الزراعة في ارض السواد على شفا الانقراض

 
المجرم بول بريمر يرتكب ابشع جريمة بحق الزراعة العراقية

اعتراف حكومي: سبعة ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر

اموال النفط تستخدم لتنمية طبقة سياسية فاسدة لا لتنمية الاقتصاد

 

 

في بلد تم تحطيم كل مراكزه الصناعية، وكذلك معظم بنيته التحتية، بل وتمت إعادته (كما وعد وزير الخارجية الاميركي السابق جيمس بيكر: الى القرون الوسطى، وقد عاد فعلا الى القرون الوسطى في الاقتصاد، والى ما قبل القرون الوسطى في السياسة) فماذا يكون بقي له غير الزراعة؟
طبعا هناك النفط.
ولكن في بلد يضخ يومياً 2,5 مليون برميل نفط يومياً، يعيش ربع سكانه تحت خط الفقر، ومناظر المتسولين وبائعي الأرصفة ومظاهر الفقر عامة وملحوظة بشكل عام.
وتقف مشكلة البطالة في مقدمة مظاهر الفقر وأسبابه، ففي ظل غياب الأطر والبرامج الاقتصادية الناجعة ارتفع عدد العراقيين، الذين يعيشون تحت خط الفقر، إلى قرابة سبعة ملايين شخص، وفق أحدث إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء، وهذا الرقم يشكل ما نسبته 23% من العراقيين.
وهذا يعني ان اموال النفط لا تذهب في اتجاه يساعد على تنمية الاقتصاد، وانما في الاتجاه الذي يساعد على تنمية طبقة سياسية فاسدة.
وهنا تبدو الزراعة وكأنها الملاذ الأخير. ولكن ما مصير الزراعة في العراق؟

