تكامل قوى المقاومة وحركة التحرر العربية

د. محمد السعيد ادريس

 

قد يتصور البعض أن الانقسام الحالى فى أوساط الأمة العربية خاصة أوساط ما هو رسمى وما هو شعبى عربى بين خيار السلام وخيار المقاومة هو التحدى الأهم الذى يواجه خيار المقاومة، خاصة فى ظل إصرار النظام الرسمى العربى على التمسك بما يسميه خيار السلام رغم كل الفشل الذى يواجه هذا الخيار الذى أصاب النظام العربى بحالة غير مسبوقة من العجز والفشل والتردى، لكن واقع الأمر يؤكد أن خيار المقاومة يواجه أيضاً بتحديات قد تفوق ذلك الانقسام وآثاره السلبية، والتى لا يمكن التهوين من أخطارها.
فخيار المقاومة يبقى خياراً دفاعياً بالأساس، ويبقى محكوماً بمواجهة الاعتداءات التى تتعرض لها الأقطار العربية أو تتعرض لها الأمة جمعاء، ويبقى محكوماً ثانياً بصد الاعتداءات الخارجية وعلى الأخص الاعتداءات العسكرية، أو مواجهة مصادر التهديد العسكرية دون غيرها من مصادر التهديد المتنوعة وخاصة التهديدات السياسية والاقتصادية والثقافية الخارجية إضافة إلى التهديدات الداخلية، وبالذات ما له علاقة بالتهديدات الخارجية وما يعتبر امتداداً لها.
النموذج المباشر لذلك ما يواجه المقاومة اللبنانية من انقسام وطنى حول مبررات استمرار المقاومة ومبررات الحفاظ على سلاح المقاومة مع انتفاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى اللبنانية، هذا الانقسام سوف يتضاعف بالنسبة للمقاومة العراقية مع انسحاب القوات الأمريكية وفق ما هور مقرر أمريكياً. فعندها سيطرح السؤال نفسه: مقاومة لمن؟ ومقاومة من أجل ماذا؟
فعلى الرغم من استمرار التحديات، واستمرار أعوان الاحتلال فى تنفيذ مشروعه بعد انسحابه، إلا أن كل هؤلاء لا يمكن من منظور المقاومة التعامل معهم على أنهم أعداء يستحقون المقاومة العسكرية.
لكن الأهم من ذلك أن المقاومة تواجه مأزقين رئيسيين من شأنهما إغلاق أفق المستقبل أمام المقاومة:
المأزق الأول: هو علاقة المقاومة بالقيود المفروضة عليها كونها تنتمى إلى دولة عربية بعينها، ومطلوب منها أن تبقى محكومة بحدود "المواطنة" ولا تتجاوزها، وأن تلتزم بمبدأ المواطنة فى إطاره الجغرافى ولا تتعداه إلى خارج الحدود الجغرافية للدولة التى تنتمى إليها، هذا المأزق يتجلى بالنسبة للمقاومة الإسلامية وأيضاً للمقاومة ذات الهوية القومية، فكلاهما المقاومة الإسلامية والمقاومة القومية لا تعترفان بحدود التقسيم المفروضة على الأمة، وترى أنها ملزمة بحدود الهوية والانتماء وليس بحدود الجغرافيا الضيقة، لكنها، رغم ذلك تواجه بقيود هائلة للخروج من شرنقة الجغرافيا إلى رحابة الهوية كى تمارس مهامها الإسلامية أو القومية بالتصدى لأعداء الأمة خارج الحدود الضيقة للوطن الصغير (الدولة) الذى تنتمى قسراً إليه.
المأزق الثانى: هو تلك التحديات الهائلة المتنوعة التى تواجه الأمة والتى تتجاوز حدود التهديدات العسكرية الخارجية، وتعرض دولة عربية للغزو وآخر للاحتلال الأجنبى. فالأمة ومنذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الماضيين تواجه صراعاً هائلاً مع المشروعين الصهيونى اليهودى والاستعمارى الغربى، على نحو ما كتب نجيب عازورى عام 1905 فى كتابه (يقظة العرب) بقوله: "هناك حادثان هامان من طبيعة واحدة، ولكنهما متعارضان، وهما يقظة الأمة العربية والجهد اليهودى الخفى لإنشاء إسرائيل القديمة من جديد وعلى مقياس أوسع، إن مصير هاتين الحركتين هو الصراع المستمر إلى أن تغلب إحداهما الأخرى".
هكذا، الصراع المستمر، والصراع هو مزيج من الحروب والمقاومة والمواجهة، وامتلاك القدرات بين هذين المشروعين إلى أن يتغلب أحدهما على الآخر، بدافع من خصوصية هذا الصراع باعتباره ليس مجرد خلاف فى الرأى أو حتى فى المصالح بقدر ما هو صراع حول الوجود ذاته.
هذا الوعى المبكر الذى كشف عنه نجيب عازورى لم يأت من فراغ، ولكنه تولد من إدراك لواقع كان يتشكل منذ منتصف القرن التاسع عشر (1850) عندما ظهر مصطلح "الشرق الأدنى" الذى سبق ظهور مصطلح "الشرق الأوسط"، ليس كمجرد مصطلح سياسى أو جغرافى ولكنه كان يعكس مفاهيم محددة لمشروع استعمارى استهدف المناطق التى استوعبها وخاصة تركيا وسوريا وفلسطين ولبنان ومصر وجزيرة قبرص، وهى المناطق التى كانت تشملها أغلب أجزاء الإمبراطورية العثمانية، وظهر هذا المصطلح ليعبر عن مشروع يستهدف الاستحواذ على هذه المناطق ضمن مخطط تفكيك الإمبراطورية العثمانية.
