إرهاصات النظام الجماهيري

النظام الجماهيري هو مجتمع كل الناس الأحرار المتساوين في الثروة والسلطة والسلاح

تركيز السلطة والثروة والسلاح في يد طبقة معينة انحراف عن القواعد الانسانية الطبيعية وغمط لحقوق الانسان

 

د. عبدالسلام الطيف

ما المقصود بالإرهاصات ؟
هي مجموعة مقدمات تسبق حدثا معينا أم هي علامات لانتشار فكرة معينة أو نظام ما . مثل الإرهاصات التي سبقت بعثة الرسول محمد ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ ؟!
إذاً النظام الجماهيري الذي تنادي به النظرية الجماهيرية  ، هل له علامات وإشارات ، لكي يتحقق على أرض الواقع ؟
لكي نجيب على السؤال لابد من الإجابة على سؤالين مهمين ، وهما :
ماهو النظام الجماهيري ؟ وهل سبق أن وُجد هذا النظام كي نقول بأن هذه الإرهاصات تعني رجوعه ؟!
أولا : ماهو النظام الجماهيري ؟ وماهي أهدافه ؟ وكيف يمكن أن تحققه ؟

التعريف النظري للنظام الجماهيري
 
النظام الجماهيري كما عرفته الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان في عصر الجماهير هو مجتمع كل الناس الأحرار المتساوين في الثروة والسلطة والسلاح إذاً هو مجتمع تسود فيه حرية الناس والمساواة بين هؤلاء الناس في كل شئ . إطار هذه الحرية والمساواة هو سلطة الشعب والاشتراكية والشعب المسلح ، أي اختفاء الأدوات في السلطة والملكية والسلاح التي تحول بين الجماهير وحاجاتها .
أما أدوات تحقيق الحرية في السلطة ، فهي المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية ، وفي الاشتراكية امتلاك وسائل الإنتاج من المنتجين ، وفي السلاح إقامة الشعب المسلح ، وإلغاء الجيش النظامي .
هذا المجتمع هو مرحلة متقدمة في حياة البشرية ، ذلك أنه حسب التعريف التاريخي للنظام الجماهيري بأنه نظام وسط بين نظام عصر الجمهوريات وعصر الفوضى والغوغائية .
إن عصر الجمهوريات الذي أعلنته الثورة الفرنسية كان مرحلة متقدمة نحو تخليص الجماهير من الديكتاتورية ووصولها إلى الحرية الكاملة ولكن ذلك لم يتحقق لأن حرية الجماهير قد سرقتها الحكومات والمجالس النيابية والأحزاب والشركات الرأسمالية ، فعصر الجماهير هو المرحلة النهائية للوصول إلى الحرية الكاملة التي لايجب أن تمارس بصورة غوغائية وفوضوية تؤدي بعد ذلك إلى ظهور عصر الفوضى فتنعدم الحرية ..
كيف تصل المجتمعات إلى الفوضى ؟ عندما تنتهي الأدوات الفوقية ، ولايحل محلها الشعب منظماً في مؤسسات شعبية ، في هذه الحالة تحل الفوضى .
من همُ الذين يقومون بإحلال الفوضى ؟ هل هم الغوغائيون أم الآخرون ؟..
 إن الذين يقومون بإحلال الفوضى هم الأقوياء، عندما يحكم الأقوياء فإن عصر الفوضى يحل كما يقول الفكر الجماهيري: ( أما من الناحية الواقعية ، فإن الاقوياء دائماً ـ يحكمون) أي أن الطرف الأقوى في المجتمع هو الذي يحكم .
انظروا ماذا حدث في العراق : عندما انهار  النظام القائم ، ودخلت قوة عظمى إلى البلاد عمت الفوضى والنهب والتخريب والدمار !.
إذاً بدون وجود مؤسسات شعبية منظمة تحقق المساواة والحرية ، فإن الأقوياء الغوغائيين سوف ينقضون على الحكم ويتحكمون في الجماهير
