مقاومة الاحتلال ضرورة إنسانية إيمانية وطنية.
الامام الخالصي الكبير يعلن عن قيام جمعية تحرير الحرمين وبلاد بين النهرين
خطاب الخالصي في النجف وثيقةً مركزية في الايمان والعقيدة السليمة والشجاعة والحكمة ووجوب المقاومة
خمس وعشرين سنيناً لم اجد فيها مقر غير المنافي والسجون والفرار والسفر
الدكتور علي الوردي: الخالصي الكبير تحول الى اسطوره بعد موته بعيدا عن الوطن
الجواهري: قومي البسي بغداد ثوب الاسى ان الذي ترجينه غُيَّبا
عبود الكرخي : يا بريطانيا أللئيمة اخلصي واستقرَّي مات مهدي الخالصي
23ـ ترك الإمام مدينة قم وذهب الى مشهد وهنالك أعلن عن قيام جمعية(تحرير الحرمين وبلاد بين النهرين), ودعا الكثير من علماء الأمة وأبنائها ومن كل الأقطار والقوميات الى تحمل مسؤولياتهم الشرعية لمواجهة أخطار الغزو الاستعماري الخطير للعالم الإسلامي والى العمل الجاد والموحد لإنقاذ العالم الإسلامي, وكانت هنالك نهضة كبرى في تلك البقاع الباردة, وأحس البريطانيون بالخطر الجسيم من هذا التحرك, فبادروا في واحدة من مؤامراتهم التاريخية الى اختيار بعض الأشخاص العاملين مع القنصلية البريطانية في مشهد(مرقد الإمام الرضا, وهي مدينة طوس التاريخية وتقع شمال شرق إيران). فوضعوا السم للإمام الكبير في طعام إفطاره, ليلة الثالث عشر من شهر رمضان المبارك سنة 1343هـ , الموافق سنة 1925م, وجاءت برقية النعي بوفاته لتقلب الأوضاع في العراق, ولتحيل ذكرى الإمام الراحل الى شبح مرعب للاحتلال وأعوانه, وصفه الدكتور علي الوردي في مذكراته بان الخالصي قد تحول الى أسطورة بعد موته البعيد عن الوطن. وسارت الاحتفالات في كل أنحاء العراق وعلى شكل مواكب عزاء استمرت من شهر رمضان الى المحرم وصفر, وكانت هذه المراسم من اكبر مرتكزات الوحدة الوطنية حيث شارك فيها الجميع دون استثناء وشارك في رثائه كل شعراء وأدباء العراق في ملحمة تاريخية لا يعرف لها نظير وقد قال فيه ألجواهري
قومي البسي بغداد ثوب الأسى ان الذي ترجينه غُيَّبا
ان الذي كان سراج الحمى يشع في غيهبه كوكبا
بات على نهضة أوطانه ملهبت الجمرة حتى خبا
قومي افتحي صدرك قبراً له وطرزيه بورود الربا
خطي على صفحته هكذا يرفع من مات شهيد الابا
ودَّرسي نشاك تاريخ فان فيه المنهج الاصوبا
ردوا الى أوطانه نعشه لا تدفنوا في فارس يعربا
شمس أضاءت هنا حقبة وهي هنا أجدر ان تغربا
وقد لخص الشاعر الشعبي الشهير الملا عبود الكرخي ارتياح بريطانيا بالخلاص من الخالصي يقول في مرثيته ـ
يا بريطانيا أللئيمة اخلصي واستقرَّي مات مهدي الخالصي
24ـ فاتتنا حادثه مهمة وهي ان المجاهدين بعد توقف الثورة وحركات القتال سنة 1920 وبدخولهم في المواجهة السياسية لم يتركوا الجهاد والاستعداد لمعركة جهادية أخرى, وقد جرى اتصال دائم شمل العراق من الشمال الى الجنوب استعداداً لمثل هذا التحرك الجديد, وكان الشيخ محمود الحفيد على تواصل مع الإمام الخالصي في بغداد للتخطيط والاستعداد كما روى ذلك مؤلف كتاب الكرد وكردستان.
25ـ والآن دخلت حركة الأسرة ضمن حركة الأمة في المواجهة الساخنة الى مرحلة جديدة, وقد اشرنا في الصفحات الماضية الى دور الإمام الشيخ محمد الخالصي(الابن) مع والده والميرزا الشيرازي وكيف اجبر على ترك العراق, فذهب الى إيران وساهم في تحويل الشارع والمجتمع الإيراني لمقاومة الانكليز ومخططاتهم واستعمارهم في العراق, مما شجعهم على مواجهة المخطط نفسه في إيران.