وعلى السياق نفسه تطور مفهوم الشرق الأوسط ليعبر عن مشروع استعمارى تزامن أو توافق مع ظهور الصهيونية كحركة سياسية عالمية منظمة، ويشمل منطقة تشكل امتداداً للشرقين الأدنى والأقصى وهى أغنى المناطق فى العالم بالنفط والمعادن وتتمتع بمركز استراتيجى هام بين القارات الثلاث: أوروبا وآسيا وأفريقيا، وتشمل بلدان شبه الجزيرة العربية والعراق وإيران وأفغانستان إضافة إلى كل المشرق العربى ومصر، وهو بهذا المعنى أضاف دولاً إلى العالم العربى، واستبعد دولاً عربية، ولم يكن ذلك محض استبعاد أو ضم جغرافى ولكنه كان لصيقاً ﺑ "حرب الهويات" التى باتت تمثل عصب فكرة احتواء "المشروع العربى" وتفكيكه.
فبعد مرور مئة عام على مجئ الحملة الفرنسية إلى مصر والشام 1798، وتحديداً عام 1897، وفى مدينة (بازل) بسويسرا؛ انعقد المؤتمر الصهيونى الأول برئاسة ثيودور هرتزل، وكانت خيوط المؤامرة تحاك ضد الأمة العربية والإسلامية فى غفلة منها، حيث تم خلال هذا المؤتمر تحديد معالم وقسمات الحركة الصهيونية وأهدافها، وفى الوقت ذاته تم خلال المؤتمر أيضاً توثيق عرى التحالف بين المخططات اليهودية والمخططات الاستعمارية، وهو التحالف الذى أسفر عن تزاوج غير شرعى بين المشروع الغربى الاستعمارى والمشروع الصهيونى ضد الأمة العربية، وتمخض عن ولادة دولة (إسرائيل) واحتضانها بالرعاية والمساندة والتأييد حتى الآن، حيث اقتنعت الدول الاستعمارية آنذاك بضرورة إجراء تغييرات على أسلوبها الاستعمارى القائم على الغزو الحربى الذى ثبت فشله، إلى أسلوب آخر غير تقليدى، ومن ثم فقد تبنى المشاركون فى المؤتمر وجهة نظر ثيودور هرتزل وخطته التى كانت تقوم على زرع دولة قوية وغريبة فى المنطقة العربية – وهى (إسرائيل) – حتى تصبح عضواً من أعضاء الأسرة الإقليمية، وفى الوقت ذاته تكون أداة فى يد الاستعمار، وقد خطط هرتزل لكى تقوم هذه الدولة على جثة الشعب الفلسطينى وذلك حينما نادى بإقامة "دولة لشعب بلا أرض فى أرض بلا شعب".
ومن ثم فقد التقى الفكر اليهودى مع الفكر الاستعمارى، وقد وجد الغرب ضالته فى هذا الاقتراح لأنه كان يهدف إلى إقامة دولة تكون بمثابة قاعدة سياسية واقتصادية يحقق بها مصالحه السياسية والاقتصادية، وتعمل هذه الدولة على إبقاء حالة التخلف فى العالم العربى، وتحول دون قيام دوله عربية أو إسلامية موحدة، وتفتيت العالم العربى والإسلامى إلى وحدات صغيرة فضلاً عن خلق صور وأشكال عديدة من التناقضات والخلافات البينية داخل علاقات هذه الدول. ومنذ ذلك الحين تكاتفت القوى الاستعمارية فيما بينها – لأسباب ودوافع مختلفة – لكى تقام دولة (إسرائيل) على أنقاض الشعب الفلسطينى.
وقد تأكد هذا التكاتف فى المقررات التى صدرت عن المؤتمر الاستعمارى الذى نظمه حزب المحافظين البريطانى سراً
تحت رعاية وإشراف وزير المستعمرات كامبل بنرمان عام 1905 وامتد لعامين وعرف باسم "مؤتمر كامبل بنرمان"، وامتد هذا المؤتمر حتى عام 1907 بمشاركة دول أوروبية عديدة هى: بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وأسبانيا وإيطاليا، وصدر عنه وثيقة شديدة الخطورة والأهمية حملت اسم "وثيقة كامبل بنرمان" الذى أصبح رئيساً للوزراء وقت صدور هذه الوثيقة التى جاءت متطابقة تماماً مع مقررات مؤتمر بازل الصهيونى ومع ما كتبه ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية العالمية عام 1897 فى يومياته بقوله: "يجب قيام كومنولث شرق أوسطى يكون لدولة اليهود فيه شأن قيادى فاعل، ودور اقتصادى وتكون المركز لجلب الاستثمارات والبحث العلمى والخبرة الفنية". فقد نصت "وثيقة كامبل بنرمان" على الخلاصة التالية:
"إن البحر المتوسط هو الشريان الحيوى للاستعمار لأنه الجسر الذى يصل الشرق بالغرب، والممر الطبيعى إلى القارتين الآسيوية والأفريقية وملتقى طرق العالم، وأيضاً هو مهد الأديان والحضارات". والإشكالية فى هذا الشريان كما جاء فى نص الوثيقة هى أنه "يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان"، ولحل هذه الإشكالية التى اعتبرها المشاركون فى هذا المؤتمر مصدر التهديد الأهم للغرب ولمشروعه الاستعمارى تم التوصل إلى مجموعة من المهام أو سياسات المواجهة التى تم دمجها فى سياستين رئيسيتين:
السياسة الأولى: إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة وعلى هذا الأساس قاموا بتقسيم دول العالم بالنسبة إليهم إلى ثلاث فئات: الفئة الأولى: دول الحضارة الغربية المسيحية (دول أوروبا وأمريكا الشمالية واستراليا) والواجب تجاه هذه الدول هو دعم هذه الدول مادياً وتقنياً لتصل إلى مستوى تلك الدول.
