النجاح والحاسة الاجتماعية

عالية محمد حسن

ان نجاح الناس في اعمالهم يتوقف على مقدار ما فيهم من هذه الحاسة اكثر من مقدار ما احرزوه من سعة العلم او المهارة في الصناعة او التجارة او غيرها من وسائل المعاش . وهي اعظم اهمية في معترك الحياة من الذكاء واقل شيوعا منه .لا تزيد نسبتها في الناس بالنظر الى الذكاء على اثنين او ثلاثة في المائة . أي ان الامهات يلدن اربعين ذكيا قبل ان يلدن واحدا ً من ذوي الحاسة الاجتماعية . ولذلك كثر الاذكياء وقل الناجحون منهم . لان النجاح لا يتأتى للذكى ان لم يعلم كيف يستخدم ذكاءه , ولا فائدة من العلم ان لم يحسن الأسلوب في ادائه .
ان ثمار الذكاء كثيرة كالعلم والصناعة والسياسة وغيرها من اسباب الغفران .لكنها لا تأتي بالفائدة المطلوبة حتى توضع في موضعها على كيفية تلائم الذين وضعت لهم .ولا يتأتى ذلك ان لم يدرك صاحب تلك المواهب ما يكون من تأثير عمله في اذهان الناس ومقدار استعدادهم له. وهذا لا يتم الا بالحاسة الاجتماعية .ولهذه الحاسة دخل ايضا في اختيار مايعرض للانسان من اسباب المعاش ، فلا يتناول منها الا النافع الذي يمكن استثماره .
واذا احرز المرء كل المواهب دون الحاسة الاجتماعية ، فكأنه لم يعط شيئا ً. او كأنك تعطى البذور لمن لا يعرف الزراعة , او السلاح لمن لا يحسن استخدامه . ولذلك الحاسة الاجتماعية كانت سيدة المواهب , اذا لايكفينا ان نعمل الخير بل يجب ان نعمله في الوقت المناسب ونضعه في المكان المناسب . فالذكي يعرف ان يعمل ,ولكن صاحب هذه الحاسة يعرف كيف يعمل ومتى يعمل!
ومقام الانسان في المجتمع الانساني يتوقف على هذه الحاسة , كما يتوقف على غيرها من الخلال الراقية . ويمكن للذكي ان يكتسب كل علم او تجارة او صناعة بالاجتهاد والسعي ، لكنه عبثا ً يسعى في اكتساب هذه الحاسة ان لم تولد معه . على انها تقوى وتنمو بالتربية والتعليم . وهي اذا وجدت وكان الذكاء قليلا تكفلت باستثمار ذلك القليل لتكون غلته كثيرة . والنجاح في الاعمال يتوقف على الادارة اكثر مما يتوقف على العلم . والادارة لاتتوافر في غير اصحاب هذه الحاسة .
اهل السياسة اذكياء على العموم .لأن الأنسان لايبلغ الى المناصب السياسية الهامة ان لم يكن من اهل الذكاء والعلم . وانما يتفاوتون في النجاح بنسبة ماعندهم من الدهاء , وهو من ثمار الحاسة الاجتماعية . فالسياسي المحنك لايقول الكلمة الا وهو يعرف تأثيرها في السامع كأنه مطلع على اعماق قلبه . فيقول مايرجو من تأثيره الوصول الى غرضه . فلو شهدت رجال السياسة في مؤتمر واعطيت اكتشاف سرائر الناس , لرأيت الدهاء مجسما ، وعلمت كيف تتحارب العقول وما قد نصب في تلك الحرب من المكامن والمراصد والمزالق , وما يتخلل ذلك من الهجوم والدفاع والمهادنة والمناوشة والمناورة. واكثرهم دهاء اسعدهم حظا . يصر احدهم على طلب العشرة وهو يقنع بالثمانية . وقد يقتضى دهاؤه الرفض وهو لا ينوي غير القبول . وانما يفعل هذا وذاك تبعا ً لما يدركه بشعوره الدقيق من وقع اقواله عند زملائه.
التاجر من اكثر الناس حاجة الى معاملة الناس , ولا سيما الباعة في الاسواق ، فهؤلاء لا يفلح منهم غير دقيق الشعور الذي يعرف تأثير كلامه في الشاري بين ترغيب وتحبيب ومساومة . ولا يكفي ان تكون بضاعته حسنة بنفسها، بل يقتضى ان تكون مناسبة للوسط الذي يقيم فيه ، ولا يعرضها الا على قوم يحتاجون اليها . ومن مقتضى الحاسة الاجتماعية ان يختار المرء التجارة التي تنفق مع ميوله ومواهبه , وان يحسن استجلاب السلع التي تلائم القوم الذين يعاملهم .
