عالية محمد حسن
ان الدولة هيئة سياسية يعرفها علماء الحقوق والاجتماع بقولهم جماعة من البشر ، يعيشون على ارض معينة مشتركة ، مؤلفين هيئة سياسية مستقلة ذات سياسة .
وبمجمل هذه التعريف يتبين لنا مفهوم الوطن من جهة ومفهوم الامة من جهة اخرى ، فيكون بذلك بمثابة خط واصل بين هذين المفهومين ، ولكن هذه الارتباط لايكون على نمط واحد في كل الدول والامم وفي جميع ادوار التاريخ . بل انه يلبس اشكالا ً متنوعة فيختلف بين امة وامة ، وبين دور ودور.
اما الوطنية والقومية فهي من اهم النزعات الاجتماعية التي تربط الفرد البشري بالجماعات وتجعله يحبها ويفتخر بها ويعمل من اجلها ويضحي في سبيلها . ومن المعلوم ان الوطنية هي حب الوطن ، والشعور بارتبط باطنين نحوه ، والقومية حب الامة ، والشعور بأرتباط باطني نحوها.
ان الوطنية هي ارتباط الفرد بقطعة من الارض تعرف بأسم الوطن ، والقومية هي ارتباط الفرد بجماعة من البشر تعرف بسن الامة .
كما ان مفهوم الوطنية لايختلف في الحقيقة عن مفهوم القومية كل هذه الاختلاف ذلك لان حب الوطن يتضمن بطبيعته حب المواطنين الذين ينتمون الى ذلك الوطن ، كما ان حب الامة يتضمن – في الوقت نفسه –حب الارض التي تعيش عليها تلك الامة . ولهذه السبب يتقارب من مفهوم القومية تقاربا ً كبيرا ً . فالدولة هيئة سياسية يعرفها علماء الحقوق والاجتماع بقولهم ((جماعة من البشر يعيشون على ارض معينة مشتركة مؤلفين هيئة سياسية مستقلة ذات سيادة )). ان النزعة القومية في مثل هذه الحالات تولد فكرة (( وطن معنوي مثالي )) اوسع واعظم واعلى من الاوطان الراهنة المذكورة ، فتصبو النفوس الى تحقيق هذا((الوطن المرقوب والمرغوب )) وتندفع وراء اخراجه من عالم الفكر والتمني الى عالم الحقيقة والواقع . ومن البديهي ان القومية – في هذه الحالة لاتنطبق على الوطنية تمام الانطباق ، بل تختلف عنها اختلافا ً بينا ً ، لأنها تتطلب تقديم مصالح الامة العامة على مصالح الاوطان الخاصة . وتثير مطالب الوطن المرقوب الى جانب مطالب الاوطان الراهنة .
ان الوطنية والقومية من النزعات الاجتماعية ، ويجب ان نلاحظ فوق ذلك ، ان كل واحدة منهما – مثل سائر النزعات النفسية – وتولد بعض العواطف وتؤدي الى بعض الافعال : انها تولد في نفوس الافراد بعض العواطف وتحملهم على القيام ببعض العمال . ان الانسان يحب امته تحت تأثير النزعة القومية ويشعر نحوها بأرتباط قلبي شديد ويعتبر نفسه جزءا ً منها ، فيفرح لكل ما يزيد مجدها ، ويتالم من كل مايقلل قوتها ، انه يصبو الى رؤيتها قوية وناهضة ويفتخر بامجادها ، ويتألم لمصائبها ، وينزع الى عمل كل مايستطيع عمله للدفاع عن كيانها وعن كرامتها . كما ان الانسان يحب وطنه ، تحت تأثير النزعة الوطنية ، فيشعر نحوه بتعلق قلبي عميق ، فيفرح لسعادته ويفجع عند نكبته ، ويسعى لخدمته . حتى لايتأخر عن التضحية في سبيل اذا اقتضى الحال .
واما اذا بحثنا عن منشئ هاتين النزعتين فنستطيع ان نرجعهما من حيث الاساس الى حب الموطن وحب الاهل . ونستطيع ان نقول ان منبع الوطنية وبذرتها الاولى حب الموطن واما منبع القومية وبذرتها الاصلية ، فحب الاهل
ذلك لان الانسان يشعر بتعلق عاطفي وارتباط قلبي بالمحل الذي ولد ونشئ وترعرع فيه، كما يشعر بتعلق باطني نحو اهل ذلك المحل ونحو جميع الناس الذين عايشهم وعاشرهم والفهم في صغره وصباه . ونستطيع ان نقول ان الانسان يرتبط بموطنه وباهله بروابط معنوية كثيرة ومتنوعة . فأن كل جزء من اجزاء حياته ، يتعلق بزاوية من زوايا بيته وبلدته فكل زاوية من زوايا ذلك البيت وكل قسم من اقسام تلك البلدة يقوم مقام تذكاري مادي يثير في نفسه ذكريات صفحة من صفحات حياته الماضية ، او ذكريات منقبة من مناقب النفوس العزيزة عليه وبما ان تعلق المرء ببلدته وبأهله يكون ذا جذور عميقة في اغوار نفسه ، فاننا نجد ان هذه التعلق يكتسب احيانا ً شكلا ً مرضيا ً ، ويولد مرضا ً خاصا ً ، يعرف بأسم داء الصلة او مرض الغربة ان بعض الناس يصابون ببعض الداء حينما يفارقون اهليهم ويغتربون عن بلدتهم لأول مرة لأن اذهانهم ومخيلتهم تشتغل بذكرياتها بشدة غريبة ، فيشعرون نحوها بحسرة عصبية وحنين مرضي . وقد يستولي عليهم نوع من الوسواس فيخيل اليهم انهم سائرون نحو الموت بعيدين عن بلدتهم واهليهم .وتحت تأثير هذه الحنين المرضي يفقدون شهية الطعام ، ويصابون بأرق شديد ، ولا يشفون من هذه الاختلالات النفسية والعصبية الاحينما يعودون الى بلدتهم ويصلون ارحامهم ويلاقون اهليهم واصحابهم .
فكل فرد من افراد البشر ينتسب عادة الى عدة جماعات في وقت واحد . وذلك لأن كل نوع من انواع الروابط الاجتماعية ، يؤلف جماعة من نوع خاص ، ويدخل الفرد في تلك الجماعة . وكل مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية من الاسرة والمهنة واللغة ، الى الميول الفنية والاعتقادات الدينية والاتجاهات المذهبية يولد رابطة خاصة ، تربط الافراد بعضهم ببعض وتكون منهم جماعات ومجتمعات متنوعة بعضها متلائم وبعضها متنافر ، بعضها تابع وبعضها متبوع .
وكل فرد من الافراد ، يرتبط بجماعات من ابناء نوعه بعدة انواع من هذه الروابط المعنوية ، فينتسب الى عدة انواع من هذه الجماعات والمجتمعات . وهذه الروابط المتنوعة تتجاذب مشاعر الفرد وميوله ، وتجعله يسير وكأنه مدفوع بدوافع عديدة ومجذوب بجواذب متنوعة .
غير ان قوة كل من انواع هذه الروابط وقيمتها ، تختلف بين فرد وفرد ، كما تختلف بين حال وحال، وبين عهد وعهد ولكنا اذا لاحظنا انواع الروابط التي تكون الجماعات السياسية على وجه اخص ، نجد ان اقواها وافعلها ، هي نزعة القومية المتولدة من وحدة اللغة والتاريخ … وهي التي تتغلب على كل ماسواها.