إذاً النظام الجماهيري ، كما جاء في الوثيقة الخضراء الكبرى هو الحرية الكاملة لأفراد الشعب ، أكدت عليها الوثيقة عندما رجعت إلى مقولة الخليفة : عمر بن الخطاب ـ رضى اللّه عنه ـ : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ) وفي ما يتعلق بالمساواة أكدت المادة 21″ إن أبناء المجتمع الجماهيري متساوون رجالاً ونساءً في كل ماهو إنساني ، إذاً هذه هي أهداف المجتمع الجماهيري ممارسة الحرية المنظمة بكل وسيلة وتحقيق العدالة الاجتماعية “.
إذاً هذا النظام البديع هل يمكن تطبيقه على أرض الواقع ؟….
إن الإجابة على هذا السؤال تدعونا إلى استعراض المحاولات السابقة التي حاولت تطبيق المجتمع الجماهيري  ثم بعد ذلك نحاول إلقاء الضوء على وجود بعض المؤشرات والعلامات التي تنبىء بقدوم عصر الجماهير .
ثانياً : المحاولات السابقة لتطبيق النظام الجماهيري
إن النظام الجماهيري نظام يرتبط بالمجتمع الذي يقوم على مبادئ القانون الطبيعي ، فالعلاقات فيه بين الأفراد تحكمها القواعد الطبيعية العادلة . وأهم هذه القواعد هي المساواة في الحكم والثروة والسلاح .
إن الذي عليه المجتمعات الحديثة من تركيز للسلطة والثروة والسلاح في يد طبقة معينة ، هو انحراف عن هذه القواعد الطبيعية .
نظرا لصلاح هذا النظام وتأكيده على العدالة والمساواة . فإنه قد أخذ يظهر من حين إلى آخر عبر التاريخ . فقام النظام الجماهيري في آثينا باليونان قبل الميلاد ، وفي الجزيرة العربية في يثرب خلال عهد الرسول محمد ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ ثم في باريس سنة 1883فيما يُسمّى بكمي باريس ، ثم حديثا في سويسرا .
وازدهرت هذه الديمقراطية التي قامت على نظام الجمعية الوطنية التي تضمّ كل السكان ماعدا الأجانب والعبيد وأعضاء هذه الجمعية من السكان المذكورين يناقشون جميع شؤون بلادهم ثم يعينون 500عضو لمدة عام من أجل تنفيذ هذه القرارات .
إذاً نحن أمام نظام متكامل شبيه بنظام المؤتمرات الشعبية ،، شعب يقرر (الجمعية ) ولجان تنفذ ( مجلس الــــ500)، ولكن هذا النظام يُعاب عليه ، أنه حصر ممارسة الديمقراطية في الأحرار والمواطنين والذكور فقط
لقد ازدهرت الحياة في آثينا والمدن الأخرى التي طبقت الديمقراطية المباشرة ونشأت حضارة فكرية عريقة في اليونان إذا كان النظام الذي نشأ في آثينا لم يكن نظاماً جماهيرياً متكاملاً ، فإن النظام الذي نشأ عند المسلمين كان نظاماً متكاملاً .
ذلك أنه عندما دخل الرسول الكريم إلى المدينة ، فإن أول عمل قام به هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، ثم توقيع معاهدة بين المسلمين واليهود وجميع المقيمين في المدينة . وهذه المعاهدة تعتبر بمثابة الوثيقة التي أسست نظاماً يقوم على الاحترام المتبادل والتعاون بين المجموعات المقيمة في المدينة وقد حددت هذه الوثيقة المبادئ التالية :
ـ العيش في سلام وتفاهم بين المجموعات التي تسكن المدينة .
ـ التضامن العسكري والمالي بين سكان المدينة في رد الغزو الخار جي .
ـ احترام ديانة كل مجموعة واحترام الجوار .
إن هذه الإجراءات هي الأساس لإقامة الدولة التي يسود فيها النظام الجماهيري .
حسب ماتقول الوثيقة إن مجتمع المدينة هو أمة واحدة من دون الناس . أي أن هناك تعايشاً بين الجماعات على قدر المساواة .
