صاحب الامتياز
رئيس التحرير
عبدالرضا الحميد

وزير في عهد البكر وصدام يكشف اسرار ( مؤامرة ناظم كزار) صدام زج عبدالخالق السامرائي في المؤامرة ليتخلص من نديته

* في منتصف عام 1973 ومع اتساع عمليات التصفيات الحزبية والعسكرية والحكومية، تمهيدا لسيطرة صدام حسين الفردية على مقاليد الحكم في العراق، اعلن وبشكل مفاجئ عن قيام ناظم كزار، مدير الأمن العام، بمؤامرة اطيح خلالها برؤوس كثيرة. في الحلقة السابعة من كتابه «مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام» يتحدث جواد هاشم، وزير التخطيط العراقي الاسبق، عن تفاصيل هذه «المؤامرة». وبعد اقل من شهر من كشف خطط كزار تعرض الدكتور هاشم لعملية اختطاف من قبل اسرائيل، تلك العملية الشهيرة التي تصدرت وقتذاك وسائل الاعلام العربية من غير ان يكون الوزير العراقي هو المقصود فيها حسبما يرويها الوزير المختطف نفسه.

يقول الدكتور هاشم:

كانت الساعة تقارب الرابعة من بعد ظهر يوم السبت 30 حزيران (يونيو) 1973، عندما رن جرس الهاتف الحكومي في منزلي. كان على الطرف الآخر من الخط مدير التشريفات في وزارة الخارجية، يخبرني بأن رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر سيصل إلى بغداد تمام الخامسة عصراً، ويُرجى حضوري إلى المطار لاستقباله.

كان البكر يومئذ في زيارة رسمية إلى بولونيا وبلغاريا.

وصلت الى صالة الشرف في مطار بغداد الدولي، عند الرابعة والدقيقة الخامسة والأربعين، حيث كان في انتظار وصول البكر عدد كبير من الوزراء والسفراء المعتمدين في بغداد، وبعض أعضاء القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة، ومن بينهم عبد الخالق السامرائي ومحمد فاضل. بعد حوالي ساعة من الانتظار، عاد مدير التشريفات ليخبرنا بأن طائرة الرئيس قد تأخرت، ومن المحتمل وصولها عند الساعة الثامنة مساءً، لذلك يمكننا العودة إلى منازلنا إلى حين اقتراب الموعد الجديد للوصول.

وصادف اليوم أيضاً، أن جامعة بغداد كانت قد أعدَّت الحفل السنوي لتخريج دفعة من طلبة الجامعة.

ونظراً إلى تأخر وصول طائرة البكر، فقد انتقل تلفزيون بغداد إلى ساحة الكشافة ليبث مراسم حفلة التخرج بعد أن كان ينقل مراسم استقبال البكر.

عند السابعة والربع مساء اليوم نفسه، عدت إلى المطار لأكون بين مستقبلي رئيس الجمهورية، وبدأ الوزراء وأعضاء القيادة بالوصول ومن ضمنهم صدام حسين.

لم يحضر السفراء العرب والأجانب، لأنه طبقاً للأعراف الدبلوماسية، لا يوجد استقبال رسمي بعد غروب الشمس.

وصلت الطائرة عند السابعة والدقيقة الخمسين. تعانق عند سلم الطائرة البكر وصدام، وتوجها بعدئذ إلى حيث ينتظر أعضاء القيادة والوزراء، وسلم البكر عليهم فرداً فرداً، ثم توجه مع صدام إلى سيارتهما التي كانت تنتظر على مدرج المطار، حيث استقلها مع صدام وغادرا المطار معاً.

غادرنا جميعاً المطار. بدا كل شيء طبيعياً واعتيادياً.

وقد علمت في حينه أن تأخر طائرة البكر كان بسبب استمرار المباحثات بين البكر والرئيس البولوني، كما حدث تأخير آخر في مصيف فارنا البلغاري، حيث توقفت طائرة البكر للتزود بالوقود، ولأن الحكومة البلغارية نظمت للبكر عند وصوله الى المصيف استقبالاً رسمياً حضره نيابة عن الرئيس البلغاري جيفكوف، نائب رئيس وزراء بلغاريا تسولوف. ويبدو أن تسولوف أصر على أن يزور البكر المصيف والتجول في المدينة، ثم حضور حفل استقبال قصير في الفندق الرئيسي في تلك المدينة.

