النحت بالكلمات بروفايل لريح جواد الحطاب الشعرية عبدالرزاق الربيعي

تعلمت من الشاعر جواد الحطاب منذ أن عرفته في أوائل الثمانينيات أن الكتابة الشعرية عملية نحت وأن القلم بيد الشاعر إزميل يحفر به جسد الجملة الشعرية ويزيل عنها الزوائد ليقف الشعر الخالص بكامل فتنته , وحين سألته ذات يوم عن مراحل كتابته للقصيدة اصطحبني الى منزله وكان في منطقة البياع وأراني دفترا من فئة المائة ورقة وقال :في هذا الدفتر جواب على سؤالك , وحين قلبته رأيت مقاطع وجملا من قصيدته ” تماثيل” تلك القصيدة التي رأى الشاعر فضل خلف جبر إن الحطاب اختط بها لشعريته أفقا جديدا حين نشرها بمجلة “أسفار” أواسط الثمانينيات , وكان ذلك الدفتر هو مسودات القصيدة ومحاولاته للإشتغال عليها فرأيت كيف نمت وكبرت وتفرعت ثم كيف قام بتشذيب تلك الأغصان مثل فلاح بارع فاختصر تلك المائة بورقتين فقط في نهاية الدفتر !
فعرفت منذ ذلك الحين أن القصيدة اشتغال وجهد وعرق وليست دفقة سانحة ندونها على الورق
واليوم وأنا أتصفح كتابه الشعري الجديد “بروفايل للريح .. رسم جانبي للمطر” الصادر عن “شرق غرب للنشر” ببيروت تذكرت تلك الجملة الذهبية:الشعر عملية نحت” ليس إلا..
والكتاب الذي هو “تنويعات على نصب الحرية” كما يشير عنوانه الفرعي جاء ليكون عملية نحت موازية للنصب تنطلق من المنحوتة لتضع منحوتة شعرية جديدة بكثير من الجهد , فالحطاب في كتابه هذا الذي تبلغ عدد صفحاته 83 احتلت صور منحوتات جواد سليم نصفها , في توليفة رائعة بين المقاطع والصور والإخراج الراقي الذي ظهر به الكتاب لينصف التجربة وليظهر جمالياتها وهذه حسنة تحسب لدار “شرق غرب للنشر”
وقد أنجزالحطاب مشروعه هذا, الخفيف وزنا , الثقيل قيمة فنية , خلال شهور من الإشتغال , إذ ذكر في إهدائه لنسختي من الكتاب” عبر أكثر من سنة ونصف وأنا أحاور تكوينات جواد سليم مع المتظاهرين في ساحة التحرير وسط الباعة المتجولين ,جالسا على دكات شارع السعدون حيث المكتبات , وقاطعا جسر الجمهورية سيرا على الأقدام حتى انتهيت الى حماقتي هذه , حماقتي الأعلى بعيدا عن مقترحات جواد سليم نفسه لعمله وبعيدا عن تأويل جبرا ابراهيم جبرا .. سترى إنني أنزلت التماثيل من مرمرها , وأدرجتها بين الناس في واقعهم وواقعها الجديد”

وهكذا أنزل تلك التماثيل من أعلى النصب وضخ فيها حياة جديدة والبسها ثياب الكلمات :
حبة دمع واحدة
من عين أم …
كافية لتعقيم الملائكة ”
وخاض المغامرة الشعرية منطلقا من مساحة التأويل التي منحها لنفسه وهو يخوض هذه التجربة التي وصفها ب”المغامرة” بقوله في مقدمة الكتاب ” أنا جواد الحطاب قررت أن أغامر مع جواد سليم وأكتب عن تكويناته الراسية في ساحة التحرير قد تتطابق القصائد مع رؤية النحات , ومن المؤكد إنها ستختلف ..فالإبداع بكل ثيماته ليس سوى مغامرة تحتمل التأويلات ”
في رسم “بروفايله “للريح يلجأ لشعرية المقطع والجملة الشعرية فيبعث رسائله الشعرية على شكل برقيات مذكرا ايانا بشكل قصيدة “الهايكو” اليابانية نافخا فيها روحا عراقية :
تركوا العراق في غرفة الإنعاش
وانشغلوا بالقسام الشرعي