 تمثلت هذه المساواة في نظام الشورى الذي طبقه الرسول ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ فالقرارات كانت تتخذ بالتشاور بين المسلمين والرسول الكريم نزولاً عند قوله تعالى : “وأمرهم شورى بينهم “وقوله تعالى ” وشاورهم في الأمر ” وقد تأكد ذلك في كثير من المناسبات التي شاور الرسول فيها الصحابة .
بالإضافة إلى ذلك فإن مظاهر المجتمع الجماهيري كانت قد تمثلت في تأسيس نظام التكافل الاجتماعي والتعاوني الذي يؤدي إلى توزيع الثروة بصورة عادلة عن طريق الزكاة ، وبيت مال المسلمين ومما يؤكد ذلك ، فإن الإسلام قد ربط الشورى والزكاة بالإيمان مما يدل على وجوبهما في إقامة هذا النوع من النظام.
أضف إلى ذلك ، فإن الجهاد قد فرض على جميع المسلمين بمعنى أن جميعهم كانوا يحملون السلاح مما يدل على اشتراك الناس في كل شيء الذي هو من سمات النظام الجماهيري . ولقد أدّى تطبيق النظام الجماهيري إلى قيام حضارة ذات أبعاد إنسانية وعلمية وثقافية ،أنارت للعام الدروب المظلمة نحو مجتمع سعيد .
في العالم الجديد : أول نظام حديث طبق الديمقراطية المباشرة هو النظام السويسري .
النظام السويسري الحالي كونه نظاماً يسير الدولة هو نظام عادي ، بمعنى أنه يتبني المؤسسات التقليدية . أما نظام الديمقراطية المباشرة فهو مطبق في مقاطعات هذه الدولة.
كيف يعمل هذا النظام ؟
يتجمع مواطنو المقاطعة على شكل هيئة أو جمعية عمومية تسمّى الجمعية الشعبية ، وتعقد اجتماعها مرة كل عام ، ويكون اختصاصها منحصراً في إقرار القوانين التي تعرض على مجلس المقاطعة وليس لها أية صلاحيات تنفيذية ولكن الذي يقوم بتنفيذ القرار والقوانين هو المجلس التنفيذي .
الذي شجّع على قيام مثل هذا النظام هو قلة عدد السكان . ولكن عندما ازداد عدد السكان أصبح التطبيق لهذا النظام مستحيلاً وأصبحت المقاطعات تتراجع عن هذا النظام الواحدة تلو الأخرى حتى لم يبق سوى ثلاث مقاطعات فقط تطبق هذا النظام في سويسرا .ومع ذلك فإن النظام الاداري المطبق في سويسرا هو الاستقلالية الكاملة للمدن حيث تدار المدن إدارة ذاتية فلكل مدينة نظامها الإداري الخاص بها . وهو أمر يدل على التوجه نحو النظام الديمقراطي الموسع .
هناك تجربة أخرى طبقت في فرنسا لفترة قصيرة عام 1883 ف والتي عرفت بما يسمي بــــــ (كومونة باريس ) وفيها تم تنظيم العمل الجماعي بين مجموعة من السكان المنتمين إلى هذه الجمعية ومارسوا فيها اتخاذ القرار الجماعي .
 لكن كل هذه الأنظمة لم تستمر في ممارسة الديمقراطية نظراً لتطبيقها غير المتكامل لكل عناصر الديمقراطية وعدم وجود آلية تستوعب كل الجماهير ، حتى لا يبقى أحد خارج السلطة ، فالديمقراطية هي أن يمارس الجميع السلطة بكل ممارسة فعلية .
 إن النظام الجماهيري هو مشروع حضاري يستلهم القيم العربية والإسلامية ويقاوم كل تغريب للهوية.
وإن تطبيق هذا النظام في الجماهيرية ينتقل بالمجتمع من مجتمع متخلف إلى مجتمع يتطلع إلى غد أفضل ، تكتمل فيه كل مظاهر الحرية ، فليست الحرية هي فقط أن تعبر أو تشارك فقط وإنما الحرية هي أن تمارس السلطة بنفسك ، وما هي درجة نجاح هذا النظام في تحديد الحرية ؟
لقد رأينا أن تطبيق النظام الجماهيري في أثينا قد عاد عليها بإنتاج حضارة فكرية ومادية متطورة . وقد أدى تطبيق الإسلام للنظام الجماهيري إلى إقامة مجتمع العدالة والمساواة والتقدم .. كذلك هو الحال في سويسرا ، وترون أن سويسرا الآن هي أرقى دول العالم تقدماً وتحضراً.