الفئة الثانية: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ولكن لا يوجد تصادم حضارى معها ولا تشكل تهديداً عليها (كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها) والواجب تجاه هذه الدول هو احتواؤها وإمكانية دعمها بالقدر الذى لا يشكل تهديداً عليها وعلى تفوقها.
الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضارى معها وتشكل تهديداً لتفوقها (وهى بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام) والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها فى هذا المجال ومحاربة أى اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية.
السياسة الثانية: محاربة أى توجه وحدوى فيها، ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى إقامة دولة فى فلسطين تكون بمثابة حاجز بشرى قوى وغريب ومعادى يفصل الجزء الأفريقى من هذه المنطقة عن القسم الآسيوى والذى يحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب واعتبار قناة السويس قوة صديقة للتدخل الأجنبى وأداة معادية لسكان المنطقة، وهكذا فإن فرض التخلف الدائم وحجب العلم عن هذا "الشعب الواحد صاحب التاريخ الواحد والدين الواحد واللسان الواحد" والعمل على فرض التجزئة والتقسيم عليه والحيلولة دون وحدته، وجاءت التطورات المتلاحقة بهدف تنفيذ هاتين السياستين والتى وجدت من الحربين العالميتين الأولى والثانية الفرص المناسبة لتحقيقها.
كانت البداية بفرض الاستعمار الغربى على معظم الدول العربية، وتصفية الإمبراطورية العثمانية، وتقسيم الوطن العربى إلى دويلات مفعمة بكل أسباب التوتر وعدم الاستقرار(العرقية والطائفية)، وافتعال أزمات الحدود، عبر اتفاقية سايكس – بيكو) ومن بعدها وعد بلفور الذى وضع اللبنات الأولى للدولة الصهيونية فى الرسالة التى بعث بها المستر بلفور وزير خارجية بريطانيا فى 2 نوفمبر/ تشرين الثانى عام 1917 إلى اللورد روتشيلد ممثل الاتحاد الصهيونى وجاء فيها: "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومى فى فلسطين للشعب اليهودى، وستبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف". ومنذ هذا التاريخ بدأ المشروع الصهيونى فى لقائه بالمشروع الاستعمارى الغربى يروج لمصطلح الشرق الأوسط كبديلاً للوطن الواحد والشعب الواحد والأمة الواحدة، نظراً لأنه ملتقى القارات الثلاث ويشرف على أهم الممرات المائية كقناة السويس، ومضيق باب المندب، والخليج، وخليج العقبة ومضيق هرمز، ويختزن أكثر من ثلثى احتياطى النفط العالمى. وتخشى الصهيونية والاستعمار من إقامة دولة اتحادية عربية قوية وغنية ومسلحة بالثروة النفطية والقومية العربية والعقيدة الإسلامية.‏
المقاومة وصراع المشروعات
لقد وضع هذا التلاقى بين المشروعين الصهيونى والاستعمارى الغربى الأمة العربية هدفاً للسيطرة والهيمنة متخذاً من "تهويد فلسطين" وتحويلها إلى قاعدة صناعية متطورة لتكون حجر الزاوية فى المشروع الغربى الاستعمارى وإقامة الشرق أوسطى الذى يريدونه على أنقاض الوطن العربى أو الوطن الواحد والشعب الواحد ذو اللغة الواحدة الذى يعتبرونه مصدر كل الخطر على هذين المشروعين الصهيونى والاستعمارى الغربى.
وهكذا نستطيع أن نقول أن قيام دولة إسرائيل عام 1948 كان أولى خطوات النجاح الاستعمارية لفرض مشروع الشرق الأوسط كمشروع للهيمنة الغربية الاستعمارية، وبعد قيام إسرائيل توالت الخطط والأفكار والمقترحات من جانب بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لتفكيك المشروع العربى لصالح مشروع الشرق الأوسط وفى القلب منه المشروع الصهيونى.
لقد كان تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945 خطوة فى الطريق المخالف لمسار تطور أحداث مشروع الشرق الأوسط، وهنا تطرح علامة استفهام كبيرة حول الدور البريطانى فى المشروعين: مشروع الشرق الوسط والمشروع العربى، لكن طرح علامة الاستفهام هذه يكشف النقاب عن محورية الدور العربى فى تأسيس جامعة الدول العربية، أو على الأقل فى تحديد هوية وأهداف هذه الجامعة بما يتعارض مع المشروع الصهيونى – الاستعمارى للشرق الأوسط بدليل دخول جيوش عربية فى الحرب ضد الكيان الصهيونى عام 1948، وبدليل التصدى العربى للمقترحات البريطانية والأمريكية الجديدة لتطوير مشروع الشرق الأوسط على حساب المشروع العربى ابتداء من "مشروع ترومان" عام 1949 الذى عرف فى العالم العربى باسم "مشروع النقطة الرابعة" نسبة إلى المادة الرابعة منه، وتضمن إمكانية تقديم مساعدات سياسية واقتصادية وعسكرية إلى دول منطقة "الشرق الأوسط" الواقعة تحت النفوذ الغربى، ثم مشروع "القيادة الرباعية للشرق الأوسط" فى عام 1951، لإقامة سلسلة من التحالفات السياسية والعسكرية مع دول المنطقة والتنسيق والتعاون بينها، ثم مشروع "قيادة الشرق الأوسط العسكرية" أو "الحزام الشمالى للمنطقة" التى تضم بعض الدول العربية وبعض دول الحوار فى آسيا، إضافة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وتمخض عن ذلك ما عرف ﺑ "حلف بغداد".
