الظاهرة الحزبية وأزمة الديمقراطية التقليدية

الدكتور ابو العلاء  عبدالمنعم الزوي

    

السلطة والديمقراطية التقليدية .

 

لقد أصبح الحديث عن السلطة والديمقراطية بمفهومها التقليدي ممجوجاً لأنه يدور في إطار من المفاهيم والنظريات السياسية التقليدية المتخلفة التي لم تقدم حلولا جذرية لقضايا الإنسان المعاصر ، فبقى تبلورها في حدود النوايا والآمال الزائفة إذ إن الخطاب عنها قد غيب الجوانب الحياتية منها وهمشها بصورة مخزية للغاية مثل حقوق الإنسان والسلطة وإحلال المواطنة.. إلخ . 

هذا في حد ذاته مؤشر خطير على غياب الديمقراطية الحقيقية التي لا تتيح الحديث عن تجارب الناس ومعيشتها الذي يتناقض والشعارات والمقولات السائدة ، فما الفائدة من دراسات نظرية مستوحاة من النظريات التقليدية الاستعمارية في أساسها السياسي المرتبطة في معظمها ــ بالفكر الرأسمالي الفاسد الذي أدخل البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في دائرة الصراع على السلطة وما خلفه ذلك من نتائج انعكست بصورة سلبية على الشعوب خاصة في العالم الثالث ؟..
«إن العرض السريع لمفاهيم وأسس النظريات الديمقراطية التقليدية التي كما يقول «دوقلس براون» في كتابه «أزمة الديمقراطية المعاصرة» نقداً أو رفضاً أو تأييداً في مختلف الأشكال تبين الحاجة الماسة لوقف حقوق الحكم على الإرادة الجماعية للشعب بينما تقدس حقوق الفرد في الحياة والحرية والملكية والسعادة ، في وقت من الأوقات والاتجاه السائد هو التوفيق بين هذا وبين المجتمع بأكمله .. حيث يدير الشعب شؤونه بنفسه ولكن الإجراءات التنفيذية لقيام سلطة الشعب لم تكن دائماً فعالة ولا ناجحة». 

 ويمكن لنا هنا أن نقدم ونشرح هذا الموضوع بصورة أوضح وأكثر تفصيلاً من خلال النماذج وأدوات الديمقراطية الثالثة .
موذجان محدودان للديمقراطية التقليدية .

   لا   يستطيع أي قطر أو مجتمع بأن يدعي في الوقت الراهن بأنه النموذج المثالي للديمقراطية   لأن الديمقراطية كما هو معروف لا تنتمي لجنس بعينه أو أمة معينة أو طائفة معينة ،   بل إرث إنساني ملك للجميع ، هذا لا يعني بالطبع أنه لا يوجد مجتمع يستطيع أن يؤكد   على النموذج الطبيعي الصحيح لسلطة الشعب   .


 لقد   أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن طويل نموذجاً ذاتياً ــ للنظام   الديمقراطي الرأسمالي الحر» وطبقاً للوقاحة الأمريكية ونظرتها العنصرية المعهودة في   تقسيم العالم إلى «عالم وحر» وتعتبره ، بكل قصر نظر تحت حمايتها وتعتبر البلدان   التي تعمل خلف الحواجز أو الستار بأنها بلدان «حديدية» أو بلدان «الخيزران» .. كما   يحلو لها في تصنيف المجتمعات على المسرح الدولي .. ولكن التجربة الديمقراطية   الأمريكية القائمة على مفاهيم وأسس النظرية الرأسمالية وإفرازاتها المتخلفة قد   استبعدتها ورفضتها عديد البلدان التي فرضت عليها بإرادتها فقد تعلمت عديد البلدان   التي كانت تحت الوصاية الأمريكية الإفلات من قالب الخبرة الأمريكية التاريخية  

 

هذا في اعتقاد الكثيرين سبب بعض القلق للأمريكان الذين توقعوا نتائج وخيمة للفلبين ــ قبل سقوط الدكتاتور الفلبيني المعروف دولياً قبل التمرد التاريخي في الفلبين في «فبراير» عام 1986م تحت شعار«قوة الشعب» الذي كان أول مظاهره عارمة لأعداد مأهولة من جماهير الشعب معلنين غضبهم وسخطهم ورفضهم في الشوارع ضد الدكتاتورية السياسية وهم يواجهون الدبابات والطائرات العسكرية المحلقة بالرشاشات برباطة الجأش وبالهزل أحياناً وكانت وسائل الإعلام الأمريكية والغربية تنظر إلى الثورة بالمفهوم الدموي المعتاد والهدام وهنالك نماذج عديدة في الوقت الراهن تعكس هذه الحقيقة الواضحة للعيان الآن في أفغانستان والعراق وغيرهما كثير .