توجهت، بعد انتهاء مراسم الاستقبال ومغادرتي المطار، إلى وزارة التخطيط حيث كان لدي اجتماع مع وزراء المالية، والاقتصاد، والبلديات، وشؤون الشمال، وعضو القيادة القطرية غانم عبد الجليل لبحث أمور تتعلق بالتخصيصات المالية للمنطقة الشمالية.

بدأ الاجتماع حوالي الساعة الثامنة والنصف تقريباً. ولم تمضِ إلا ساعة حتى دخل علينا السكرتير ليخبر غانم عبد الجليل بأنه مطلوب على الهاتف الحكومي، فذهب غانم إلى غرفتي المجاورة لقاعة الاجتماعات ليتلقّى المكالمة الهاتفية.

بعد دقائق عاد غانم وعلى وجهه شيء من الارتباك، وقال:

ـ يبدو أن هناك مؤامرة. القيادة مجتمعة في القصر الجمهوري، ولا بد لي من التوجه إلى القصر الآن.

ترك غانم وزارة التخطيط واستمر اجتماعنا نحن الوزراء حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً.

بعدما غادر الوزراء مبنى الوزارة، بقيت والسكرتير فترة من الزمن لإنهاء بعض المعاملات الرسمية. وعند حوالي الثانية عشرة عند منتصف الليل، تركت مكتبي واتجهت نحو الباب الخارجي للوزارة، وهو باب زجاجي.

وجدت الباب موصداً، بينما انتشرت في الخارج عناصر من شرطة النجدة وبعض المدنيين من الحزب حاملين رشاشاتهم.

كان المقر العام للاتصالات السلكية التابع لشرطة النجدة في أعلى طابق في مبنى وزارة التخطيط، وكنت في عام 1970 قد وافقت على قيام شرطة النجدة بإشغال ذلك الطابق المتميز بارتفاعه الشاهق الذي سهّل نصب ساريات الاتصال اللاسلكي.

تقدم أحد ضباط الشرطة وفتح الباب. ولما خرجت وجدت أمامي معاون مدير الاستخبارات العسكرية خليل إبراهيم العزاوي حاملاً رشاشاً. استفسرت منه عن الموضوع وسبب هذا الوجود العسكري في الوزارة، فأخبرني بأن مؤامرة كبيرة دبرها ناظم كزار، مدير الأمن العام، وأن هذه الإجراءات إنما هي إجراءات احترازية لمنع سيطرة «المتآمرين» على أجهزة اللاسلكي الموجودة في أعلى البناية.

ظلّت الأمور في اليومين التاليين طبيعية في بغداد: مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية في اجتماعات مستمرة في القصر الجمهوري. وفي مساء اليوم الثاني من تموز (يوليو) 1973، أعلن راديو بغداد أن مجلس قيادة الثورة قرر تشكيل هيئة تحقيق خاصة ومحكمة خاصة للتحقيق مع ناظم كزار وجماعته. ويُلاحَظ من تشكيل هذه المحكمة، أنه إضافة إلى رئيسها عزت الدوري الذي هو عضو في القيادة القطرية للحزب، وفي مجلس قيادة الثورة، فإن عضوي المحكمة الآخرين وهما طاهر أحمد أمين وخليل العزاوي، كانا من عناصر جهاز المخابرات، حيث كان الأول معاوناً لرئيس المخابرات آنذاك، بينما كان الثاني معاوناً لمدير الاستخبارات العسكرية.