على موائد عمرنا..
جميع فواكه العبوات
ويرسب أولادنا في الدرس
لايعرفون إعراب المفخخات ”
ويقول في مقطع آخر:
أهبط من قاعي
لمنخفض السماء
وأقود قطيع الأرواح
لكرنفال مواكب الموتى
ياقريني
لاتترك المسحاة تفتح القشرة
بقليل من الهواء الخام
تعلو الطواطم
فمن سيحمي عفة الأحلام
في القيلولة الوطنية؟؟؟

ومن تراكم تلك الجمل والمقاطع تتشكل ملامح منحوتته الشعرية التي جاءت على هيئة قصيدة واحدة بدون عناوين داخلية لأنه أوكل هذا الدور للصورة كما يشير ص 6
وتنساب المقاطع بكل تلقائية من خلال نفس شعري لا تنقصه السخرية والمفارقة :
حين أموت
ادفنوا معي بطارية ضوئية
فأنا أخاف من الظلام

أخيرا
أخيرا أيتها الفالة
تمكنت المجندات
من أرحام آبائنا

ويلجأ للهامش لتفسير كلمة” الفالة” آلة الصيد المستعملة في أرياف العراق والتي يعود تاريخها الى صيادي الأسماك السومريين وقد استخدمها رجال العشائر سلاحا في ثورتهم ضد الإستعمار البريطاني ” كما يشير في هامش ص 21 وفي الجملة الأخيرة مربط فرس الحطاب فالكتاب جاء معادلا شعريا للإحتجاجات التي قام بها شباب خرجوا بمظاهرات في ساحة التحرير تحت نصب الحرية مطالبة بتعديل الأوضاع بعد وصول رياح “الربيع العربي” الى العراق في العام الفائت رغم أن الشاعر لا يمر على ذكر الساحة الا ثلاث مرات الأولى ص 43بقوله :
أيتها المرأة
لاترمي القشّة التي كنستها من ساحة التحرير
فهي من ذريّتي

والثانية ص 65 :
محراث خفيّ
يمتدّ من ظهره لقرميد”ساحة التحرير”
والثالثة ص 78:
يسيل البياض من خلل التكوينات
ويتأدم رغيفه من طيور (ساحة التحرير)
وصار المكان موعدا لكل من يحمل مطلبا وكان الشاعر يراقب ويثري مدونته الشعرية بالملاحظات لينقل الحدث العابر من طين الواقع الى مجرة الفن ليحوك أسطورته الخاصة , ويكثر من وضع الهوامش التي تعرض تفاصيل مضيئة من بطولات سطرها العراقيون في تاريخهم تذكيرا بها واستحضارا لتلك المواقف فحين يقول”
يتسلل من كتب التاريخ رجال الدين النجفيون
(الجذر التربيعي لعشائر زوبع)
لاتنقصهم الأسطورة
مكوار أعزل
يقرّب (في صينية مدفع) نجوما للفالات
ويتكوكب في الأبدية
يذكر في الهامش الواقعة التالية” أتلف الضباط البريطانيون المنهزمون (صينية المدفع) الذي انتزعه الثوار العراقيون منهم في معارك الكوفة , فماكان من الثوار الا إرسال أحدهم إلى بغداد وسرقة صينية بديلة من مخازن الجيش البريطاني الموجودة في العاصمة في حادثة بطولية تذكرها وقائع ثورة العشرين”
والواضح إن الحطاب لجأ لتلك الهوامش لينقّي نصه من الخطاب التحريضي الذي ارتفع في المكان الملهم” ساحة التحرير” تاركا لجناحي كلماته حرية التحليق في فضاءات الفن والجمال دون أن يترك الحشود الغاضبة وبذلك يحقق طرفي المعادلة :الموقف من خلال توثيق الحدث , والجمال فما”يريد الشاعر تحقيقه :الإنتشاء من خلال إيصال القارئ الى ذروة اللذة الشعرية” كما يستنتج الشاعر فضل خلف جبر في دراسته الهامة التي الحقها بمدونة شعرية تشكل نقطة مضيئة في ميدان التجريب الذي يظل ديدن الحطاب في عزفه الشعري المتفرد .

 

Facebook
Twitter