 أما   النموذج الديمقراطي التقليدي الثاني الذي خبرته الشعوب هو نظام الديمقراطيات   الشعبية الاشتراكية الذي كان قائماً قبل انهيار المنظومة الاشتراكية وهو نظام يتصف   بالتشدد وبالإنضباطية والروح الايديولوجية بالرغم من إدعائها الديمقراطية إلا أن   العالم كله يدرك الدور الخطير الذي كان يلعبه ــ نظام الحزب الواحد ــ سواء أكان  الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق أو في جمهورية الصين الشعبية وهي صورة كانت سائدة في النظم الاشتراكية كافة وماتزال هنالك في العالم الثالث نظماً سياسية خاضعة في الوقت الراهن لسيطرة الحزب الواحد «إن الديمقراطية الاشتراكية الماركسية إذاً مثلها مثل الديمقراطية الاشتراكية الليبرالية لا يمكن أن تحل محل الديمقراطية الحقيقية التي تنبثق من سلطة الشعب طالما أن نضال الطبقة مازال يحمل عبء دليل تطورها التاريخي .

 

وقبل أن نخوض في تحليل أبعاد كل ذلك لابد أن نؤكد في بداية الأمر أن المجتمعات البشرية التي جعلها (النظام الرأسمالي) المنهار تعيش في ــ تراجيديا مغلقة في إطار من المفاهيم السياسية الاقتصادية والاجتماعية الرأسمالية وأحلام الأسواق المفتوحة والتخصص العالمية وأكاذيب العولمة بأطروحاتها البراقة والتعلق بالمفاهيم الليبرالية ــ أدت في نهاية المطاف إلى التحلل من القيم الإنسانية وبنائها لإنسان محدود الأفق يعيش في دائرة سطوة المفاهيم القاهرة لإرادة الإنسان التي جعلته يعيش مهمشاً متعب الضمير مثقلاً بالمشاكل والهموم مّا جعل مطالبه تنحصر في توفير الحد الأدنى من الغذاء والعلم والسكن وأصبح يعيش دون إبداع مجرداً من إرادته الحرة عبارة عن كائن منكسر الجناح ومجروح في كرامته وكبريائه ولا يمكن لنا أن نتناول موضوع «السلطة» دون التطرق إلى أهم النظريات الفلسفية التي تناولت فكرة «السلطة» .

 

ولعل أبرز النظريات في هذا الجانب ما قدمه لنا ثلاثة فلاسفة وهم :-

 

ــ توماس هوبز  (1588-1679) .

 

ــ جون لوك  (1632-1704) .

 

ــ يالكونين    (1814-1876) .

 

أولاً : السلطة عند توماس هوبز .

 