إن النجاح في تحقيق العدالة والمساواة والحرية والرقي يجعل من النظام الجماهيري نظاماً تتطلع إليه شعوب العالم لأنه يمثل أداة لإنقاذهم من الظلم والقهر والاستغلال .
 لذا فإننا نرى الشعوب على امتداد أرجاء المعمورة تطالب بإقامة هذا النظام مما يشكل إرهاصات يدل على ضرورة قيام النظام الجماهيري في شتى دول العالم ، فما هي مؤشرات قيام النظام الجماهيري ؟
 ثالثاً ـ ملامح ظهور النظام الجماهيري في العالم
 إن ما يعانيه العالم اليوم من عنف العولمة ومن سيطرة الرأسمالية سواء في الغرب أو الشرق جعل المجتمعات الحديثة تعيش في مخاضات عسيرة ، فالصراعات الداخلية في المجتمعات والإرهاب والحروب والبطالة والفقر وازدياد حدة التفاوت بين المجتمعات دفعت الشعوب إلى البحث عن حل لهذه الأمراض ، فعبرت عن ذلك في كل أنحاء العالم « بطرق عنفوانية» مثل المظاهرات والاعتصامات والثورات والعصيان أو بطرق سلمية وأخرى عفوية مثل رفضها الذهاب إلى صناديق الاقتراع ، والتكتل في منظمات المجتمع المدني وإنشاء الطوائف والأحزاب وإحداث الإصلاحات في الأنظمة السياسية والإدارية مثل اشتراك المواطنين في الإدارة واتباع نظام الاستفتاء ، ثم إعلان زعماء بعض الدول الغربية انتهاج ما يسمى بالخط الثالث .
 كل هذه التحولات تتجه بالمجتمع الدولي إلى الوصول إلى مجتمع جديد أكثر عدلاً وأكثر مساواة وأكثر حرية ، فهي إما تشكك في جدوى مؤسسات النظام التقليدي السياسي والاقتصادي أو تذهب أكثر من ذلك لإقامة مؤسسات بديلة تبشر بقيام النظام الجماهيري
 ـ مظاهر تؤكد إفلاس مؤسسات النظام التقليدي
 لماذا تتظاهر الجماهير وتعتصم في الشوارع
 إن الجماهير بهذا الفعل تؤكد على أن الديمقراطية الغربية لاتعبر تعبيرآً حقيقياً عن الحرية ولا تلبي كل حاجات الجماهير ، كيف ذلك ؟
 عندما تحتكر مجموعة القرار سواء عن طريق السلطة التشريعية أو التنفيذية فإن في ذلك تقييداً للحرية وتقييداً للسيادة ، سيادة الفرد ثم بالتالي سيادة الشعب . إن النظرية النيابية أرادت بهذه الديمقراطية حماية الفرد ، ولكن الذي حدث هو العكس .. ما الذي حدث ؟
أصبحت الديمقراطية ضد الحرية .. لقد ظهر أخيراً مبدأ في فرنسا وفي الغرب بصورة عامة ينادي بضرورة احترام الديمقراطية للحرية ..
 كيف ظهر هذا المبدأ ؟
 ظهرت المناداة بهذا المبدأ بعد الأحداث الأخيرة في أمريكا وأوروبا ، وأحداث 11 سبتمبر وأحداث الإرهاب ، وأحداث الحجاب في فرنسا ، في أمريكا باسم الديمقراطية قيدت حريات الناس فعرض الفرد إلى مضايقات ، منعت باسم الديمقراطية مجموعات من تكوين الأحزاب من إنشاء جمعيات تدخل فرنسا في الجزائر في الانتخابات ومنع الحزب الذي نجح في الوصول إلى السلطة وفي أفريقيا باسم الديمقراطية ثم التدخل بالقوة لتثبيت أنظمة موالية للغرب . أيضاً باسم الديمقراطية منعت الفتيات المسلمات في فرنسا من ارتداء الحجاب .
إنهم من أجل تعميم مبدأ الديمقراطية في الداخل أو في الخارج فإن الغرب لايكترث بالحريات . وهو ما حدث ويحدث في العراق وفي فلسطين من انتهاك لحقوق الإنسان وهو ما يعري زيف الديمقراطية الغربية.