كانت الشائعات قد ملأت بغداد من دون أن يصدر بيان رسمي يوضح حقيقة الأمر، سوى القول إن كزار ومجموعة من منتسبي مديرية الأمن العامة، حاولوا القيام بمؤامرة استهدفت اغتيال أحمد حسن البكر وصدام حسين، وإن المتآمرين قد هربوا باتجاه إيران بعد أن نجحوا في قتل وزير الدفاع الفريق حماد شهاب التكريتي الذي شُيعت جنازته رسمياً يوم 3 تموز (يوليو) 1973 ودُفنت في تكريت، وشارك في التشييع شفيق الدراجي أمين السر لمجلس قيادة الثورة ممثلاً رئيس الجمهورية وصدام حسين نائب رئيس المجلس وجميع أعضاء القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة، ومن ضمنهم عبد الخالق السامرائي ومحمد فاضل اللذان اتُّهما من ثمَّ باشتراكهما في المؤامرة. نشرت الصحف العراقية على صفحاتها الأولى، بعد أقل من أسبوع، خبراً مفاده أن المحكمة الخاصة قد عقدت أول جلسة لها في 7 تموز (يوليو) 1973 وأصدرت أحكامها القاضية بإعدام «الوجبة الأولى» من «المتآمرين» البالغ عددهم 33 شخصاً، وعلى رأسهم مدير الأمن العام ناظم كزار وضابطان ملازمان و7 مفوضي أمن و6 عرفاء ونواب عرفاء و7 أمناء، وأن تلك الأحكام قد نُفذت يوم صدور الأحكام «باسم الشعب ونزولا عند رغبته وتأكيداً لرسوخ الثورة ومتانة صفوفها والتفاف الجماهير الواسعة حولها».

وفي يوم 8 تموز (يوليو) 1973 عقدت المحكمة الخاصة جلستها الثانية لمحاكمة «الوجبة الثانية» وأصدرت أحكام الإعدام بحق 14 شخصاً آخرين من ضمنهم عبد الخالق السامرائي ومحمد فاضل عضوا القيادة القطرية، وقد نُفذت تلك الأحكام يوم صدورها باستثناء السامرائي، حيث استبدل حكمه بالأشغال الشاقة المؤبدة بعد شفاعات بذلها أعضاء القيادة القومية الذين توافدوا إلى بغداد قبل يوم واحد فقط، وعلى رأسهم الدكتور زيد حيدر والدكتور عبد المجيد الرافعي والدكتور عبد الوهاب الكيالي والدكتور الياس فرح ونيقولا الفرزلي.

وقد أخبرني الدكتور عبد الوهاب الكيالي بعد شهور من تلك الأحداث، أن القيادة القومية كانت على يقين من أن السامرائي لم تكن له أية صلة بحركة كزار، وان اتهامه قد يكون نابعاً من بعض الحساسيات تجاهه، خاصة أنه كان على خلاف مستمر ودائم مع البكر وصدام. وفي يوم 9 تموز (يوليو) أدلى ناطق رسمي بتصريح لوكالة الأنباء العراقية حول حركة ناظم كزار، ومما ورد فيه: أن كزار قام في 30 حزيران (يونيو) بدعوة الفريق حامد شهاب وزير الدفاع والفريق سعدون غيدان وزير الداخلية، لزيارة أحد المراكز ذات الصلة باختصاص الوزيرين، والذي كان كزار يتولى مسؤولية الإشراف عليه، كما قام باستدراج مسؤولين آخرين إلى الموقع نفسه، ومن بينهم منذر المطلك زوج ابنة أحمد حسن البكر وسكرتيره الخاص.

وقال الناطق الرسمي: إن الوزيرين قد لبيا الدعوة نظراً إلى الموقع الوظيفي الذين كان يشغله كزار، إضافة إلى مرتبته الحزبية الأعلى من الوزيرين. وبعد وصول أولئك إلى مكان الدعوة اعتقلهم، وقبيل الساعة السادسة، اجتمع كزار ومحمد فاضل عضو القيادة القطرية في مقر الهيئة التحقيقية الثانية، وغادر بعدها إلى المكان الذي احتجز فيه الوزيرين وبقية المدعوين. أما محمد فاضل، فقد توجه إلى المطار ليكون في استقبال البكر حيث التقى بعبد الخالق السامرائي ليخبره بمؤامرة ناظم كزار.

في المطار، كان ناظم قد هيأ، على حد قول الناطق الرسمي، مجموعة مهمتها اغتيال البكر وصدام وجميع الوزراء والسفراء، وذلك بواسطة الرشاشات والقنابل اليدوية، على أن يعلن كزار، بعد نجاح عمليته، من إذاعة بغداد، خبر مقتل البكر وصدام، متهماً وزيري الدفاع والداخلية بذلك، وأنه، أي كزار، قد قضى على المؤامرة واعتقل الوزيرين، وأن القيادة أو «ما تبقَّى» منها، قد اختارت السامرائي ليقود مسيرة الحزب والثورة.