ونحن هنا وبناء على طلب السائل الكريم والحاح الكثير من الاخوة الباحثين والمجاهدين من ابناء الجيل الجديد سنحاول ان نقدم بعض الشروح التفصيلية لدور الإمام الخالصي(الابن) مع والده الكبير والميرزا الشيرازي والى حين وفاة الوالد كما اسلفنا وقد سبقه وفاة الميرزا رضوان الله عليه اثناء الثورة المباركة, واستمرار دوره المنفرد والمميز منذ سنة 1925م وحتى عودته الى العراق في 4/11/1949م وقد قضى كل تلك الفترة بين سجن ونفي وقهر وتبعيد عبر عنها في ملحمته المشهورة:
خمس وعشرين سنيناً لم اجد فيها مقر
غير المنافي والسجون والفرار والسفر
ومن ثم بقاؤه في العراق حتى وفاته سنة 1963م, بعد قيام الجيش العراقي بقيادة عبد السلام عارف وبعض الضباط البارزين وعلى رأسهم اللواء صبحي عبد الحميد بإنهاء حكم حزب البعث ودخول العراق في مرحلة جديدة. تميزت بالهدوء النسبي المميز وهو ما سناتي اليه ضمن السياق التاريخي لهذه المرحلة ودور خط المدرسة الخالصية والاسرة فيها.
26ـ صاحب الإمام الخالصي(الابن) والده منذ ان وعى الحياة, اي منذ اواخر القرن التاسع عشر وكان ساعده الأيمن في كل المواقف التي وقف فيها الإمام الكبيرـ كما يقرره المؤرخون البارزون ومنهم صاحب كتاب موسوعة العتبات المقدسة الأستاذ جعفر الخليلي ـ والدكتور علي الوردي وغيرهم من مؤرخي العراق الحديث, فقد صاحبه في مشروع مواجهة الهجوم الثقافي الغربي على العالم الإسلامي, وكانت له مجادلات مع البعثات التبشيرية, اوردها في بعض كتبه ومقالاته منذ مطلع القرن العشرين, وشاركه في الموقف من الحركة الدستورية وله راي مميز اورده في كتاب (بطل الإسلام) حيث اعتبر شرعية الحكومة مرتبطة بالقبول العام لدى الامة. وكان هو الخطيب المميز في المناسبات العامة والمحاور في اللقاءات الفكرية والعلمية حتى ان والده الشيخ الكبير كان يصحبه معه في جلسات الحوار العلمي العليا, ويعطيه دوراً كاملاً رغم ان الشيخ الابن كان في مطلع سنيه بعد المراهقة, وقد رويت عنه وشوهدت قابليات مميزة في الحفظ والتدقيق والتحقيق من سنينه الأولى, ومنها رواية مشهورة هي ابن عمه الشيخ محمد تقي الدين الخالصي, وكان يدرسه قواعد اللغة العربية, اصر عليه ان يحضر الدرس وهو حوالي العاشرة, فتمكن من اجباره على حضور درس اول, ولما جاء اليوم الثاني كان الشيخ الابن ينشط على سطح الدار بحركات الغلمان بسنه, فناداه ابن عمه الأستاذ ان يحضر الى الدرس فأجابه من سطح الدارـ لو قرأت لك كل متن الكتاب المقرر هل ستتركني, وكان الكتاب هو الاجرومية, فتعجب أستاذه من ذلك واراد ان يختبره فقال له اقراـ فبدا التلميذ ـ الإمام الخالصي الابن ـ بقراءة متن الآجرومية ويصيح بصوت عال من على سطح الدار كلامنا لفظ مفيد مفرد….وظل يسترسل في القراءة مما أدهش أستاذه وأدهش الحاضرين, ولهذا تمكن بهذه الذاكرة الوقادة, وحتى بعد ضعف بصره وافتقاده نهائياً ـ من حفظ القران كاملاً, والعشرات من المصادر الحديثية والأدعية الواسعة والمطولة مثل دعاء كميل بن زياد وأدعية مفتاح الفلاح وأدعية الصحيفة السجادية. وغيرها من المصادر الرئيسية.
