آثام الأب وتفكك الاسرة في رواية (موت الاب) كاظم حسوني

هذه الرواية جد مهمة وتأتي اهميتها في محاولة الروائي احمد خلف تفجير اقصى ما في التجربة الانسانية، القائمة على استحضار عميق لفاجعة عائلة اصيبت بالهلاك والتفكك بمعول الاب! إذ نرى الاحداث تجري من خلال عين الطفل الذي كانه التاجر، وهو الابن الوحيد الناجي، التي جاءت كشهادة ادانة، واتهام لما اقترفته يد الاب بحقه وبحق اسرته، حيث تمتد جذورها الى طفولته ومطلع شبابه، كان خلالها ضحية سطوة وارهاب الاب، تلك التجربة التي ابتليَ بها الابن المثقف والمفرط الحساسية، وليس بمستطاعه نسيانها، او الهرب منها حتى غدت (سر محنته وعذابه المستديم) فالذاكرة ما انفكت مشحونة بأحزان الماضي، وآثام الاب الذي قتل اخاه، واضاع ابنه الكبير، وتسبب في موت زوجته، مطارداً النساء، وهو يتفجر شبقاً، ارضاء لشهوته ونزواته، جاءت الفصول الاكثر اشراقاً وحيوية ومتعة، تلك التي رويت بلسان الابن التاجر بائع التحف والحاجيات الثمينة، عندما راح يقص وقائع ماضيه وطفولته للصحفي أمجد، بعد ان ضمتهما عدة جلسات في غرفته الوثيرة الواسعة، ومما لا شك فيه أن التاجر كان يأمل من وراء ذلك اقناع الصحفي بادراج فصول حكايته في الرواية التي يزمع كتابتها، حيث يؤكد امجد ذلك (فالوسيلة الوحيدة لديه هي الصوت اما الكتابة فقد اناطها بي منذ عرف اني مضيت عدداً من السنين اعمل في الصحافة، واطمح الى خوض كتابة رواية)، الا اننا نكتشف في موضوع آخر ان امجد قد انجز بعض فصولها وأعارها، اي روايته الناقصة كما يدعوها الى صديقه التاجر بطلب منه، وفوجئ في لقائه به بعد ذلك، بقدرته البالغة على التحليل وثقافته، (كان قد ادهشني بالتماعاته عن الرواية الناقصة وقد ذكرني بأولئك المثقفين والعارفين، ماذا يريدون من تعلمهم، أو أولئك الذين لا يجيدون الكتابة خجلا او حياء)، وتتابعت زيارات الصحفي للتاجر في متحفه او غرفته الباذخة دون ان يشاركهما أحد، وسط صمت البيت الكبير، هكذا عمد التاجر الذي اقصاه الماضي وخرب حياته، فلم ينل الراحة التي ينشد، برغم مظاهر الترف المحيطة به، وثرواته المتكدسة، فراح يقص سيرته وتجربته، وما انطوت عليه نفسه من مرارات بكلمات فاضت بالحرارة والصدق، وعمد الى ان يقتصد في البوح في كل مرة ليستكمله في جلسة تالية، محتفظاً بتسلسل الاحداث على هيئة حلقات متواصلة، بغية ادامة لعبة التوتر، والتشويق والاصغاء ، واننا لنستشعر وقوف الروائي احمد خلف وراء بطله التاجر، وبما اقتضاه ذلك من ملاحقة اطواره وتقلبات حياته، تضافرت معها لمسات الخيال التي اكسبت بطله المزيد من الجاذبية، فانتزع تعاطفنا واهتمامنا منذ السطور الاولى، مثلما استحوذت حكايته على الصحافي، فبدا أعمق انفعالا، وأكثر متعة (كان حميماً حتى في لحظات صمته او تأمله، وتلمست نوعاً من الاخوة المرتجاة) مثلما تمثلت في امجد روح الاخلاص، والمشاركة في رحلة ثرة غنية، ظل يطمح في الاستزاده منها، على مدى الجلسات التي ضمتهما معاً، لم تكن رواية (موت الاب)، هي حكاية التاجر وحده، برغم انها تشكل البؤرة، وتحتل الصورة ببصرنا عن سواها من الشخصيات او بدت وكأنها مرايا انعكست عليها أزمة بطله التاجر برغم احتفاظ الشخصيات الاخرى باستقلالها، واختلاف مسارها في الرواية، ففي الوقت نفسه كانت تسير معها حكاية الصحفي امجد الذي فقد والده في مدينة بعيدة على نحو غامض، وهو لم يزل فتى صغيراً، لم يتعد التاسعة عشرة، وما خلفه موت الاب المفاجئ، الذي كان مدعاة لحيرته وحزنه الشديد، اذا ألفى نفسه وحيداً، بل المعين الوحيد لأسرته بما يقتضيه ذلك من أخذ دور الاب، وما اكتنفه من صعوبة تقبل الوضع رغما عنه، من اشاعة جو الحزن والصمت الذي ساد البيت، ومعاناة شظف العيش، ثم اضطرار الام الى الانخراط في صنع اقراص الخبز وبيعها للناس، كيما تجنب اسرتها غائلة الجوع والعوز ولعل اهتمامه واصراره على مواصلة دراسته، لم يكن الا بدافع اثبات رجولته، ومحاولة تجاوز المحنة، ومهمة