ووفقاً لرواية الناطق الرسمي، فإن كزار كان يراقب ما يحدث في المطار، من خلال شاشة التلفزيون، غير أن تأخر طائرة البكر وانتقال التلفزيون إلى موقع تخرج طلبة الجامعة، قد «أفزعا» المتآمرين فولّوا الأدبار. ونتيجة لذلك، فقد أصاب الذعر والهلع كزار، فحاول الفرار مع مجموعته باتجاه الحدود الإيرانية عن طريق منفذ زرباطية، غير أن أجهزة الحزب والثورة ألقت القبض عليه بعد أن تمكن من قتل وزير الدفاع وإصابة وزير الداخلية في يده. وبالرغم من هذه التوضيحات الرسمية، إلا أن الشائعات قد نحت منحىً آخر. فثمة من يقول إن العملية كلها كانت من تدبير صدام حسين للقضاء على البكر وأعضاء مجلس قيادة الثورة من العسكريين، ومن ثم تصفية عبد الخالق السامرائي، للانفراد بالحكم. لكن كثيرين لم يقتنعوا بمثل هذا القول، وإن كان الاعتقاد يتجه إلى أن حركة كزار هي مؤامرة فعلية للقضاء على البكر وصدام، بعدما بات متأكداً من أنهما يسعيان إلى تقليص دور الحزب عقائدياً، والتركيز على الحكم الفردي المطلق.

وعلى الرغم من مصداقية هذا الاعتقاد، إلا أن كزار نفسه لم يكن يمثل البديل المناسب، نظراً إلى سجله الشخصي المعروف بالعنف والدموية والتسلط المطلق في قضايا التحقيق والاعتقال.

وكان طبيعياً بعدما فشلت محاولة الانقلاب، أن يُتَّهم مدبرها ناظم كزار الذي يسود الاعتقاد أنه من أبناء الطائفة الشيعية، وأنه كان يسعى إلى إقامة حكم شيعي في العراق، وقد سمعت هذا الكلام شخصياً من سعدون غيدان، عندما زرته في مسكنه للتهنئة بسلامته، وقال لي بالحرف الواحد: «ألف مرة قلت للرفيق البكر والرفيق صدام، أن يحترسا من هذا «العجمي» مدير الأمن العام». وقد أثنت زوجته على هذا القول، وأضافت: «زوجي لا يتآمر على البكر وصدام، هذا العجمي هو المتآمر».

لم أكن أعلم حتى ذلك اليوم حقيقة مذهب كزار أو ديانته، كما لم أجد في اسمه ما يدل على أنه «عجمي» بحسب تعبير سعدون غيدان. وفي تصوري، أن غيدان كان يضمر البغض لكزار منذ اليوم الأول لثورة تموز (يوليو) 1968، لأن مرتبته الحزبية، وهي عضو قيادة فرع، كانت أعلى من مرتبة النصير التي كان عليها غيدان، كما أن رتبة كزار العسكرية التي مُنحت له بعد الثورة، وهي لواء (جنرال)، أعلى من رتبة المقدم التي كانت لغيدان. تُضاف إلى ذلك الحساسية التي تنشأ وتنمو بين الوزير وموظفيه، عندما يكون الوزير في درجة حزبية أدنى من درجة مساعديه. وفي تصوري أيضاً، أن اتهام غيدان لكزار بأنه «عجمي» إنما ينبع أصلاً من الأجواء الطائفية التي ترعرع فيها الكثيرون، والتي تعتبر أن كل شيعي هو «عجمي»، حتى وإن كان ذلك الشيعي من أحفاد عدنان وقحطان وخالد بن الوليد.

لقد أطاحت دائرة الصراع الدموي على السلطة برؤوس رجال في أعلى قمة الهرم الحزبي، كما ذهبت بنقابيين وعسكريين إلى أبشع مصير. ولم يكن إعدام كزار ومجوعة كبيرة من المحسوبين عليه، عام 1973، وتصفية ذلك العدد الكبير من أعضاء القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة وقيادة فرع بغداد في عام 1979، إلا حلقة من حلقات هذا الصراع الذي استمر فصولاً طوال حكم نظام حزب البعث.

Facebook
Twitter