إن صدور القرارات المهمة التي تؤثر في حياة الناس لاتعرض على البرلمانات بل تتخذها الحكومات منفردة وحتى القوانين المهمة التي يصدرها البرلمان تلاقي رفضاً شعبياً كبيراً.
لقد رأينا كيف أعلنت أمريكا وبريطانيا الحرب على العراق باسم الديمقراطية رغم حجم المعارضة الدولية والشعبية ، ثم كانت النتيجة انتهاكاً للحريات وحقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي الإنساني .وحتى وإن ثارت الجماهير على البرلمان وعلى الحكومة فإن ذلك لايعدو إلا أن يكون بصفة مؤقتة فعندما تترك الجماهير الشوارع وترجع إلى سكونها تعود الحكومة إلى مصادرة الحرية من جديد.
 فمثلاً في فرنسا 1986 أصدر وزير التعليم قراراً يتعلق بتعديل بعض أسس التعليم العالي وذلك بدون الرجوع إلى القاعدة الطلابية المعنية ، ظهرت جماهير الطلاب غاضبة واستمرت مالايقل عن أسبوعين حتى اضطر وزير التعليم لسحب قراره ، ثم خرجت الجماهير الطلابية بعد ذلك عدة مرات لتتظاهر ضد قرارات وزارة التعليم .
 في سنة 1996 صدر قانون في فرنسا يقضي بسحب رخصة القيادة بعد تسجيل ست نقاط من المخالفات التي يرتكبها السائق فتظاهر سائقو الشاحنات وأغلقوا كل الطرق والمنافذ ، حتى اضطرت الحكومة إلى تعديل القانون واستمر الاضراب حوالي شهر . كذلك هو الحال سنة 1997فيما يتعلق بتعديل قانون الضمان الاجتماعي . فقد قاومت الجماهير القرار الفوقي بمظاهرات   واضطرابات استمرت لمدة شهر . كل هذا يدل على رفض الجماهير لأداة صناعة القرار التقليدية وعدم مشروعيتها ولكن السلطة الفوقية مستمرة في مصادرة الإرادة الشعبية إن هذه الممارسات عززت ظاهرة عدم الانسجام بين الحكومات والبرلمان من جهة والشعوب من جهة أخرى . ويأتي عزوف الجماهير عن الانتخابات الرئاسية والتشريعية ومقاطعة الاستفتاءات دليلاً على رفض الجماهير لهذا النوع من التزييف الديمقراطى .
إن الجماهير بهذا الفعل أيضاً تعبر عن فشل النظام الرأسمالي في حل المشاكل الاقتصادية المتفاقمة يطالعنا العالم في اليوم الأول لشهر « مايو » من كل سنة تظاهرات عمالية واسعة تعبر عن رفضها للإجراءات الاقتصادية والسياسية وهي دليل على فشل النظام الرأسمالي في عجزه عن تفعيل الاقتصاد الدولي والداخلي خاصة للدول النامية . وتمثل هذه الأزمات الاقتصادية في الأزمة التي ضربت العالم الغربي سنة 1929 ثم الأزمات الحديثة التي جاءت بسبب العولمة الاقتصادية بداية من التسعينيات . والتي نذكر من بينها الأزمة التي ضربت المكسيك والأزمة الاقتصادية التي ضربت دول جنوب شرق آسيا والأزمة الاقتصادية التي ضربت الأرجنتين سنة 2000.
وما يؤكد فشل النظام الرأسمالي وبرنامجه الإصلاحي فشل برامج الأمم المتحدة للتنمية التي تنفذها أدوات النظام الاقتصادي الرأسمالي مثل بنك التعمير والإنشاء الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية ..
كل هذه المشاكل دفعت الشعوب المتضررة إلى التعبير عن رفضها للنظام الرأسمالي ما دفع الدول الغربية والدول التي تنتهج هذا النظام إلى إجراء إصلاحات اقتصادية مثل المشاركة في الإنتاج وتحسين أنظمة الضمان الاجتماعي وتحسين نظام الضرائب ودعم الشركات الصغيرة إلخ …
ولكن زيادة تفاقم المشاكل وتردي الأوضاع الاقتصادية وانتهاك الحريات أدى إلى ذهاب الشعوب إلى أكثر من ذلك بأن قاموا بتأسيس منظمات بديلة لمؤسسات الأنظمة التقليدية ..