27ـ في اجتماعات العلماء في الكاظمية لمواجهة الهجمات الغربية كان الشيخ(الابن) ـ محور تنظيم وتهيئة هذه الاجواء ـ خصوصاً في تنظيم مراحل مواجهة الهجوم على طرابلس الغرب وخراسان وأطراف الدولة العثمانية في البلقان ـ وأكثرها خطورة خلال الهجوم على العراق بعد نزول القوات البريطانية في الفاو جنوب العراق. وكان في حركة الجهاد لولب عملية التنسيق بين المجاهدين وتذليل الصعاب التي تجابه وحدتهم وتحشدهم وقد طاف على القبائل على طول الطريق الى جبهات الحرب في الجنوب ـ القرنه والشعيبه والاحواز ـ وقام بدور كبير في تحشيدها ودفعها الى المشاركة في الجهاد المقدس للدفاع عن الإسلام وارض العراق, ومن جانب آخر كان الإمام الخالصي الابن منسق شؤون العمليات المشتركة بين المجاهدين والفيلق السابع من الجيش العثماني النظامي الذي كان يتحمل مسؤولية الدفاع عن العراق امام الغزو البريطاني ـ وقد ذكر تفاصيل ذلك في السفر التاريخي الوثائقي والكتاب العلمي والسياسي الخطير ـ بطل الإسلام ـ الذي وصف أحوال والده الإمام الكبير ودوره في الاحداث التي اشرنا اليها, ووصف فيه احوال الجبهات والحروب والمعارك التي عاشها بنفسه مع المجاهدين وذكر فيها حرب الاحواز العظمى, ومعارك المدائن ـ سلمان باك ـ وحصار الكوت ـ حتى احتلال بغداد وذهابه مع المجاهدين والجيش العثماني المنسحب الى الموصل حتى وقوع الهدنة, وانه لمن الملفت ان هذه الوثيقة التاريخية المركزية في الشأن العراقي لم تطبع بلغتها العربية الا قبل سنة ونصف ـ اي بعد ثماني وثمانين سنة من كتابتها, بينما طبعت بالفرنسية بعد ان ترجمت واعدت سنة2004م اي قبل الطبعة العربية ـ والملفت في الكتاب وغيره من مذكرات الإمام الراحل انه حوى مشاهدات واقعية رائعه عن المعارك الكبيرة وبطولات المجاهدين وذكر فيها اسماء لم تكن لتذكر ـ مثل قصة المجاهد سلوم من اهل البغيلة ـ وهي النعمانية حالياً ـ وقصة ابني المجاهدين الثائرين في النجف نجم البقال وكاظم صبي ـ وكيف جاءا الى الموصل وبقيا بضيافة الشيخ المجاهد, وكيف انفعل احدهما وهو ينقل قصة صعود والده الى المشنقة في الكوفة وكأنه يراه في لحظة التنفيذ وهو في الموصل, حتى ان الإمام الخالصي الابن ظن انه يهذي بعد ان تحسس ارتفاع حرارته, ولكن بعد حين ثبت ان هذا الشاب كان يرى فعلاً صور الحدث القاسي وهو على تلك المسافة البعيدة, وكان ذلك الحدث الذي انتهى الى اعدام احد عشر مجاهداً من ابناء مدينة النجف الثائرة, من الذين قاموا بالثورة وقضوا على الحاكم البريطاني الكابتن بلفور سنة 1918.
28ـ عندما بدات بوادر الثورة تظهر امام العراقيين ـ جرى اجتماع حاشد في مدينة كربلاء حضره والده الإمام الخالصي, والإمام المجاهد الشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي, وجمع غفير من الزعماء والقيادات وشيوخ العشائر وابناء العراق للحديث عن الاحتلال وسبل مواجهته, ولم يكن الخطيب المفوه والمفوض من المراجع والزعماء والشعب الا الإمام الشيخ محمد الخالصي (الابن), حيث القى خطاباً تاريخياً جامعاً مازال يعد الى الان مرجع المجاهدين الواعين, ومورد الباحثين عن جرعات الإقدام والشجاعة. وقد نقل هذا الخطاب كاملاً ـ وهذه من روائع الجهد التوثيقي المسير بالتوفيق الرباني ـ كل من الشيخ فريق المزهر آل فرعون في كتاب الحقائق الناصعة في الثورة العراقية ـ وكذلك السيد محمد علي كمال الدين في كتابه ثورة العشرين في ذكراها الخمسين ـ ونقل عنه كل المؤرخين المعروفين ممن اشرنا اليهم او لم نشر اليهم. وهذا الخطاب يعدُّ وثيقةً مركزية في الايمان والعقيدة السليمة والشجاعة والحكمة ووجوب المقاومة. لأنها ضرورة إنسانية إيمانية وطنية.