نجد أن فلسفة هوبز في الجانب السياسي تتمحور حول نظرية للإنسان باعتباره أشبه بالحيوانات في غرائزه ، وهذه الغرائز هي التي تدفعه إلى ممارسة حب الصراع من أجل البقاء ، بل هي الدافع الأول الذي يجعله ينشئ أنظمة ودولاً تحقق له رغباته الذاتية في السيطرة والحكم .. ومن هنا نرى أن هوبز ينظر إلى الدولة بأنها عظيمة السلطات وتتفرد بالسلطة المطلقة دكتاتورية الحاكم حيث يجلس حاكم مطلق الصلاحيات يمسك بيده كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بينما تكون الرعية (الجماهير الشعبية) مغيبة تماماً وليس لها دور إلا تنفيذ الأوامر وطاعة الحاكم . ونلاحظ عند تحليل أبعاد فلسفة توماس هوبز أن فلسفته تتميز بنظرتها إلى الإنسان على اعتبار أنه ليس مدنياً وإنما هو همجي ومتمرد على النظم ولا يعبأ بالقوانين وهو في نظره متوحش ودموي بحكم طبيعته الحيوانية وقد شبهه بالذئب بالنسبة لأخيه الإنسان ، وانطلاقاً من هذا المفهوم الفلسفي الغريب نجد أن «توماس هوبز» يعتقد بأن إعطاء الحرية للإنسان تؤدي به إلى السعي وراء تحقيق مصالحه الخاصة دون الاهتمام بمصالح الآخرين ، وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى بروز الصراع داخل المجتمع ويوجد ظروفاً تتسم بالنظرة الإنانية ، وحتى إذا ما أقيم عقد اجتماعي بين الأفراد داخل المجتمع فهو في حقيقة الأمر ليس حباً للآخرين ، أو التزاماً بالنظم والقوانين وإنما حباً للمصالح الشخصية والإنانية المطلقة  وفي إطار هذه النظرة الحيوانية الضيفة ينظر هوبز في فلسفته إلى الموضوع باعتباره تنازلاً عن خير عاجل من أجل خير أجل ، ويرى أن هذا العقد إذا ما وجد لا يتم بواسطة احترام حقوق الآخرين إذا لم توجد هنالك سلطة وقوة تفرض الالتزام به ، ويذهب «هوبز» في نظريته الفلسفية هذه بعيداً ، حيث يرى بأنه لو ترك «الناس» هكذا على فطرتهم دون ضوابط لبدأوا في التقاتل فيما بينهم كالحيوانات في الغابة تماماً ، حيث تسيطر عليهم الإنانية  وحب الذات وكل منهم يجري وراء تحقيق مصلحته وفقاً لرؤاه الخاصة ، ومن هنا يرى أنه لابد من وجود «سلطة» ترتكز بيد حاكم مطلق السلطات ، حيث يرى المدافعون عن هذه النظرية «الهوبزية» بأن من واجب الحاكم المطلق أن يفرض رعايته وسلطانه فرضاً لا يخضع لقانون وهذا يتطلب منه أن تتسم شخصيته بالقوة والحزم حتى يتمكن من فرض الحقوق والواجبات على الرعية وحماية أملاك الناس .. هذه النظرة الفلسفية عند توماس هوبز عن «السلطة» تقدم نفسها دون أي عناء في تحليل مكوناتها .

 

ثانياً : السلطة عند جون لوك :

 

ظهرت فلسفة «جون لوك» السياسية في المجتمع الإنجليزي في القرن السابع عشر حيث كانت فئات الشعب والمفكرون والمثقفون منقسمين في آرائهم الفكرية والفلسفية والسياسية حول «أداة الحكم» فمنهم من يرى أنها إرادة الشعب التي ينبغي أن تسود وتحترم ، ورأي آخر بأن هنالك حقوقاً طبيعية ثابتة للبشر ونتيجة لهذا الصراع الفكري حول «أداة الحكم» برزت نظرية «جون لوك» السياسية التي عارض فيها آراء «هوبز» في السياسة ، حيث كان «جون لوك» يدعو إلى ديمقراطية دستورية تنادي بفصل السلطات ، وكان من أبرز مبادئه أيضاً فصل الدين عن الدولة ويرى بأن الحاكم ينبغي أن يستمد سلطته من شعبه . ومن هذا كان يتخوف كثيراً من تجاوز الحاكم سلطته أكثر مما يتخوف من تجاوز الفئات الفقيرة في المجتمع لحقوقها الدستورية ومن هنا كانت أدلته في السلطة لتأييد الدستور البريطاني بهدف تقييد سلطة الحاكم ، ولكن بالرغم من أن «جون لوك» قد نادى بالديمقراطية ، وفقاً لنظرته الفلسفية والسياسية إلا أنه تقيد في فكرة ووضعها في نهاية المطاف في يد حاكم مطلق السلطات أي أنه وضع «السلطة» بكامل صلاحياتها في يد «فرد» من أفراد الشعب وإعطاء الشرعية في امتلاكها ، وهكذا عجزت فلسفته ونظريته السياسية عن تقديم حلول جذرية لمشكلة «أداة الحكم»

 

ثالثاً : السلطة عند بالكونين :

 