لقد استطاع النظام العربى أن يصمد أمام كل هذه المشروعات لكن قيام ثورة 23 يوليو فى مصر عام 1952 حول الصمود إلى مواجهة وبالذات حول مشروع "قيادة الشرق الأوسط"، أو "سياسة الأحلاف الأمريكية"، وعلى الأخص منها "حلف بغداد".
بداية هذه المواجهة التى تحولت فيما بعد إلى صدام عسكرى أو عدوان ثلاثى بريطانى- فرنسى – إسرائيلى عام 1956 ارتبطت برفض مصر الدخول فى الحلف الدفاعى الذى اقترحته بريطانيا والذى يضم كلاً من بريطانيا والعراق وتركيا وباكستان. فبعد أربعة أيام فقط من توقيع العراق وتركيا على المعاهدة الرسمية المسماة ﺑ"حلف بغداد" فى 24 فبراير 1955 والتى انضمت إليها بريطانيا وباكستان وإيران فى أبريل من العام نفسه، بدأت أزمة جديدة فى العلاقات بين مصر والغرب، أشعلها الهجوم الإسرائيلى على مواقع الجيش المصرى فى قطاع غزة.
فى هذه اللحظة بالتحديد، بدأت علاقة مصر بالغرب تأخذ منحنى آخر، فقبل ذلك كان لدى مصر اعتبارات عدة تبرر الأمل فى إقامة علاقات ودية مع الغرب، أهمها المرونة التى أبدتها إدارة الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور إزاء قضية الصراع العربى – الإسرائيلى والعلاقات مع مصر، والتى توجت بتوقيع اتفاقية بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية فى عام 1954 تقضى بتزويد مصر بمعونة اقتصادية قدرها 40 مليون دولار.
لكن الهجوم الإسرائيلى على غزة، إلى جانب "حلف بغداد"، اعتبرته مصر جزأ من مؤامرة إمبريالية يدبرها الغرب للقضاء على الثورة والسيطرة على الوطن العربى مرة أخرى، وتمثل ردها على ذلك فى قرارين: الأول، الاتجاه نحو شراء سلاح لردع إسرائيل عن شن أى هجمات جديدة. والثانى، تعزيز ترتيبات الأمن داخل الجامعة العربية من خلال إبرام سلسلة من المعاهدات الدفاعية مع الدول العربية الحليفة كسبيل لمواجهة حلف بغداد.
كانت هذه هى البداية الحقيقية لبلورة مشروع عربى نهضوى تحررى تقوده حركة القومية العربية الناهضة بزعامة مصر الناصرية خاضت المواجهة من أجل تحرير الوطن العربى والسعى إلى وحدته وتقدمه ونهوضه، وكان عقدا الخمسينيات والستينيات حافلين بكافة أنواع المواجهة والحروب بين المشروع الإمبريالى الغربى – الصهيونى، والمشروع القومى العربى وهى المواجهة التى وصلت إلى ذروتها فى حرب يونيو 1967 لكسر هذا المشروع العربى الذى كان يمثل تحدياً شاملاً للمشروع الغربى الاستعمارى فى سياسة فرض التخلف والتجزئة والتقسيم على الوطن العربى.
هذه التجربة النضالية العربية التى فجرتها الحركة التحررية للقومية العربية فى عقدى الخمسينيات والستينيات كانت لها خصوصياتها وفى مقدمتها أنها كانت تجسيداً للاستجابة لطموحات ومواجهة تحديات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ورواسب الحرب العالمية الأولى، وانسجام مع القيم والمبادئ التى ارتكز عليها النظام العالمى الجديد كما هى مدونة فى ميثاق منظمة الأمم المتحدة وخاصة مبادئ التعاون الدولى وحل المشاكل والأزمات بالطرق السلمية ونبذ الحروب، ورفض التدخل فى الشئون الداخلية للدول والدفاع عن سيادتها الوطنية، لكنها كانت أيضاً، وهذا هو الأهم، تعبيراً عن واقع سياسى عربى جديد فرضه تفجر الثورة العربية فى مصر، وبروز زعامة جمال عبد الناصر التى جعلت من مصر الناصرية قاعدة للنضال التحررى الوحدوى العربى، والتى استطاعت أن تلتقى مع نظم حكم عربية أخرى شاركتها الأهداف والمبادئ، لكن الأهم هو أنها استطاعت أن تلتقى مباشرة مع الشارع العربى متجاوزة حدود التقسيم والتجزئة ودون وساطة من أحزاب أو أنظمة حكم أو حتى جامعة الدول العربية التى بقت إطاراً نظامياً تلتقى فيه نظم الحكم العربية على قاعدة التنسيق الضيقة التى فرضها ميثاقها الذى فرضته اعتبارات التأسيس عام 1945 فى ظل خضوع معظم الدول العربية للاستعمار الغربى.
والآن تواجه الأمة العربية تحديات أكثر ضراوة وقسوة فرضتها نتائج سقوط النظام العالمى السابق ثنائى القطبية وظهور معالم نظام عالمى جديد لا تتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادته فحسب، وإنما تسعى إلى فرض نظام إمبراطورى عالمى يؤسس من خلال سيطرتها الكاملة على ما تسميه ﺑ "إقليم الشرق الأوسط الكبير" الذى يهدف إلى فرض الهيمنة الأمريكية الكاملة على مقدرات وثروات هذا الإقليم وفى مقدمتها الثروات النفطية، من خلال السيطرة المباشرة ومن خلال إعادة تقسيم ما سبق تقسيمه بعد الحرب العالمية الأولى ومن خلال فرض ما سمى ﺑ "سياسة الفوضى البناءة" بإشعال الحروب الطائفية والمذهبية لتأسيس هذا النظام الشرق أوسطى على قاعدة الدولة الطائفية والعرقية التى يستطيع من خلالها الكيان الصهيونى القيام بدور القوة الإقليمية العظمى المهيمنة.