29ـ كان في احداث الثورة اكثر العاملين في مركز القيادة في كربلاء, فعالية وحركة وجهداً وتنظيماً, والى جانب المرجع القائد الإمام الشيرازي, ووالده الإمام القائد الشيخ محمد مهدي الخالصي الكبير ـ وكان يكتب كل او اكثر الرسائل التي يراد ارسالها الى جبهات الحرب والمجاهدين فيها, وكان يمارس دور الاشراف مع المجلس الحربي على سير العمليات ودعم المقاومين.
30ـ استمرت احداث الثورة في الفرات وديالى ـ التي كان الإمام الخالصي الكبير قد تحرك اليها سراً من كربلاء لاعلان الثورة هناك وفتح جبهة جديدة ضد الاحتلال في شرق بغداد, وكان الإمام الخالصي هو اشهر المراجع في تلك المحافظة, وكان ابن عمه الشيخ حبيب الخالصي في مدينة الخالص كبير العلماء المجاهدين فنشط الجميع في الحركة بعد مجيئ الشيخ الكبير وتوسعت الثورة فيها حتى شملت كل محافظة ديالى مما جعل الحاكم البريطاني في بغداد الكولونيل ولسن, يشعر في احلامه كوابيس مقتل زميله الجنرال غوردن الذي قتله المجاهدون في الخرطوم عاصمة السودان, فقد بدات الثورة تضيق بخناقها من الشرق ومن الجنوب والغرب بعد تصاعد الثورة في منطقة ابي غريب بقيادة المجاهد الكبير الشيخ ضاري المحمود وعشائر زوبع ومن معها, وخصوصاً بعد ان قضى على الحاكم البريطاني في المنطقة الكولونيل لجمن, فقامت الطائرات البريطانية الحربية بالقصف الاجرامي الاعمى على كل مناطق المقاومة, واستعملت الاسلحة الثقيلة ـ فقد قصفت مدينة الخالص ودمر بيت الشيخ حبيب الخالصي الذي كان مقر قيادة المجاهدين ـ وقصفت كربلاء وأرهبتها الطائرات وقصفت مواقع العشائر الثائرة في الفرات وغرب العراق وأصابت الكوفة ومسجدها الكبير, والمئات من الشهداء في ملاحم بطولية منها ملحمة العارضيات الشهيرة(الرارنجية), ومعركة القطار بين الديوانية والحلة, اضافة الى معارك السماوه وعموم الفرات.
31ـ لم يتراجع تحرك الثوار رغم الضغط العسكري الكبير وانما اضطر الانكَليز الى القبول بشروط الثورة, خصوصاً في معاقل الثورة الرئيسية في الفرات ومع قبائل بني حجيم ومنهم ابطال الظوالم, ولكن الغدر البريطاني كان يستغل كل فرصة للتعبير عن غروره وجبروته فبعد دخول القوات البريطانية الى كربلاء اشترطت عدة امور منها تسليم17شخصية, سبع عشرة شخصية مهمة ومؤثرة في حركة الثورة, وكان الإمام الشيخ محمد الخالصي(الابن) من اوائل المطلوبين, وفي حين قرر بعض المجاهدين التسليم الى السلطات, اجتهاداً منهم في اسلوب المواجهة, وفي مرحلة انتقال خطير اعقبت حركة الثورة الجهادية قرر الإمام الخالصي ومعه بعض المجاهدين عدم التسليم وقال(والله لا اعطيهم بيدي اعطاء الذليل ولا اقر اقرار العبيد) فاختفى في مكان تحت الارض في بيت من بيوت كربلاء, وشكلت قصة الاختفاء احد الأحداث المميزة لما جرى فيها من إشكالات ومفارقات, كان الإمام الخالصي يرويها ضاحكاً, وهو يذكر ان امرأتين عجوزين كانتا في الدار, وكلما تخاصمتا ـ وكثيراً ما كانتا تتخاصمان ـ تبادر أحداهما الى تهديد الاخرى بانها ستخبر عن وجود الشيخ في المنزل تحت الارض وتتهمها بانها المخفية له من اجل الايقاع بها, وكان الشيخ الإمام يقول ـ لقد بذلت جهداً كبيراً وجل وقتي للاصلاح بينهما لكيلا تخبرا عن وجودي. واستمر الحال حتى تمكن من الخلاص والخروج مع قافلة زوار افغان, ولكنه صادف في الليل جمعاً ظنهم من الاعداء فجرت معركة حربية بينهما حتى ظهور الصباح, فتبين الفريقان انهما من المجاهدين وكان الشيخ قد وقع من ظهر فرسه على الارض واصيبت اضلاعه بضربة شديدة بعد ارتطامها بالبندقية التي كان يحملها.