وناهيك بحاجته الى هذه الحاسة في معاملة عملائه بحيث يعلم مايرضيهم او يوافقهم ويشعر بحقيقة علاقته معهم . ويدرك نظرهم في بضاعنه وحقيقة منزلته عندهم . فلا تأخذه الظواهر فيطمع او يشمخ ، فيفسد مابينه وبينهم ويتحولوا الى سواه . ومن شأن هذه الحاسة ادراك حقائق الأشياء وعدم الاغترار بالظواهر . فالتاجر الحساس يعلم ان علاقته مع عملائه لا تثبت الا اذا عاملهم بالحق والامانة ، وراعى مصلحتهم بأنواع السلع واثمانها مراعاة حقيقية لايقتصر منها على الكلام وتزويق الحديث وكثرة الاعلان . فأن هذا وحده لايجدى نفعا ولا يكتسب شاريا . وانما المعول في ارضاء الشاري على اقناعه بأن بضاعته توافقه وتعود عليه بالنفع او الكسب ، ولا يقتنع ان لم يكن ذلك حقيقيا ً يؤيده الأختبار . فالتاجر ضعيف الحاسة الاجتماعية لا يشعر بهذه الحقائق , فيتوهم ان يكتسب ((الزبائن)) بالترغيب والتزويق وكثرة الكلام . واما الحساس فانه يجعل همه تحسين بضاعته حتى توافق عملاءه وهي تنوب عنه في الترغيب واذا تدبرت احوال التجار وما بينهم من التفاوت في النجاح رأيت اسباب سقوطهم في الغالب اغترارهم بالظواهر وتعاميهم عن الحقائق . وكما يخدعون عملاءهم بالمظاهر من الترغيب والتزويق ، ينخدعون هم انفسهم بظواهر احوالهم . يجدون النقود كثيرة بين ايديهم , وهي ليست لهم بل لأصحاب المعامل التي يستوردون بضائعهم منها .وسيأتى يوم يستحق عليهم دفعها فيغفلون عن ذلك . او هم بالحقيقة لايشعرون بثقل تلك الديون لضعف تلك الحاسة فيهم . فيتورطون في الانفاق مما بين ايديهم بلا حساب . فاذا آن الدفع وقصرت يدهم عنه استغربوا ذلك وعزوا تقصيرهم الى عدم التوفيق او الأزمة المالية . والواقع انهم لم يكونوا يشعرون بحقيقة مركزهم ، ولا يميزون بين ماهو حق لهم وما هو امانة لأصحابه . وسقوط المحال التجارية او تفليسها ان لم يكن سببه التزوير او السرقة يندر ان يقع من غير الخطأ في تقدير حقائق الاشياء ، ولا ينجو من ذلك غير صاحب الحاسة الاجتماعية. وللحاسة الاجتماعية دخل كبير في العالم من حيث تطبيقه على حاجة الامة . فالمشتغل  بالعلم لا يكفي ان يكون عالما ً.بل ينبغى له ان يعرف كيف يستخدم علمه او كيف يخرجه للناس ، ويكون مفيدا ً لهم .لأنه لو احرز علوم الاولين والاخرين ولم يشعر بحقيقة الوسط الذي هو فيه ويطبق مايكتبه او ينشره على حاجات اهله ، ذهب علمه ضياعا ً واضاع وقته سدى . وقد ينفق على ماينشره من جيبه ولايسترجع شيئا ً منه . فيشكو كساد بضاعة الادب وينحى على القراء باللائمة ويتهم الامة بالجهل ونكران الجميل ، لانها لم تعرف قدره ولا اقبلت على نفثات يراعه ، ويهددها بالقعود عن خدمتها . ولو تبصر وانصف لحكم على نفسه بأنه لم يحسن الاختيار فيما كتبه او الفه , ولا راعى فيه الوسط من حيث حاجة الناس الى هذه الموضوع او ذاك , او انه لم يحسن سبكه حتى يلائم اذواقهم او مداركهم ، او غير ذلك مما يرجع الى نقص في الحاسة الاجتماعية اكثر من رجوعه الى الجهل .
نحن في حاجة الى العلم لكننا احوج الى الشعور بحقيقة حالة الامة بحيث نطبق علمنا على حاجتها . وهذا التطبيق يحتاج الحاسة الاجتماعية في كل جزء منه ، بل في كل سطر مما يكتبه المؤلف في أي موضوع من الموضوعات العمومية . فينبغي له وهو في مخدعه يجر القلم على القرطاس لكتابة مقالة ان يتصور القارئ بين يديه يتململ من كل فقرة معقدة ، وينفر من كل عبارة غير صحيحة ، ويضحك  مما يتخلل تلك الكتابة من المغامز التي يتوهم الكاتب انطلاءها على القارئ لغرض في نفس الكاتب يحاول اخفاءه بين العبارات المزخرفة بالتمويهات الدينية او النعرات الجنسية . وليعلم قبل كل شيء ان القارئ كالشاري انما يهمه حقيقة ماتحويه تلك المقالة من المنافع الادبية او المادية دون النظر الى زخرف الكلام . وان كان في القراء من تهمة تلك الزخارف فلأنه لم يتعود الحقائق بعد . فاذا تعودها لا يعطف على سواها . والواجب على الكاتب العاقل ان يعوده اياها .