لقد كانت الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 واحتلاله التى تعمدت بعض دوائر الفكر الاستراتيجى الأمريكى تسميتها ﺑ "الحرب العالمية الرابعة" (اعتقاداً بأن الحرب الباردة كانت بمثابة حرباً عالمية ثالثة) هى البداية لفرض هذا المشروع الإمبراطورى الأمريكى الذى ضرب عرض الحائط بكل مبادئ وأهداف النظام العالمى السابق وكل مبادئ القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة وعلى الأخص احترام السيادة الوطنية للدول، وهى البداية أيضاً لفرض مبادئ بديلة تجسدها الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التى حملت اسم "استراتيجية الضربات الوقائية" التى تعطى للولايات المتحدة، دون غيرها، حق التدخل فى الشؤون الداخلية للدول، وحق استخدام القوة ضد من تريد، وحق تقسيم العالم إلى معسكرين أولهما تابع للهيمنة الأمريكية تحت مسميات متنوعة أبرزها محور الاعتدال، وثانيهما معارض يحمل اسم "محور الشر"، وعندما قررت الولايات المتحدة غزو العراق تجاوزت الأمم المتحدة والمجتمع الدولى كله، وأصدرت قراراً أمريكياً منفرداً بالغزو أيدته بريطانيا وأسبانيا وفرضته على العالم من أجل تأسيس إمبراطورية الشرق الأوسط الكبير.
فمشروع "الشرق الأوسط الكبير" كان التعبير السياسى المرافق للغزو وللاحتلال الأمريكى للعراق باعتبار أن هذا المشروع وهذه الحرب سوف تؤسسان معاً لفرض الإمبراطورية الأمريكية. ويكمن الغرض من توسيع هذا المشروع الإمبراطورى لإقليم الشرق الأوسط ليمتد إلى وسط آسيا فى حرص واشنطن على فرض سيطرتها الكاملة على أهم منابع النفط فى العالم وفقاً لتطلعات تيار المحافظين الجدد الذى يرى أن هذه السيطرة ضرورية لبناء النظام الإمبراطورى الأمريكى.
وقد عبر الكثير من مفكرى هذا التيار عن هذا الطموح على نحو ما أوضح ريتشارد كراوتهامر، وهو أحد أبرز المعبرين عن هذا التيار فى شرحه لمطلب التغيير وإعادة رسم الخريطة الإقليمية للشرق الأوسط. فقد قال كراوتهامر أمام معهد " أميريكان انتربرايز": "إن الولايات المتحدة الأمريكية الآن فى صراع مع العالم العربى – الإسلامى مثل الصراع الذى خاضته فى سنوات الحرب الباردة مع العالم الشيوعى". معنى هذا أنه يعبر عن مشروع يضع هذه المنطقة على خط مواجهة معهم، ويعتبرها بتكوينها الحالى مصدر الخطر عليهم، ومن حقهم التدخل فيها لإعادة تشكيلها بالصورة التى يرونها منزوعة الخطر من وجهة نظرهم، من خلال إعادة صياغة المجتمعات والأنظمة العربية والنظام العربى وأغلب العالم الإسلامى، لكنه يتعامل مع المنطقة أيضاً كمصدر للكسب من خلال تجيير كل ثرواتها لخدمة المشروع الإمبراطورى الأمريكى من ناحية ولخدمة إسرائيل، وذلك بالربط بين الديمقراطية والسلام.
ولا يكشف النص الذى حمل اسم "مشروع الشرق الأوسط الكبير" عن جوهر هذا المشروع، فالنص جاء مخادعاً، حاول أن يتستر وراء دعوة الإصلاح الديمقراطى داخل الدول العربية، وحاول أن يتخفى وراء التحليل الصادر عن تقرير التنمية الإنسانية لعام 2003 وذلك من خلال تقديم مبررات مقنعة لأهمية وضرورة الإصلاح السياسى والديمقراطى والثقافى فى دول العالم العربى والإسلامى، ومن خلال تبنى أجندة هذا التقرير المتركزة حول قضايا أو مطالب ثلاثة هى: إقامة مجتمع المعرفة، والحرية، وتمكين المرأة، وهى قضايا قد يراها البعض ضرورية وهذا هو الهدف الأمريكى من تبنى هذه القضايا الثلاث، أى إكساب المشروع الأمريكى قبولاً شعبياً عربياً يضمن له النجاح، فى حين أن الأهداف الحقيقية التى يمكن استخلاصها من أدبيات هذا المشروع شئ آخر أكثر خطورة من كل ما هو متصور.
بدايات التفكير فى هذا المشروع ترجع إلى عملية البحث عن صيغة أفضل للحفاظ على المصالح والأهداف الأمريكية طويلة المدى والتى تتم من خلال تقريرى الاستراتيجية الشاملة اللذين تعدهما كل من وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات كل عقد من الزمان لرسم الخطوط العريضة للاستراتيجيات الأمريكية المستقبلية على ضوء توقعاتهم لخريطة العالم خلال المرحلة التالية.
