 ) من الناجين من ركاب التيتانك معظمهم من السيدات و الاطفال , بينما فقد في هذه الكارثة المروعة حوالي ( 1517 ) من ركاب السفينة بينهم كابتن السفينة ادوارد ج . سميث و العديد من المشاهير أمثال جون يعقوب أستور المليونير المشهور و وليم طوماس الصحفي البريطاني المشهور .

اختطاف على ظهر السفينة :

من بين الناجين أيضا من ركاب التيتانك كان هناك طفلان احدهما يدعى ميشيل و يبلغ من العمر ثلاث سنوات و الاخر يدعى أدموند و يبلغ من العمر عامان و قد كان هذان الطفلان بصحبة والدهما الذي سجل نفسه في سجلات السفينة بأسم م . هوفمان و عندما بدأت السفينة بالغرق فانه قام بتدثير الطفلين و مناولتهما لاحدى النساء الموجودات في قارب من قوارب النجاة و عندما وصلت هذه المرأة و تدعى الأنسة مارجريت هيوز الى مدينة نيويورك فانها اعتنت بالطفلين حتى تم لقاؤهما بوالدتهما مارسيل لافارتينل لتكشف الستار عن قصة اختطاف هذين الطفلين بواسطة والدهما ميشيل عقب طلاقها منه و سفره على متن التيتانك بالاسم المستعار م . هوفمان .

و في مقابلة اجريت عام 1998 / م مع الطفل ميشيل الذي كان قد أصبح عجوزا في عامه التاسع و الثمانين أستدعى من ذاكرته الأحداث الأليمة و كيف تم وضعه في سلة من القصب و رفعه الى سطح سفينة الانقاذ كارباتيا ليكتب له النجاة و العيش .

الدروس المستفادة من الكارثة :

لم تمر كارثة السفينة ( تيتانك ) مرور الكرام فقد كان الدور الذي أحدثته أكبر من أن يسدل عليه الستار و كما يقول المثل ( رب ضارة نافعة ) فقد عقد في عام 1913 / م في لندن مؤتمرا بعنوان ( سلامة الأرواح عند السفر بحرا ) تم فيه وضع قواعد للأمان كان من أهمها :

– و جوب وجود عامل لاسلكي في نوبة عمل 24 ساعة + و جوب توفير قوارب انقاذ تكفي لجميع المسافرين على متن اي سفينة بحرية , حيث أن التيتانك لم يكن على ظهرها قوارب الا لحوالي نصف عدد الركاب .

أرجو أن يستفيد رجل الأعمال الأسترالي المليونير ( كلايف بالمر ) من هذه النصائح خصوصا أنه في ظل التطور الهائل بعالم الاتصالات سنوفر عليه اجرة عامل الاسلكي , فالرجل عزم على بناء سفينة تكون طبق الأصل لسفينة التيتانك الغارقة بشكلاها الخارجي و عدد الركاب  فقط زيادة في التكييف و عدد قوارب النجاة , و السفينة ستبحر في يوم الأربعاء 12 / 4 / 2016 / م .

في النهاية فقد غرق حلم من أحلام الانسان , لكن هذا الانسان لم يشعر أبدا بالعجز و ها هو يواصل الحلم دون غرق .

Facebook
Twitter