الاحصاءات الرسمية تقول ان العراق فقد حتى الآن 40% من أراضيه الزراعية منذ بدء الغزو. ولكن هناك خطرا أشد يطارد الباقي.
في عام 2003 صرح الرئيس الاميركي جورج بوش بعد وقت قصير من اتمام احتلال العراق: “نحن في العراق لننشر بذور الديمقراطيّة حتى تنمو وتزدهر وتنتشر في منطقة تهيمن عليها النزعة التسلّطية”.
لم يخطر ببال أحد في ذلك الوقت ان حديث بوش عن “بذور الديمقراطيّة” يتعلّق في واقع الأمر، في احد جوانبه الأخرى غير نهب النفط، ببذور مؤسّسة “مونسنتو” Monsanto سيّئة السمعة صاحبة تاريخ عريق في التلوّث ومنتجة المادّة البرتقالية التي استعملت في حرب الفيتنام لإحراق الأشجار.
منذ انشاء سلطة الاحتلال “المدنية” شرع رئيسها بول بريمر في سنّ قوانين وقرارات (orders) بلغت المائة ودخلت حيّز التطبيق من نيسان-أبريل 2004.
ومن بين هذه القرارات قرار ينصّ على أنّه لا يحقّ لأيّ حكومة منتخبة أن تحدث تغييرا على القرارات التي أصدرها بريمر. ومن بين الأهداف التي سطّرتها سلطة الاحتلال إصلاح اقتصاد العراق وذلك وفقا للنموذج الاقتصادي النيوليبرالي.
لقد أحدث بريمر تحوّلات اقتصاديّة جذريّة وهيكليّة في بضعة أشهر تجاوزت ما قام به صندوق النقد الدّولي خلال 3 عقود في بلدان أمريكا اللاّتينيّة.
صرّح Joseph Stiglitz رجل الاقتصاد الأوّل السابق للبنك الدولي والحاصل على جائزة نوبل بأنّ هذه الإصلاحات هي بمثابة علاج جذري أعمق من ذلك الذي لجأ له السوفيات في السابق.
وكان من بين الإجراءات الأولى لإدارة بريمر تسريح 500 ألف موظّف حكومي من ضبّاط وأطبّاء وممرّضين ومدرّسين ومهندسين وناشرين وأصحاب مطابع ثمّ فتح الحدود للواردات وإلغاء الأداءات والمراقبة وخوصصة المؤسّسات الصناعيّة.
ويسمح القرار 39 للشركات الأجنبيّة بامتلاك 100 بالمائة من حصص الشركات العراقيّة باستثناء قطاع المصادر الطبيعيّة. أمّا الأمر 81 حول “البراءات والخبرة الصناعيّة والمعلومات السرّيّة والحلقات المندمجة وأنواع النباتات” فلقد مرّ مرور الكرام دون أن يفطّن لخطورته أيّ من المتعاملين مع قوى الاحتلال. وهو “يمنع منعا باتا على المزارعين إعادة استعمال بذور أنواع النباتات الخاضعة للحماية والتي يتعرّض لها الأمر عدد 14” أي أنّه إذا ما وقع ترويج أنواع من بذور القمح أو الذّرة على سبيل المثال ووقعت زراعتها بديلا عن البذور العراقيّة فإنّه يمنع على المزارع العراقي إعادة استعمال الحبوب المتحصّل عليها: بخلاصة ستتحكّم الشركات الكبرى المالكة للبذور في زراعة العراق لمدّة لا تقلّ عن 20 سنة.
ويعرف العراق بـ”بلاد ما بين النهرين” وهو مهد حضارة ازدهرت على امتداد أرض خصبة تقع بين دجلة والفرات وتهيّئ لزراعات القموح. فمنذ 8 آلاف سنة قبل المسيح طوّر الإنسان هناك أنواعا مختلفة من بذور القموح التي انتشرت بعد ذلك في كلّ أرجاء العالم.
ولقد تعوّد المزارعون على الاحتفاظ بقسم من البذور لإعادة زراعتها في السنة المقبلة وكوّنوا نوعيات جديدة منها بتلقيحها. ومن سخريّة القدر أنّ العراقيين قد خزّنوا عيّنات من هذه البذور في بنك وطني للبذور في منطقة أبو غريب التي يوجد فيها سجن الاحتلال سيّئ السمعة. ولقد أتت القنابل والمدافع على هذا البنك بينما كان بريمر ومستشاروه يسطرون مشاريع تخصّ المستقبل الغذائي للشعب العراقي. وتتمحور هذه البرامج في “تعصير” الزراعة العراقيّة و”تصنيعها”. ويعني هذا القضاء التدريجي على المزارع الصّغرى والبذور المحلّيّة والاستعاضة عنها بالمزارع الكبرى والبذور المهجّنة والمحوّرة جينيّا.
من المعلوم أنّ الأمر رقم 81 لم يخضع لنقاش بين الحكومة العراقيّة ولا المنظّمة العالميّة للتجارة كما هو جاري العمل به بالنسبة لبقيّة البلدان بل فرضته قوات الاحتلال وجعلت منه مرجعيّة لا تقبل المراجعة والتأويل. ولقد أصبح العراق مخبرا عالميّا لتطوير زراعات تخضع لكبار المؤسّسات العالميّة للبذور مثل Monsanto وDupont وDowChemicals.
ومن المعلوم أنّه قبل الغزو عانى المزارعون العراقيون من الحصار ومن الجفاف الذي استمرّ 13 عاما وتراجع الإنتاج بنسبة النصف ثمّ جاء ما يعرف بـ”النفط مقابل الغذاء”. ومنذ التوقيع على الأمر 81 شرعت الوكالة الأميركيّة للتنمية العالميّة (USAID) في ترويج آلاف الأطنان من البذور الأميركيّة المصنّفة من “النوعية الجيّدة والعالية” وقد وزّعت في بادئ الأمر مجانا على المزارعين العراقيّين وقد رفضت الوكالة أن تقع دراسة هذه النوعيّات والتحقّق منها وهل هي محوّرة جينيّا أم لا. بطبيعة الحال إذا تبيّن بعد ذلك أنّها محوّرة جينيّا فسيطالب المزارعون العراقيون بدفع إتاوات إلى الشركة المالكة للبذور.
في شمال العراق وقع إنشاء 54 موقع لزراعة القمح “المحسّن” وقد بلغت كلفة المشروع 107 مليون دولارا وهو يهدف إلى مضاعفة الإنتاج في السنة الأولى وذلك في 30 ألف ضيعة زراعيّة.
وبطبيعة الحال كانت هذه البذور محوّرة جينيّا وتتطلّب كمّيّات عالية من المواد الكيميائيّة من أسمدة ومبيدات توفّرها شركات Monsanto وCargill وDow Chemicals.
وفي شمال بغداد تكفّلت شركة مختصّة في إنتاج البذور المحوّرة جينيّا بتوفير البذور للمزارعين العراقيّين الذي يُجبرون على دفع أتاوة البراءة لكلّ نوع من البذور. لقد طوّرت هذه المؤسّسة 6 نوعيات من بذور القمح خصّيصا للعراق. يا للسّخاء! ثلاثة من بين هذه البذور ستخصّص لإنتاج العجائن وثلاثة لإنتاج الفارينة المعدّة للخبز. يعني ذلك أنّ 50 بالمائة من البذور التي روّجتها قوات الاحتلال في العراق بعد سنة 2004 موجّهة لإنتاج القموح المعدّة للتصدير بما أنّه ليس من عادات العراقيّين الغذائيّة تناول العجائن. إذن يهدف الأمر 81 إلى فرض زراعة معدّة للتصدير وللصناعة الغذائيّة الأجنبيّة ويتجاهل الـ25 مليون عراقي الذين يعانون من سوء التغذية وحتى المجاعة.
صرّحت وزيرة الزراعة سوسن علي مجيد الشريفي الشمري في كانون الأول-ديسمبر 2007 (وقد درست في الولايات المتّحدة الأميركيّة): “نحن بحاجة لمزارعين عراقيّين قادرين على المزاحمة وقد قرّرنا دعم الواردات من المبيدات والأسمدة والبذور المحسّنة بينما حدّدنا من مجالات الدّعم الأخرى”.
تمثّل البذور الحلقة الأولى والرّئيسيّة في السلسلة الغذائيّة وبالتالي تمثّل رهانا اقتصاديّا وسياسيّا جوهريّا وأداة هيمنة رهيبة.
تعتبر السيدة فاندانا شيفا (من الهند) وهي مديرة “مؤسّسة البحث العلمي والتكنولوجي حول المصادر الطبيعيّة” الأمر 81 “عملا إجراميّا لأنّه يمسّ بجوهر الزراعة ويهمّ البشريّة جمعاء خصوصا وأنّه في ظروف الحرب تتّخذ حماية البذور الأصليّة والمحلّيّة أهمّيّة كبرى”. بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع مزارعي العالم والذي انعقد في 26 نيسان-أبريل 2009 صرّحت فاندانا شيفا ما يلي: “إنّ هذا الإرث العظيم من البذور العراقية ليس ملكا خاصّا لبلد ما ولكنّه حقّ لكلّ البشريّة ولهذا من واجبنا جميعا الدّفاع عنه بكل حزم…”.

Facebook
Twitter