32ـ عاد الإمام الخالصي الى بغداد بصعوبة, وظل يعمل تحت توجيهات والده, لتحشيد القوى باتجاهين عمليين لمقاومة الاحتلال.
الاول ـ تجميع الموقف الجماهيري بقيادة العلماء الاعلام والمرجعية الواعية ودعوة زعماء المدن والعشائر وكل طبقات الامة للتلاحم الكامل من اجل مواجهة الاحتلال وتحجيم دوره واخراجه من العراق عملياً ـ وخصوصاً لمواجهة الاتفاقية العراقية البريطانية التي تحمل المعنى الحقيقي في عنوانها ـ اتفاقية الوصاية ـ وكان عمل العلماء يرتكز على منع اي تصرف رسمي يقوم به الاحتلال او اذنابه لاضفاء الشرعية الزائفة على مثل هذه الاتفاقية, وذلك لمنع اجراء الانتخابات التي يراد منها تصديق هذه الاتفاقية, فصدرت الفتاوى المشهورة التي وقعها الإمام الخالصي الكبير وايده فيها باقي العلماء في بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء والموصل والبصرة ومن الشمال الى الجنوب, وتجاوب معها العراقيون, مسلمون ومسيحيون ويهود عرب أو كرد وتركمان وهذا ما أدهش دهاقنة الاحتلال الى حد الصدمة كما اشرنا اليها, وكان سبب المواجهة في مراحلها الاخيرة.
الثاني ـ مع الحركة السياسية المعارضة والتحشيد الشعبي ـ استمر عمل آخر وهو التهيؤ للثورة من جديد, وكانت هنالك مراسلات تتم مع زعماء العراق من الشمال الى الجنوب, كما تؤكد ذلك التقارير التاريخية, وخصوصاً في التواصل مع الشيخ محمود الحفيد البرزنجي وشيوخ القبائل في الوسط والجنوب والغرب. وكان الشيخ الخالصي الابن محور هذا التحرك الجاد وهذا ما اشرنا اليه في الصفحات السابقة.
33ـ عقد مؤتمر موسع ضمن هذه الجهود في كربلاء وتحت عنوان مواجهة الهجمات العدوانية على حدود العراق الجنوبية , والتي قامت بها جماعات محسوبة على الحركة السلفية التي تسمى حركة الاخوان او الوهابية ـ وتم الاجتماع الحاشد في كربلاء ودُعيَ اليه زعماء العراق ووجوهه من كل المناطق, وكان الامام الشيخ محمد الخالصي(الابن), على رأس اللجنة المنظمة لهذا الاجتماع كانت معه لجان عديدة سافرت الى كربلاء للتهيئة العملية لمتطلباته, وكان الهدف الحقيقي من هذا الاجتماع اجبار الملك فيصل الذي دعي الى الحضور, على توقيع وثيقة الاستقلال التي ستودي الى الثورة من جديد, اذا رفضها الانكليز. وقد تنبه الحاكم البريطاني الى هذا المقصد, فمنع الملك من الحضور كما هو مثبت في احدى رسائله الموثقة. ومع ذلك تم الاجتماع الذي ضم كل ابناء العراق بواسطة ممثليهم البارزين, واكد على الوحدة الوطنية والإسلامية, وتحدث في بعض المراحل الإمام الخالصي مع وحدات الجيش العراقي المرسلة الى المؤتمر ـ ضباطاً وجنوداً ـ وخطب فيهم داعياً الى اندماجهم بشعبهم وأمتهم, والقى بعده الشيخ محمد حسن ابو المحاسن قصيدة وطنية في المناسبة. قرر الضباط بأنهم على عهدهم بالوفاء للعراق ولقواه الوطنية الرافضة للاحتلال, وانهم سيكونون مع شعبهم في كل حركة يقوم بها الشعب وبقيادة علمائه العاملين.
