هل انتهى الجواهري شعرياً منذ الخمسينات وفق العزاوي؟

/* Style Definitions */
table.MsoNormalTable
{mso-style-name:”Table Normal”;
mso-tstyle-rowband-size:0;
mso-tstyle-colband-size:0;
mso-style-noshow:yes;
mso-style-priority:99;
mso-style-parent:””;
mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt;
mso-para-margin:0cm;
mso-para-margin-bottom:.0001pt;
mso-pagination:widow-orphan;
font-size:10.0pt;
font-family:”Calibri”,”sans-serif”;
mso-bidi-font-family:Arial;}

الشاعر الحداثي يترك المتنبي علي أرصفة الطريق

 

حسين سرمك حسن

 

في مقالة نشرتها مجلة (ألف باء) للشاعر(فاضل العزاوي)، بدأها بالقول إنّ هناك فارقاً كبيرا بين دلالة المرحلة شعرياً ودلالاتها سياسياً واجتماعيا واقتصادياً، فقصائد بعض أبرز الشعراء العموديين الحاليين تمتد زمناً الي العشرينات. والجواهري في رأيه أحد الثوريين المرتبطين بالشعب ولكن أفكاره ظلت مكتفة بنفس الأفكار البدائية السائدة داخل المجتمع حول الثورة والعالم والإنسان). ما يهمنا هنا، بصورة أساسية، هو إدراك عظم الدور الذي لعبه الجواهري وشخصيته الشعريّة وبصماته التجديدية في إنضاج حركة الشعر الحديث في العراق والوطن العربي. ولم يكن هذا الدور والتأثير مقتصرا علي جيل الروّاد في هذه الحركة وبشكل خاص نازك والسيّاب والبياتي بل امتد الي جيل الستينيات_الشباب آنذاك – الذين يمكن القول أنهم عاشوا محنة صراع (أوديبي) – ثورة علي سلطة الأب، والرغبة في قتله – ممثلة في الجواهري من جهة وروّاد الشعر الحر من جهة أخري. إنّها حلبة صراع الآباء والأبناء، وهي من مسلّمات الحياة الإنسانية بل من ضرورات ديمومتها وشروط تطوّرها… ولكن تثور واحدة من معضلات هذا الصراع الخطيرة عندما يستعجل الابن (قتل) الأب ويحكم عليه بالنهاية والموت قبل أن تتوفر الشروط الموضوعية لذلك، أي قبل أن تنضب طاقات الأب وتتدهور إمكاناته الفعلية من ناحية وقبل أن يشتد عضد الابن وينضج ساعده وخبراته من ناحية أخري. فهل يأتي إعلان الشاعر(فاضل العزاوي) المبكّر عن (نهاية) الجواهري ضمن هذا الإطار النفسي ؟

لحسن الحظ يتوفر بين أيدينا نصّان مهمّان للجواهري وللشاعر فاضل العزاوي يعالجان فيه موضوعاً واحداً هو: (المتنبي)… وسأقدم هنا نص العزاوي كاملاً مع نماذج من نص

الجواهري لأنه طويل حيث تقع قصيدته في(85) بيتاً.

أ‌-       نص فاضل العزاوي:-

عنوان النص هو(بحكم العادة) وهو قصيدة نثر يقول فيها:

(في مصعد بناية (أوروبا سنتر) في برلين

وأنا ذاهب الي طبيب أسنان يوناني شهير يقيم في الطابق الخامس عشر

ليقلع لي آخر أضراسي

تشبث بأذيالي أعرابي

كان قد ترك حصانه في الممّر

يرعي الأعشاب الاصطناعية

وراح يصرخ بصوت عالي

أنا المتنبي..

أنجدني..