ظهر في نهضتنا هذه مئات من الكتاب والعلماء في مصر والشام وغيرها لم ينبغ منهم في خدمة الامة الا عدد قليل . وظهر مئات من الجرائد والمجلات لم يبق منها الا عشرات قليلة ، لا يعد ناجحا منها نجاحا ً حقيقيا ً الا عشرة واحدة . وقد ظهر في هذه النهضة مئات من الكتب في بحوث شتى لم يرج منها الا القليل . واذا تدبرت هذا التفاوت في نجاح بعض هذه المشاريع وسقوط معظمها لاتجده ناتجا ً عن تفاوت طبقات الكتاب في العلم ، بل عن تفاوتهم في الشعور بحاجة الامة وتفاوت اقتدارهم في تطبيق مايعرفونه على حاجتها . فالصحف او الكتب الرائجة الان لاتدل دائما على تفوق اصحابها بالعلم وسعة المعرفة ، وانما هي تدل دائما على تفوقهم بالتدبير وحسن الاختيار ، وهما من ثمار الحاسة الاجتماعية ـ فضلا عن السعي او الاجتهاد ، حتى هذا ان لم يكن مقيدا ً بحسن الاختبار فانه لايفيد ، اذ لايكفى الرجل ان يكثر من السعي والركض ، وانما يطلب منه ان يكون سعيه في طريق الصواب والاعاد عليه بالضرر .
ان تأثير هذه الحاسة في المعاشرة عظيم . لان المعاشرة مفتاح المعاملة . قد تجمعك المصادفة بانسان لم تره من قبل فيقع من نفسك موقعا ً جميلا ً . وقد يترتب على ذلك الاجتماع معاملة تجارية او مالية او عائلية من زواج ونحوه . وقد تنفر منه وتشعر بدافع يدفعك عن عشرته ولاتزداد مع الزمان الا نفورا ً وبعدا ً . واذا سئلت عن الفرق بين الاثنين لقلت ان الاول خفيف الروح والثاني ثقيلها . ولو حللت هذا التعبير تحليلا دقيقا ً لرأيته يرجع الى الحاسة الاجتماعية . وان هذه الحاسة حية نامية في خفيف الروح ، وضعيفة او ميتة في سواه .
يأتيك بعض الناس لشغل فلا يكلمك الا في ذلك الشغل ، وهو يلاحظ وقع كل كلمة من كلماته على اذنك . ويستدرك ماقد يقع من هفوة او نحوها . ويشعر من تلقاء نفسه بالوقت الذي ينبغى له ان ينصرف فيه من عندك . ولايبالى بمجاملتك اياه وطلب بقائه في زيارتك . ويأتيك اخر لشغل او زيارة وتكون مشغولا بما يحول دون مقابلته , لكن الاداب الشرقية لاتسمح لك برده فتستقبله فلا يبالى بشواغلك ولا يشفق على وقتك ولايعرف لحديثه حدا ً. وقد يكون اكثر كلامه عن نفسه او عائلته وما يأكلون او يشربون وما اتاه ابوه او جده او هو نفسه من جليل الاعمال ، وقد يتطرق الى الطعن في الناس او العتب على الزمان ، ويتشعب حديثه من موضوع الى اخر ، وقد يكون فيه مالا يجوز ذكره بين يديك او يدي بعض الحاضرين . لكنه لا يشعر بذلك لضعف الحاسة الاجتماعية فيه . ولاتطمع منه باصلاح ذلك الخطأ لانه متأصل في نفسه . ولا مانع ان يكون ذلك الثقيل عالما في بعض البحوث العامة التي تحتاج الى اعمال الفكرة فينبغ فيها ويفوز على اقرانه ، ولكنه يعجز عن اصلاح ذلك النقص فيه . واذا تعمد الاصلاح ليقال انه خفيف الروح ، ظهر ذلك منه متكلفا ً ،فتزداد روحه ثقلا ً.
فسلامة الذوق وحسن الاختيار او الشعور الدقيق في المعاملة والتمييز بين حقائق الأشياء واعراضها ووضع الاشياء في مواضعها ، ترجع كلها الى ((الحاسة الاجتماعية)) التي نحن في صددها ، وعليها تتوقف حال المرء في المجتمع الانساني اكثر مما تتوقف على ذكائه او علمه . فعلى الذين يتولون تربية النشئ ان يوجهوا التفاتهم الى هذه الحاسة ويربوها فيهم بالتنبية الى محاسنها كما ينبهونهم الى فوائد الفضائل واضرار الرذائل ، فان عليها يتوقف حالهم في دنياهم . وهي اذا ارتقت تتكفل بارشادهم الى سواء السبيل , وتغنيهم عن نصح الناصحين.

Facebook
Twitter