واشنطن تمارس عملية ابتزاز حقيرة ضد بغداد وتركيا ظهير داعش

يُلقي كاتب مصري، هو مصطفى السعيد، بأفكاره في سلاسة، وهو يسرد سيرة تنظيم داعش الإرهابي، والظروف الزمنية والمكانية، التي جعلته يتمدد. وفي الحقيقة، ان الكاتب أصاب كثيرا في الاستنتاج بعدما علّل الأسباب وحلّل النتائج، وعلى رغم اختلاف وجهات النظر.

يقول السعيد:.

صعد نجم داعش، مع الانتهاء من تجهيز خلطتها السحرية شديدة التوحش، من سلفيين تحولوا من السكون إلى “الجهاد”، ومقاتلين جرى تسريحهم من الجيش العراقي ومخابراته الشرسة، وقوات من المهاجرين المحمولة جوا، بمساعدة مخابرات عربية وأجنبية، لتندفع كالسيل الجارف من مراكز تجمعها في شرق سوريا، لتسيطر في لمح البصر على أكثر من ثلث العراق، وتصبح على أبواب بغداد في أقل من أسبوع.

 لم تكن هذه الانتصارات السريعة لداعش أن تتحقق بدون دعم ضخم، يشمل الحصول على عمليات استطلاع جوية لتجمعات وتحركات الجيش العراقي، وتوفير كميات ضخمة من الذخيرة والطعام والوقود الكافية لتحرك عشرات آلاف المقاتلين لمسافة مئات الكيلو مترات يوميا.

نفذت قوات داعش أسلوب “الصدمة والرعب” الأمريكي، مع إضافة لمسات أكثر وحشية، فأعدمت مئات طلاب الكلية الحربية، وذبحت مئات الجنود والضباط، وخربت وأحرقت وهي في طريقها إلى بغداد. كانت عمليات رشوة واسعة قد شملت قادة عسكريين، ليأمروا بتسريح جنودهم قبل هجوم داعش، وزعماء عشائر سهلوا التوغل، ما منح الغزاة زخما قويا، وانتصارات سهلة، زاد من وهجها التحالف مع “جيش النقشبندية”، الذي كان قد شكله عزت الدوري نائب صدام حسين.

هكذا اكتملت عناصر قوة كبيرة لتنظيم أصبح لديه جيش بكامل عتاده، بعد أن استولى على معسكرات الجيش العراقي في محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين، وديالى، وتبلغ مساحة محافظة الأنبار وحدها نحو ربع مساحة العراق، وتتماس معها من الجنوب كل من بغداد والنجف وكربلاء.

ويبدو أن الخطة الأصلية كانت استكمال الزحف بدخول بغداد، وارتكاب مذابح مروعة، أو دخول محافظتي النجف وكربلاء، لإشعال فتنة، بما يجبر إيران على التدخل، تحت ضغط حماية العتبات المقدسة، وهو ما من شأنه تحويل الصراع إلى حرب تحرير ذات بعد مذهبي، من الوهلة الأولى، وتنجر إيران إلى احتلال أجزاء من العراق، فتسقط في أوحاله.

لكن القوات العراقية سرعان ما أقامت سدا أوقف اندفاع سيول داعش الجارفة، التي كان قد أنهكها السير الطويل، وتباطأت حركتها مع ابتعاد قواتها عن مراكز الإمداد والتموين، خاصة أنها لم تتمكن بعد من هضم المساحات الضخمة التي ابتلعتها دفعة واحدة.

هكذا تحولت أحلام أسامة بن لادن والظواهري وأبو مصعب الزرقاوي إلى واقع بإقامة نواة دولة الخلافة في قلب العالم الإسلامي، وتحظى بدعم معلن أو خفي من عدة دول عربية وأوروبية، إلى جانب أمريكا، لكن ظلت تركيا هي الظهير الأكثر أهمية، ومنها تأتي معظم الإمدادات. عندما وجد مقاتلو داعش أن أبواب بغداد موصدة، وأن التوغل جنوبا شديد التكلفة، وجهوا حرابهم إلى المناطق الكردية الغنية والقريبة من معاقلهم، وسال لعابهم على الأقليات الضعيفة مثل الأزيديين والمسيحيين، فهاجموهم وانتزعوا أطفالهم، وأخذوا النساء سبايا، وذبحوا الرجال، وهدموا بيوتهم ومعابدهم، واستولوا على أموالهم، وهنا ظهر أن الوحش الداعشي خرج عن السيطرة، ولم يعد يلتزم بالمخططات الموضوعة.

قررت أمريكا تعديلا سريعا في مخططها، يبقي على داعش لفترة محدودة، لابتزاز حكومة المالكي، الذي كان قد راوغ وماطل في توقيع اتفاقيات أمنية واقتصادية مع أمريكا قبل موعد انسحاب قواتها، لكن الفرصة سنحت للانتقام من حكومة المالكي، خاصة مع تفكك جبهة المالكي المتصلب، وأعادت أمريكا طرح منحها قواعد عسكرية وصلاحية تشكيل جيش من السنة، مستعيدة خبرتها في تشكيل “الصحوات”، وأن تحصل على “وديعتها” من المالكي.

شكلت أمريكا تحالفا دوليا هشا، تحت عنوان محاربة داعش كان بمثابة عودة جديدة إلى العراق، تواصل فيه مخططا عجزت عن استكماله قبل الخروج المخزي، لكنها قررت قصر جهودها على الضربات الجوية، وعدم تكرار تجربة التدخل البري الفاشلة، والتي دفعت ثمنها غاليا، واشترطت تشكيل جيش من السنة، تحت مسمى “الحرس الوطني”، يكون نواة لدولة سنية بديلة عن الدولة الداعشية، برعاية تركيا وقطر والسعودية ليجري تنفيذ مشروع خطوط نقل الغاز والبترول من الخليج إلى تركيا عبر الدولة السنية، لتزويد أوروبا باحتياجاتها، بدلا من الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، إلى جانب قيام هذه الدولة بعزل إيران عن سوريا وحزب الله، والإطباق عليهما. هكذا تقرر الاستغناء عن دور داعش بسرعة، خاصة مع سرعة تشكيل العراق لفرق “الحشد الشعبي” من المتطوعين، معظمهم من الشيعة.

وجاءت القمة الأمريكية الخليجية في كامب ديفيد لتؤكد أن الجميع في سبيلهم للتخلي عن دولة داعش سيئة السمعة، ولن يطول الوقت حتى يكون التاريخ قد طوى صفحتها، لكن ستظل بصماتها السوداء عصية عن الزوال، فأفكارها مازالت تنتشر بسرعة بين مسلمين وجهوا عقولهم شطر الماضي، وتخرج من معسكراتها عشرات آلاف الوحوش الآدمية العطشى للدماء، الذين سيجدون من يستغل طاقتهم التدميرية في مناطق أخرى.

Facebook
Twitter