كان المسكين يتضوّر جوعاً

بعد أن أنفق نقوده كلها

علي اللواتي يقفن مساءاً

متراصات علي أرصفة الكودام

أمام أعمدة الإعلانات

فاقترحت عليه أن أدله علي مستشرق

كان يحفظ أشعاره عن ظهر قلب

ليقرضه بعض المال

غير إنّه رفض

طالباً أن أقوده الي ملك الألمان نفسه

ليمدحه بقصيدة، كما كان يفعل دائماً

في كل بلاد غريبة يحل فيها

وهكذا قدته

مشياً علي الأقدام

الى متحف ألماني ممليء بالملوك

فتركته هناك

ناجياً بجلدي ..)

والنص منشور في مجلة: (المدى) العدد (2) بتاريخ1/1/1993، أي إنّه من نتاج الشاعر في التسعينيات، أي بعد أكثر من عشرين عاما من إعلانه الذي أشرنا إليه في البداية والذي أعلن فيه تخلّف الجواهري عن هموم مرحلته المعاصرة آنذاك بل موته الشعري الصارخ في الخمسينات، وبعيداً عن(المحسنات) النقدية التي حاول الدكتور(عبد الله الغذامي) إضفاءها علي هذا النص في كتابه(المشاكلة والاختلاف)(71).فإنّ الأمر الحاسم الذي يجب علينا البت فيه قبل كل تحليل نقدي هو:

أين(الشعر) في هذا النص ؟.

والإجابة المنصفة من أي ناقد موضوعي لا يتلاعب بالألفاظ والمصطلحات هو إنّ هذا النص عبارة عن حكاية، قصة قصيرة لا يفيدها ولا ينقذها أي جهد في محاولة (رصفها) عمودياً وفق بناء أبيات القصيدة. يمكنك أن تقرأها وبسرعة فائقة كرسالة أو حكاية قصيرة. ولتوكيد رأينا ننقل هنا رأي الناقد الكبير (فوزي كريم) في قصيدة نشرها فاضل العزاوي في مجلة (اللحظة الشعرية) العدد (2) – 1973 – أي في نفس العام الذي نشر فيه قصيدة (بحكم العادة). يقول(فوزي كريم):

( أود أن نخلص أنا والقارئ الي قراءة عينة من شعر فاضل الجديد الذي ينتسب الي الحداثة.. هذه قصيدة (الحفلة) – وبعد أن يثبت الناقد القصيدة كاملة:

(إن احتفاء الشاعر بالبيت الشعري هنا، يبدو أمراً محيراً. ولم يرد هكذا عفواً دون قصديّة.. لِمَ لم يكتب نصّه علي هذه الهيئة:

(أفكر في أن أقيم حفلة يحضرها الذين نحبهم فقط أما أولئك الذين يكتبون قصائدهم بحكم العادة، فسوف ندعهم يمارسون عادتهم أمام الناس أو بعضهم على الأقل ) ؟.

لاشك إن هذا النص، لن يصبح قصيدة (شعر حر)بالهيئة التي كتبها فاضل بها لأنه يخلو تماماً من أي نوع من أنواع الإيقاع، خارجيا كان أو داخلياً، وهو بهيئته الجديدة، التي اقترحها لن يكون(قصيدة نثر) أيضاً بسبب عدم توفر أهم مواصفاتها وهي الكثافة، والقافية الداخلية، وتناغم الأصوات، الصورة المدهشة..الخ. هذا إذا ما اعتمدنا قاموس المصطلح الأدبي: أمّا إذا اعتمدنا توصيفات فاضل الملتبسة، الخلو من الزوائد. دقّة اللغة ووضوحها، الصوت الطبيعي للنثر، وهج الوضوح، الغموض الكامن في الفكرة لا في اللغة، السريّة الداخلية للنص، الرؤية المفتوحة(لانهائية المعني)، كلية النص..الخ…
فسيصبح نصه الشعري ممكناً وغير ممكن في آن. شأنه شأن كل نص نثري مجتزأ. حتي من افتتاحية جريدة. إلاّ إذا كان مشهد النص ينطوي علي سرية داخلية، وكلية لا تلتقطها حاسة. وهو أمر لا أحسب أن أحداً لا يشاركني الشك في أمره، أو إذا كان وراء (أفكر أن أقيم حفلة يحضرها الذين نحبهم فقط) إيقاع داخلي بأي صورة من صورهِ..)(72).
ونص العزاوي هو تعبير عن(خصاء) الشاعر المعاصر، الحداثوي، المطحون في أوروبا، وكما يقول الدكتور (الغذامي) فإن العزاوي قد أسقط علي المتنبي كل سيئاته وصراعاته حيث (استعار) أنموذج المتنبي ليضعه خارج سياقه التاريخي والشخصي خدمة لدوافعه الشخصية. ولأننا لا نستطيع إلا أن نسم حالة العزاوي بـ(النكوص) الفكري والنفسي فسوف نري في نصّه -_ حكايته تطبيقاً لحداثه أوروبية سحق فيها الإنسان تحت أقدام وحش المدينة فصار يعاني من الضياع والاستلاب والغثيان وهي هموم غريبة أو معطلة، لأمّة تقاسمها اللئام فباتت تستنجد وتستغيث برموزها كي تأخذ منها المدد الروحي وقدرة الإرادة علي الصمود، وهذا ما فعله الجواهري.