وإذا كان هذان التقريران لم يركزا بشكل محدد على العالمين العربى والإسلامى، فإن أفكاراً أخرى أهم تم الدفع بها من خلال مساهمات عدد من أهم مراكز البحوث والدراسات التى لها صلات قوية بمراكز صنع القرار فى الولايات المتحدة الأمريكية. فخلال مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001 بدأت المشروعات تتوالى بداية بما سمى ﺑ "مشروع مارشال جديد للشرق الأوسط" والمعروف باسم "الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية"، وامتداداً لمشروع "دمقرطة العالم العربى" وغيرهما، وكانت أغلبها تركز على ثلاثة محاور أساسية هى: تغيير المنطقة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، على أساس تعريف الولايات المتحدة الأمريكية لمصالحها فى محيط هذا الشرق الأوسط الكبير.
مؤسسة راند للأبحاث قدمت تعريفاً مهماً لهذه المصالح يشمل:
حماية بقاء إسرائيل، والتوصل لسلام فى الشرق الأوسط، واستمرار تدفق النفط بسعر مناسب، ومنع قيام أنظمة قوية تعادى الولايات المتحدة الأمريكية فى أنحاء المنطقة، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، والدفع بعملية إصلاح سياسى واقتصادى ومكافحة الإرهاب. وهناك دراسات أخرى قدمت إسهامات بشأن تلك الأهداف ووسائل تحقيقها، مثل الدراسة التى أجراها المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية والتى أشرف عليها فرانسوا هايبورج وحملت عنوان "أى استراتيجية نتبع من أجل شرق أوسط كبير؟"، أو مثل الدراسة التى أصدرها معهد أبحاث السياسة الخارجية والتى حملت عنوان "الشرق الأوسط الكبير عام 2005" والتى كتبها آدم جار فينكل، وكتاب زالماى خليل زاد بعنوان "مصادر الصراع فى القرن الواحد والعشرين – الاستراتيجية الأمريكية ومصادر المناطق" الصادر ضمن مطبوعات راند عام 1998.
بعض هذه الدراسات يروج لمفهوم "الشرق الأوسط الكبير" باعتباره الحل الأمريكى الأمثل من منظور السلبيات والمخاوف، أى أنه الحل الأمثل لمواجهة السلبيات والمخاوف والمخاطر التى تتهدد الولايات المتحدة ومصالحها وأهدافها الاستراتيجية، والبعض الآخر يروج للمفهوم باعتباره الحل الأمريكى الأمثل لتحقيق أعلى درجات المكاسب.
فوفقاً لمشروع معهد أبحاث السياسة الخارجية "الشرق الأوسط الكبير عام 2005" الذى كتبه آدم جار فينكل وساهم فيه كل من وارن رودمان، وآن ارمسترونج، ونورمان أوجيستن، وجون دانس، وجون كالفن، ونيوت جينجريتش، ولى هاملتون، وجيمس شليزنجر، وغيرهم، فإن الشرق الأوسط الكبير هو العالم العربى وإسرائيل وتركيا وإيران وآسيا الوسطى والقوقاز، وهى المنطقة التى تصادف أن تكون حاضنة لأكبر احتياطيات النفط والغاز، وأن تكون مسرحاً لصراعات كل القوى الصاعدة والطموحة فى العالم، وهى المنطقة التى تضم أيضاً حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية الأساسيين ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر أهمية وهى نفسها المنطقة التى شهدت أبرز محاولات امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وشهدت آخر الحروب الكبرى التى قادتها الولايات المتحدة الأمريكية لتأكيد وجودها ونفوذها بعد انهيار النظام العالمى القديم، وهى المنطقة الوحيدة فى العالم التى شهدت فى العقد الأخير تمديد الوجود العسكرى الأمريكى المباشر على أراضيها، بغض النظر عما إذا كان هذا الوجود سيمتد أو سيتقلص فى المستقبل.
الشرق الأوسط الكبير – وفق هذا المشروع أيضاً – هو المنطقة التى تشكل مصدر الأهمية ومصدر القلق فى الوقت ذاته، ليس بسبب الصراع العربى – الإسرائيلى فقط، ولكن أيضاً بسبب عشرات الصراعات الموازية. وهو المنطقة التى تحتوى على أعلى درجات الاستبداد السياسى والأنظمة الفاشلة غير الفعّالة، وتشكل موطناً للأصولية المسلحة شديدة الخطر على الحضارة الغربية ومجتمعاتها، وهو أيضاً مركز الأنشطة الخارجة عن الشرعية القانونية وبؤر الإجرام فى العالم خاصة زراعة وتجارة وتهريب المخدرات، وهو من أهم مراكز تجارة السلاح، وعلاوة على هذا كله هو أرض الصراعات الإثنية والعرقية والطائفية.
والنتيجة التى يراها آدم جار فينكل، هى أن ترك الأمور فى منطقة الشرق الأوسط الكبير إلى التطور التلقائى – أى دون تدخل لضبط التفاعلات – سيعقد الأمور كثيراً، أى أن المطلوب هو التدخل الأمريكى لضبط هذه التفاعلات، من أجل درء الأخطار.
المنظور الآخر الذى يفرض الشرق الأوسط الكبير كحل أمريكى بدافع من تعميق المكاسب، طرحه زالماى خليل زاد وهو من أهم خبراء الإدارة الأمريكية الحالية ومهندس الحرب الأمريكية فى أفغانستان وعمل سفيراً فى العراق ومندوباً لأمريكا فى الأمم المتحدة. فهو يستعمل تعبير "الشرق الأوسط الكبير" بوصفه يتعلق بالمنطقة ذات الأهمية المركزية للمصالح الجيوستراتيجية الأمريكية والتى تتعرض فيها هذه المصالح للخطر، وحيث تتصاعد الصراعات، ويحتاج الأمر إلى المزيد من التدخل العسكرى الأمريكى. كذلك فإن تطور الأوضاع فى هذه المنطقة وتفاقم مضاعفاتها يمكن أن ينتهى – على المدى البعيد – بتأثيرات سلبية بالغة ليس على أصحابها فقط وإنما على الاستقرار والازدهار العالمى، وفى القلب منه المصالح الأمريكية.