المؤسسات البديلة للنظام التقليدي

 نظراً لفشل أجهزة الدولة التقليدية ، في تلبية حاجات المواطن وحماية حقوقه فإن المواطنين تنادوا داخلياً ودولياً لتشكيل منظمات أهلية وخيرية من أجل الاضطلاع بمهام إنسانية وخدمية . ومن بينها :
 ظهور مؤسسات المجتمع المدني الذي يمارس ضغطاً على الحكومات والرأي العام من أجل تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي تعتبر دعامة لمفهوم الجماعة الدولية . ويمكن تحديد مفهوم وغرض المجتمع المدني كالآتي :ـ
 « إن المواطنين ، ربما تعبيرا عن خيبة أمل في الدولة ، وشعورهم بقصورها أو تقصيرها ،أو خشية طغيانها أخذوا يحاولون تنظيم هذه العلاقات بعيداً عن مجال الدولة ، هذا وذاك أدى إلى محاولة إعادة تحديد المجتمع المدني ، باستبعاد العلاقات والمؤسسات السياسية منه ، والتي تخص الدولة .. إذن المجتمع المدني في صورته الجديدة ، ينشأ موازياً للمجتمع السياسي أي الدولة . وهذا يشترط أن يكون المجتمع السياسي لايشمل كل علاقات مواطني الدولة ، وبالرغم من أنه يتوسط كل علاقاتهم السياسية ،إلا أن مشاركتهم فيه بالمقابل محدودة نوعاً ومحددة زمناً ، ما يسمح بظهور المجتمع المدني ، والذي يهتم بما تستبعده الدولة من مجال اختصاصه» .

المشاركة الشعبية في القرار الإداري

إن التطورات التي حدثت أخيراً في المجتمعات خاصة الغربية وظهور مبادئ جديدة مثل توسيع نطاق المشاركة الشعبية في كل مجالات الحياة وتعقد الحياة الاقتصادية حمل علماء الإدارة والحكومات على التفكير في تفعيل الإدارة ، فلم يعد أسلوب المدرسة العلمية والسلوكية قادراً على تلبية متطلبات تطور الإدارة لذا عمد إلى اتباع أساليب مشاركة المواطن المستهدف بالعملية الإدارية ذاتها في ترشيد القرار الإداري بل والمساهمة في إصداره .
 ومن هذه الأساليب إعطاء النقابات المهنية دوراً فاعلاً في مراقبة سير العملية الإدارية والتنبيه إلى الأخطاء الإدارية التي قد يرتكبها المديرون أو المسؤولون الأكثر تأثيراً على مصالح الجماهير التي يرتكبها السائق ..
ومن بين الأساليب المتبعة في تفعيل الأداء تنظيم الإدارة لحملات استبيان تستهدف المعنيين بالقرار أو بالمشروع الإداري ، وقد تعمد الإدارة إلى التوجه إلى المواطنين لتعرف مدى نجاحها في تلبية حاجاتهم وتقديم الخدمة لهم على أحسن وجه .
 إذا هناك مشاركة شعبية في عملية الإدارة نزولاً عند متطلبات العملية الديمقراطية ودورها في تحسين وضع الإدارة والتي تبشر بظهور الإدارة الشعبية التي هي جزء من النظام الجماهيري .

 الطريق الثالث
 
 أدى تفاقم الأزمات الاقتصادية بعد سقوط الشيوعية التي كان يعزى لها مشاكل الركود الاقتصادي ، إلى التفكير من جديد في إصلاح الرأسمالية..
 نادى بهذا الإصلاح الأحزاب الأوروبية الاشتراكية أو الاجتماعية التي تنادي بإجراء مجموعة من الإصلاحات تضع حلاً يقع بين الحل الشيوعي والحل الرأسمالي سموه الخط الثالث
 إن زعماء الأنظمة الاجتماعية الإصلاحية وعلى رأسهم بلير في بريطانيا طالبوا بوضع نظام وسط بين الماركسية والرأسمالية ، نظام ينبذ الماركسية ويضع حلاً للبطالة وارتفاع الأسعار وسو المعيشة الذي سببته الرأسمالية« نظام اجتماعي» وتفعيل الديمقراطية الاجتماعية ، نادى أيضاً بذلك الرئيس الفرنسي جاك شيراك .
فهي محاولات توفيقية بين نظام السوق ونظام تدخل الدولة وبين مطلب العدالة .. رأى شيراك في قمة «الدول الصناعية السبع» المخصصة للعمل إنه نظام أفضل للأسواق الحالية وهو موضوع يهم الاجتماعيين الديمقراطيين «إصلاح اجتماعي ديمقراطي وتوسيع دائرة الديمقراطية »
 كل هذه الإجراءات هي دليل على أن العالم يبحث عن نظام جديد يخلصه من الظلم والجور والفقر والحروب المدمرة ، إنها مؤشرات وعلامات قدوم النظام الجماهيري.

 

Facebook
Twitter