ب‌-   قصيدة (الجواهري):

هي قصيدة(فتي الفتيان.. المتنبي) التي ألقى الجواهري قسماً منها في
الأمسية الشعرية التي أقيمت بمناسبة مهرجان المتنبي، مساء الاثنين 7/تشرين الثاني/1977. أي أنها من نتاج السبعينيات من عمر الجواهري الذي يفترض إن الأبناء قد(أنهوه) منذ نهاية الخمسينيات.وبسبب طول القصيدة سنقدم هنا مقاطع منها:

تحدّى الموت واختزل الزمانا فتى لوّى من الزمن العنانا

فتى خبط الدُنا والناس طرّا وآلى أن يكونهما فكانا

أراب الجنّ انس عبقريُ بوادي (عبقر) افترش الجنانا

تطوف الحور زدن بما تغنّي وهنّ الفاتنات به افتنانا

ونصبن الاله على سرير من الزهرات زين بها وزانا

دماً صاغ الحروف مجنحاتٍ رهافاً، مشرئبات، حِسانا

وطار بهنّ من شرقٍ وغربٍ كأن لهنّ في قصبٍ رهاناً

فويقَ الشمسِ كنّ له مداراً وتحتَ الشمسِ كنّ له مكانا

وآبَ كما اشتهي يشتطّ آنا فيعصفُ قاصفاً، وبرِقُّ آنا

وفي حاليه يسحرنا هواهُ فننسي عَبْرَ غمرتهِ هَوانا

فتيٍ دوّي مع الفلك المدوّي فقال كلاهما: إنّا كلانا

فيا ابن الرافدين ونعمَ فخرٍ بأنّ فتيً بني الدنيا فتانا

ويا ابنَ الكوفةِ الحمراء وشّي بها سِمْط اللآليء والجُمانا

وعاطي رملَها من أصغريهِ عيونَ الشعر تبرقُ والحنانا

وأبقي فوقها دمه ليسقي هناك بشعَب بوّانٍ حصانا

فقد كره الطعانَ وكان أدري بأنك-وهو- مذبوحٌ طعانا

وإنّا أمةٌ خُلِقتْ لتبقي وأنت دليلُ بقياها عيانا

إن أهم ما يستوقفك ويأخذ بتلابيب نفسك في قصيدة الجواهري من مطلعها حتي ختامها هو أنّها تطفح بالشعر، ولا يمكن (سردها) كحكاية مهما بذلت من جهد وعناء. وإذا كان الإسقاط (السلبي) واضحاً في نص العزاوي فأن (التماهي) الأيجابي بين الجواهري، وأبي الطيّب كان واضحا منح القصيدة تأججاً وأحتداماً. ورغم أنّ الجواهري يخاطب المتنبي الذي مات منذ قرون طويلة، يمدحه ويسمو به نحو الشمس، إلا أنّ القصيدة تلامس الوجدان العام، فهي قطعة عن الخلود والانتصار علي الموت، وهذا ديدن العراقي منذ أيام جلجامش، ودعوة إلي النبل والسمو والاعتزاز بالذات وتقديس الإبداع والخلق، دعوة إلي التمسك بقيم المروءة والرجولة، دعوة إلي الوحدة والصمود وقوة الإرادة، نداء حيّ ساخن للنهوض والانبعاث ونفض رماد الذلّ والاستعباد. التصاق بهموم الإنسان العربي. وأعود هنا إلي تساؤلات الناقد (فوزي كريم) في كتابه (ثياب الإمبراطور- الشعر ومرايا الحداثة الخادعة):(أما كان الأجدي والأبعد عن المماحكة حول الشكل الأنصراف إلي انطباعات- ولو انطباعات حول (المعاني الكامنة) في روح العصر؟ أما كان الأجدي للشاعر في (فاضل) أن يكشف لنا عن (الإنسان المستقبلي) فيه وكيف نري المستقبل ؛ هذا التيار الدموي من القتلي والخراب؟ كيف يتجلي الرعب في هذا الكائن العربي (المستقبلي)؟.. إنّ القارئ الأوروبي في لندن، نيويورك أو باريس قد يدهش قليلاً حين يُدعى لمطالعة قصيدة على هيئة صفحة بيضاء في مجموعة شعرية، أو يصغي لشاعر تبوأ نصاً شعرياً لمدة خمس دقائق محتواه: (قرررر..الخ) لقد قرأت وأصغيت لكثير من هذه التجارب في سنوات إقامتي في لندن ودهشت قليلاً كما دهش القارئ الغربي ولكننا استقبلناها عن رضا واستجابة لروح الدعابة فيها… ولك أن تتخيل أن هذه القصيدة البيضاء وهذا الصوت المقرقر يفرضان على قارئ عربي يسكن بغداد أو الأمارات أو البحرين أو الجزائر…)

أنا منحاز للشعر في أي صورة جاء: قصيدة اتباعية أو شعر تفعيلة. أو قصيدة نثر… لكن مع دخول قوات الغزو إلي بغداد الحبيبة.. حبيبة الجواهري.. لا أعرف لماذا قفز الجواهري وانتصب أمام عيني.. أنا أجزم أن (مكان) الجواهري فارغ علي المنصّة الشعرية وفي ساحة الوجدان الوطني… كان الحكام يخافون من الجواهري كشاعر وليس كمنتظم في أي حزب سياسي أو حركة ثورية فالجواهري لم ينتم إلي أي حزب سياسي طوال حياته كما يقول هو نفسه في مذكراته.. كان الطغاة يخشون قصيدة من الجواهري وكانت التظاهرات المحتجة تنتظم وتنطلق من القاعة التي يقرأ فيها الجواهري شعره.. هل هناك شاعر حديث يخاف منه رئيس الجمهورية أو ملك المملكة؟ يقول (فوزي كريم):(الغريب أنّ التمرن علي تصفية الحساب مع السلطة أو العدو عن طريق الأدب والشعر قد أصبح أكثر الملاهي المنتظرة التي تصطفيها السلطة أو العدو لتسليتها. فهي تنطوي أولاً علي اعتراف أعلامي ضمناً، ثم هي، ثانياً، لا تعيّن أو تحدد بشراً فلا تشكل تجريحاً. ثم هي، ثالثاً، تشكل، بسبب هوائيتها، متنفساً لبؤساء كثيرين يأخذون صياغاتها مأخذاً جدياً.. السلطة تعرف بحكم التجربة أنّ (النضال الثوري للشاعر) حفنة من الرمل أمام رصاصة بفلسين، أو أمام ثروة قادرة علي خلق إعلام يسحق بعجلته الهائلة عجلة الشعر المسكينة. إنّ الشعر الذي يريد (فاضل العزاوي) وكثيرون أن يجعلوه سلاحاً، هو صرخة عابثة لا تحمل إلا قداسة وفردية وأخلاقية الشاعر التي وراءها..)

Facebook
Twitter