ويعتقد زالماى خليل زاد أن تعبير الشرق الأوسط الكبير أصبح ضرورياً لالتقاط ونظم المحاور الأساسية التى تميز البيئة الاستراتيجية المتجانسة لهذه المنطقة والتى تميزها عما عداها، والتى تصبح، يوماً بعد يوم، أكثر أهمية، وذلك لتآكل الحدود الفاصلة بين أمن الشرق الأوسط والأمن الأوروبى والأمن الأوروآسيوى. هذا التآكل حدث نتيجة لتطور وانتشار التقنيات والأنظمة العسكرية الحديثة ونمو التداخل والاعتمادية الاقتصادية والسياسية المتبادلة بين هذه المناطق، وتمدد الظواهر المختلفة مثل الإرهاب العابر للمناطق، وتهريب المخدرات والسلاح، وتدفق اللاجئين.
تحديد ملامح البيئة الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط الكبير – وفق هذه الرؤية – له أهمية كبيرة، ضمن مسعى تمييز أو إعادة تحديد ما يسمى ﺑ "العوالم الاستراتيجية فى هيكلية النظام العالمى الجديد".
الملاحظة المهمة بهذا الخصوص هى وجود تدخل إسرائيلى قوى وملموس فى ضبط مفهوم الشرق الأوسط الكبير والدفع به كخيار أمريكى استراتيجى، ووجود مسعى أمريكى قوى لتوريط أوروبا للانخراط فى تبنى المشروع كاستراتيجية مشتركة للنظام العالمى الجديد.
ففى الوقت الذى كان الأمريكيون منغمسين فيه طيلة السنوات الخمس الماضية للخروج بمفهوم جديد للصراعات القائمة والاستراتيجية المثلى للتعامل معها، ظهر اتجاه موازٍ فى التفكير الاستراتيجى الإسرائيلى يؤكد أن "الإسلام السياسى" يمثل عدواً، وأن هناك ضرورات لاستئصاﻠه، خـاصـة ﻓى ظـل تحـولات توجهـات حركة "حمـاس"، وتزامن هــذا الإدراك مـع ما اعتبر كارثة تهدد وجود إسرائيل، وهو العامل الديموجرافى، الذى كانت تأثيراته قد بدأت بالفعل فى ظل الانتفاضة الثانية.
لقد سعت إسرائيل إلى إعادة مشروع الشرق الأوسط إلى أصوله الإمبراطورية من ناحية، أى ربطه بالمصالح العالمية الأمريكية، كما سعت إلى تحويله إلى شراكة أمريكية – إسرائيلية من خلال اجتماع واشنطن الذى عقد فى الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر 2004 بين مستشارى شارون ورؤساء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية وعدد من كبار خبراء ومستشارى الأمن القومى والاستخبارات الأمريكية. كان هدف هذا الاجتماع هو البحث فى الخطوات التنفيذية لتطبيق خطة الشرق الأوسط الكبير فى أسرع وقت ممكن من خلال مناقشة مذكرتين أعدتا لهذا الغرض، الأولى أمريكية أعدها وليم تومسون رئيس فريق العمل الأمريكى، والثانية إسرائيلية أعدها دانيال ليرانو حام أحد مستشارى رئيس الوزراء الإسرائيلى السابق آرييل شارون المقربين والتى حملت اسم "الهندسة السياسية لخريطة الشرق الأوسط فى السنوات الثلاث القادمة".
أحد أهداف هذه الهندسة السياسية لخريطة الشرق الأوسط هو إعادة توجيه مسار العلاقات العربية باتجاه ربطها بإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ضمن إطار العلاقات الثنائية وعلى حساب العلاقات العربية – العربية والاتفاقيات الثنائية والجماعية للتعاون الاقتصادى والأمنى، وقد استطاعت إسرائيل أن تنحرف بالمشروع الأمريكى للشرق الأوسط الكبير أو الموسع مستغلة فشل المشروع الأمريكى فى العراق سواء على مستوى فرض الاستقرار والأمن للحكومة العراقية الموالية وتثبيت النفوذ الأمريكى بالعراق أو على مستوى تحقيق الديمقراطية بإقامة عراق جديد ديمقراطى يكون نموذجاً للنظم التى يجب أن تقوم فى المنطقة وفقاً لمشروع الشرق الأوسط الكبير حسب وعود الرئيس الأمريكى جورج بوش.
وإذا كان فشل المشروع الأمريكى فى العراق قد أدى إلى ردود فعل كثيرة أخذ بعضها يشكك فى جدية الدعوة الأمريكية للديمقراطية، وأخذ البعض الآخر يشكك فى جدوى المشروع الإمبراطورى الأمريكى كله، فقد ظهرت ميول لتقليص حدود هذا الشرق الأوسط الكبير أو الموسع، وبدأت محاولات موازية للحديث عن بدائل "عملية" لتحقيق الأهداف نفسها، منها ما عرف ﺑ "الشرق الأوسط الصغير" Tiny Middle East للخروج من المشاكل التى يعانى منها مشروع الشرق الأوسط الكبير عبر تنفيذ الآليات نفسها لاسيما البنود المتعلقة بالإصلاحات الديمقراطية، ولكن عبر مجموعة صغيرة تمثل الدول الأسهل من حيث التزامها بالتنفيذ، ووجود علاقات فعلية بينها، وترتبط أيضاً بعلاقات قوية مـع واشنطـن كضمانـة للتنفيـذ أو عـدم التراجـع.