دون الخوض كثيراً في فلسفة ونظريات بالكونين السياسية نلاحظ أن فلسفته تتمركز حول رفض «سلطة الدولة» ويرى بأن الحكومات التي تدعي الديمقراطية لا تختلف عن الحكومات الاستبدادية المتسلطة مادامت تحكم فيها الإقليمية بالقوة وتتسلط على الأكثرية هذا وقد دافع «الكونين» عن معتقد «الحرية» الذي كان يسعى إليه بطريق مباشر ، وذلك بإلغاء «السلطة» من الجماعة أو الفرد واستطاع أن يحدث هزة قوية في الدول الأوروبية عن طريق هذه الأفكار الفلسفية السياسية التي اعتبرت في أكثر الأحيان بأنها شاذة إلا أنها تركت بصماتها في الفكر الفلسفي السياسي الذي ساد أوروبا في تلك الفترة وهي أفكار تفاعلت مع غيرها من نظريات وأفكار كانت تتجاذب عقول الناس حول مفاهيم الديمقراطية والحرية وأسس الحكم والدستور ، إلا أنها لم تؤد إلى بروز حلول جذرية لمشكلة أداة الحكم واستمر الوضع إلى أن برزت إلى السطح النظرية الجماهيرية نبراس الفكر الإنساني ، التي سوف نتناولها في مقال لاحق .

 

 

 

نشأة الأحزاب والتنظيمات السياسية :

 

 

 

أما عن ظاهرة الأحزاب والتنظيمات السياسية فإنها ظاهرة حديثة النشأة أخذت تتبلور بعد فشل أنصار الاتجاه الفوضي إبان «كومونة باريس» .. «وهي عبارة عن نظام جماعي مساواتي أدار مدينة باريس الفرنسية في الفترة ما بين 18 الربيع (مارس) ــ وبصورة أكثر رسمية 26 الربيع (مارس) إلى 28 الماء (مايو) 1871م ، وهي حركة نقابية عمالية (13) يسارية قامت بثورة تعتبر أول ثورة اشتراكية  في العصر الحديث استولت على السلطة في فرنسا لمدة شهرين . قامت بتعديل لون العلم الفرنسي إلى اللون الأحمر وأجرت عدد ا من الإصلاحات أهمها الإصلاحات التربوية ومن ثم فصل الدولة عن الدين ثم إلغاء العمل الليلي ومنع الغرامات والضرائب المفروضة على أجور العمال واستطاعت تشغيل المعامل التي تركها أصحابها هرباً ولجأوا إلى فرساي ، تحول العمال والعاملات إلى جنود فوق المتاريس للدفاع عن إنجازهم ، لكن كان قمع الثورة دموياً بشكل فظيع على يد تيير لويس أدولف وذلك في الأيام الستة الأخيرة من عمر الثورة ، سق الثورة بعد مجازر دموية لكنها كانت النار التي أوقدت عديد الثورات الاشتراكية في أوروبا والعالم . وقبل قيام «الكومونة» كان الصراع على أشده بين التيارات الدينية والفلسفية والتيارات الاشتراكية الثلاثة ـ الاشتراكية المثالثة التي كانت تتمثل في أفكار « سان سيمون »« الذي يعتبر رائد الاشتراكية الإنتاجية ومن الذين حاولوا تطبيق الأسلوب العلمي على الوقائع الاجتماعية ويمثل الاشتراكية الخيالية بعد الثورة الفرنسية » وأفكار « شارل فوربيه » و« روبرت أوين » وغيرهم والاشتراكية الفوضوية بقيادة لويس بلانكي « وكارل باكوين » والاشتراكية المادية التي جسدتها وقتذاك كتابات كل من « كارل ماركس » « وفر يدرك إنجلز »وغيرهما «4» وفي الواقع لم يكن مفهوم الحزب الحديث قد تبلور قبل كتابات « كارل ماركس » و« وإنجلز » إذ كانت هناك بعض الرابطات الأممية أو الحركات العمالية والفكرية أو النقابات والأندية الثقافية والاجتماعية ذوات النزعة اليسارية الرامية إلى إحداث تغييرات حذرية في البنية الاجتماعية ، أما مفهوم الحزب فلم يكن قد تبلور بعد في وحدة بنائية متكاملة أو في نظرية شمولية قابلة للتطبيق كما هو عليه في الوقت الراهن ، ويحسن بنا هنا أن نتعرف على مفهوم الاشتراكية لدى «كارل ماركس » قبل الغوص في موضوع الأحزاب السياسية.

Facebook
Twitter