إلزام نفسه بأن يحتل مكان ابيه، رافق ذلك تفتحه المبكر على كتب الادب والفكر والفلسفة، وشغفه الكبير بالقراءة، وطوال تلك المدة العصيبة من فتوته ما كان يلتمس او ينتظر عوناً من احد، عدا لجوئه الى ابنة خالته (هاجر) الفتاة ذات الاربعة عشر عاماً، والتي لازمته اكثر من غيرها (وكانت ملاذا له وسلوى من دون كلل او ملل)، (هاجر) هي الفتاة الاولى التي تطلع علينا في الرواية، وسنعرج على حكايتها الراهنة، لندع طفولتها وعلاقتها المبكرة بأمجد، والمتمثلة في تعرضها لفاجعة الاعتداء عليها المتمثلة في فقدان عذريتها، بعد استدراجها وخداعها من قبل رجل تعرفت عليه مصادفة، في حديقة الكلية هي وزميلة لها، حيث قادهما الى ذلك البيت الغامض الذي يقطنه عدد من الرجال وكيف رأت في تلك الليلة عدداً منهم منشغلا بدفن جثة، او شيء لا تعلمه في الحديقة المظلمة، وقصارى ما استطاعت فعله هو انها ذهبت في الصباح التالي الى ابن خالتها بمقر عمله في الجريدة، مستنجدة، وقادته لتمضي به الى ذلك البيت، وفي الطريق اخذت تروي له كيف تورطت هي وصديقتها في الذهاب اليه، موضحة له ما لاقته على ايدي أولئك المجرمين، فيما كانا يقطعان مشوارا طويلا ويتوغلان بين الازقة، مناشدة اياه ومنتظرة منه العون والنصيحة، الا اننا نفاجأ بعدم تأثر امجد واكتراثه لأمرها، وكأنها حادثة عابرة لا تستحق التوقف عندها او بحثها، لاسيما بعد فشلها في العثور على البيت، ولم يبد أي رد فعل أو محاولة للبحث أو التعرف على الجاني، وبدلا عن ذلك راح يحدثها في الباص الذي استقلاه عن كتاب (الكنز) الذي كان يحمله معه، بعد ان فقده لعدة ايام، وبأنه اثمن كتاب حملته يداه حتى الآن، ثم استطرد في الحديث عن حكايات الكنوز الضائعة، وبعد ان امضيا نصف النهار معاً، افترق عنها في ساحة الميدان، وقد عزم على تقديم الكتاب الى المكتبة الوطنية (لم تكن تعلم هاجر، انني اروم الوصول بالكنز الى هناك)، الى هذا الحد فإننا لا نعلم شيئاً عنها بعد ذلك، وبقيت حكاية (هاجر) معلقة ولا نعلم ما آل اليه مصيرها، كذلك نرى (عادل بيكاسو) الرسام، الصديق المشترك لأمجد والتاجر، والذي اعتاد على دعوتهما بين آونة واخرى في مرسمه، وشخصيات اخرى مثل مريم وقاسم وسواهما من زملاء العمل في الجريدة، ونقاشاتهم الصاخبة في بعض الأوقات داخل الاروقة والغرف، وقبيل ختام الرواية ادخر لنا الروائي مفاجأة لم تكن تخطر على بالنا قط، حينما نكتشف وجود الاب في البيت! الاب ذاته الذي كان وراء كل تلك المحن التي لحقت بالعائلة، وبالرغم من دهشة امجد، بدا بنظره مجرد سجين، او رهينة في غرفة موصدة (خيل لي انني ارى وجها قدّ من حجر) وبالقدر الذي فاجأنا من قبل بوجود (ساهرة) زوجة الاب، التي نال على يديها قسطا غير قليل من الأذى، وهي المرأة الوحيدة في البيت التي تقوم بخدمة التاجر، وفي السطور الاخيرة نرصد تغير موقف الصحفي امجد، او تخليه عن كتابة سيرة صديقه التاجر، ذلك حينما سأله فجأة عقب رؤية الاب، هل ستكتب هذا كله؟ فأجاب امجد، اصارحك بالحق، لست قادرا على كتابته بالمرة، وكما رأينا لم يكتف احمد خلف بكشف اصداء احداث النهاية المأساوية لأسرة التاجر التي مزقها الاب بطيشه وطغيانه، بل رحنا نتابع شخصيات وعوالم عدة، تضافرت جميعها لتنفتح على مجرى عريض معيداً بذلك تشكيل الحياة وايقاعها بأدوات الفن، وجعلها مادة حية خصبة امتزج فيها الخيال امتزاجا تاماً عبر منحنيات السرد، وبأسلوب مرن، أخاذ، من خلال نمو وتصاعد المواقف الدرامية وتقلبات الاحداث، وتفجير الصراع، في بناء روائي حافل بالهيمنة الفنية المبدعة التي مست كل الجزئيات والتفاصيل لتنصهر وتنصب في الوحدة البنائية، او في وعاء الحبكة الكلية التي تنتظم وترسخ النسيج الروائي، بأسلوب السرد الذي امتزج فيه جمال الشعر والتصوير الخلاق، الذي أكد تمكن الروائي احمد خلف من ادواته، وقدرته ككاتب يعي عمله تماماً، ويدرك اسرار فنه، عبر خبرته وتمرسه الطويل في الكتابة السردية.

Facebook
Twitter