وحتى هذه الدعوة لم تستطع الصمود أمام المأزق الأمريكى المستحكم فى العراق، ومن هنا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان فى يوليو 2006 بمثابة المخرج المناسب لفرض واقع جديد لمشروع أمريكى جديد للشرق الأوسط لم تتردد وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس فى الإعلان عنه باسم "الشرق الأوسط الجديد" فى ذروة الحرب الإسرائيلية على لبنان وفى ذروة الانحياز الأمريكى الكامل لإسرائيل فى هذه الحرب ورفضها لكل مطالب وقفها.
لقد أكدت تطورات هذه الحرب أن الولايات المتحدة كانت طرفاً مباشراً فى التخطيط والإعداد والتنفيذ والرعاية الكاملة كى تحقق أهدافها فى لبنان ومن بعدها فى إيران للقضاء على ما يسميه الرئيس الأمريكى ﺑ "محور الشر"، الذى أعلن أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة مع "حزب الله" هى جزء من صراع أكبر يشمل سوريا وإيران. وأكد أن الحرب فى لبنان تشكل "جزءاً من معركة أوسع تشهدها المنطقة بين الحرية والإرهاب"، وعبرت وزيرة الخارجية الأمريكية (السابقة) كوندوليزا رايس على أن "شرق أوسط جديد" سيولد من رحم هذه الحرب، وكانت أهم معالم هذا الشرق الأوسط الجديد هى وضع نهاية للصراع العربى – الإسرائيلى من خلال فرض شراكة عربية – إسرائيلية بديلة للصراع تقوم على قاعدة وجود مصالح مشتركة بين العرب وخاصة من هم مصنفون ضمن "محور الاعتدال" أو "الحلف السُنى" وبين "إسرائيل" لمحاربة الإرهاب الذى تدعمه إيران، وفرض إيران عدواً بديلاً للعرب من خلال تفجير حرب طائفية سُنية شيعية تكون مدخلاً للتلاقى مع مشروع الشرق الأوسط الكبير فى هدف إعادة رسم الخرائط السياسية فى المنطقة على قاعدة التقسيم العرقى والطائفى، بما يؤكد وحدة المشروع القائم على سياسة الحيلولة دون وحدة العرب وفرض التقسيم والتجزئة والتخلف كمصير أبدى يجب عدم الخروج منه.
واقع صعب يفوق قدرات أى مقاومة
وهكذا فإنه بدلاً من المسعى العربى لحركة التحرر العربية فى الخمسينيات والستينيات، لإعادة توحيد ما سبق تقسيمه من أرض العرب أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، يجد العرب أنفسهم الآن أمام مخطط إعادة تقسيم ما سبق تقسيمه بعد إكمال مخطط تفكيك رابطة النظام الإقليمى الرسمى العربى بفرض سياسة استقطاب جديدة على قاعدة محورى "الاعتدال" و"الشر".
هذا الواقع السياسى الجديد يشهد أيضاً تطابقاً بين إنتاج استقطاب طبقى اجتماعى- سياسى جديد على الصعيد العالمى تجسيداً لسياسة العولمة وانطلاق الرأسمالية العالمية المتوحشة لفرض سيطرتها متجاوزة كل الحدود التقليدية للدول ومعتمدة على سياسة التدخل القسرى فى الشئون الداخلية للدول، وبين إنتاج استقطاب طبقى اجتماعى – سياسى جديد داخل الدول العربية. ومثلما تم تقسيم العالم إلى مجتمعات (وليس دول) غنية مسيطرة ومجتمعات أخرى فقيرة مسيطر عليها، يجرى فرض استقطاب طبقى اجتماعى – سياسى داخل الدول العربية بين طبقات تحتكر السلطة والثروة وطبقات فقيرة محرومة ومعزولة ومهمشة ومسيطر عليها.
الأهم من هذا هو ذلك التلاقى، الذى يصل إلى درجة التحالف، بين قوى الهيمنة الرأسمالية الخارجية التى يقودها النظام الإمبراطورى الأمريكى وحليفه الصهيونى، وبين القوى المسيطرة على السلطة والثروة داخل الدول العربية التى تمارس الاستبداد والفساد وتقود توجهات النظام الرسمى العربى.
هذا التحالف بين قوى الهيمنة العالمية التى يجسدها المشروع الإمبراطورى الأمريكى الجديد وقوى الاستبداد والاحتكار السياسى والاقتصادى فى الداخل العربى ليس وليد تطورات عالمية فقط ولكنه أيضاً وليد تطورات عربية، على مستوى كل دولة عربية وعلى مستوى النظام العربى ككل عندما تراجع ثم اختفى دور دول الثورة ابتداءً من عقد السبعينيات وبالتحديد ابتداءً من نكسة يونيو/ حزيران 1967 وانتصار الثورة المضادة فى مصر وسيطرتها على مقاليد الدولة والسلطة والانحراف بها فى اتجاه القبول بالهيمنة الأمريكية أولاً ثم التطبيع مع الكيان الصهيونى ثانياً.
ومع تراكم الثروات النفطية وما سمى ﺑ "البترو دولار العربى" مع موجة ارتفاع أسعار النفط التى صاحبت حرب أكتوبر/ تشرين أول عام 1973، بدأت دول الثروة تسيطر على مقاليد النظام العربى وتنحرف به فى اتجاه التحالف المصلحى مع الهيمنة الأمريكية والقبول بالحل السلمى للصراع العربى – الصهيونى ابتداءً من "مشروع فاس – 1" (مشروع الأمير فهد) عام 1981، ثم مشروع "فاس – 2 " عام 1982. وجاء احتلال الكيان الصهيونى لبيروت فى ذلك العام ليفضح عجز النظام العربى ويكشف مدى ت

Facebook
Twitter