34ـ خلال هذا التحرك الدؤوب تصور الانكليز المحتلون ان كل الحركة المقاومة يقوم بها هذا الشيخ الشاب(الإمام الخالصي الابن) وظنوا انه ماذا تخلصوا منه ومن بعض المتحركين معه, فأنهم سيصيبون الحركة كلها بالشلل, وسيتمكنون من محاصرة والده الإمام الخالصي الكبير واضعافه, فارسل الحاكم البريطاني برسي كوكس احد موظفيه الهنود حسين خان الى الإمام الخالصي طالباً منه خروج ابنه الشيخ محمد (الإمام الخالصي الابن), كما طلبوا من السيد حسن الصدر ان يبلغ ابنه السيد محمد الصدر نفس الامر, ويبدو ان الإمام الخالصي لم يرد ان يعجل في الاشتباك وان يكون اختيار وقت المعركة بيده, لا ان يبدا بسبب ابعاد ابنه, رغم اهمية الدور الذي كان يقوم به, فطلب منه ان يغادر العراق مؤقتاً, وتم هذا بتاريخ واحد وفي سيارة واحدة خرج معه السيد محمد الصدر ووصلا الى ايران حيث قامت ضجة كبيرة وحركة سياسية حاشدة, وموجة اعلام عالية ضد التحركات البريطانية في العراق خصوصاً وفي عموم المنطقة.
35ـ حين وصل الإمام الخالصي(الابن), مع السيد محمد الصدر الى ايران كتبت الصحف الايرانية مقالات قاسية ضد التصرف البريطاني الحاقد في العراق, وكان الإمام الخالصي خطيباً مفوهاً, فتمكن من الخطابة باللغة الفارسية وفي وقت قصير, حيث سجل حضوراً لافتاً في كل المنتديات والمناسبات والموتمرات التي اقيمت في طريق مروره الى العاصمة طهران وفيها, حيث اضطر السفير البريطاني في طهران وهو السيد برسي لورين, وكان يعد قطباً من اقطاب السياسة الاستعمارية في العالم الى كتابة رسالة خاصة معنونة الى رئيس وزراء ايران آنذاك السيد احمد قوام السلطنة راداً فيها على كل ما نشرته الصحف الايرانية, والندوات التي عقدت حول السياسة البريطانية, ومعتبراً ابعاد الإمام الخالصي ومن معه انما تم بناءً على رغبة والديهما المعظمين؟ فرد عليه الإمام الخالصي برسالة تاريخية مهمة نشرتها الصحف الايرانية آنذاك بعد ان ترجمتها من العربية الى الفارسية وبقيت هذه الوثيقة مفقودة لدينا ولدى الباحثين حتى نشرتها مجلة ايرانية متخصصة في التاريخ قبل عدة اشهر, ونجد في الوثيقة كل الالتباسات التي يضعها المحتل, وكل الاجوبة التي يوجهها ابناء البلاد الوطنيون.
ـ نص الوثيقة مع المقدمة ـ
العراق من الاحتلال البريطاني الى الاحتلال الأمريكي
وثيقة تاريخية خطيرة
الاحتلال الامريكي للعراق في العقد الأول من القرن الحالي ـ يكاد يكرر بشكل كامل ممارسات الاحتلال البريطاني في العقد الثاني من القرن الماضي، وكلما كشفت وثائق جديدة حول الاحتلال البريطاني و إفرازاته و تداعياته في العراق وفي المنطقة الإسلامية، كلما ازدادت الصورة وضوحاً لفهم حقيقة الاحتلال الحالي وسبل مواجهته وخطط إنهائه وتقليص اضراره وفترة وجوده، وكانت المقولة الاستعمارية المشهورة((فرق تسد)) التي روجها الانكليز وطبقوها في الهند بشكل ناجح وحاولوا تطبيقها في باقي مستعمراتهم، اصطدمت في العراق بوعي العلماء المجاهدين والمراجع العاملين الذي افشلوا المخطط وتمكنوا من جمع أبناء العراق على قلب رجل واحد، حيث استمرت المقاومة ومنذ اللحظات الاولى لمجيء قوات الاحتلال البريطاني ونزولها الى الفاو في جنوب العراق سنة 1914 حيث تحرك العلماء المجاهدون بأنفسهم رغم سنهم المتقدم والظروف القاسية التي أحاطت بهم، ورغم ممارسات الحكومة العثمانية التي خضعت لتوجهات جمعية الاتحاد والترقي المشبوهة في التمييز العراقي ((التتريك)) والتميز الطائفي، وكان الامامان المجاهدان السيد مهدي آل السيد حيدر والشيخ مهدي الخالصي الكبير علمي الجهاد في الكاظمية إضافة الى الشيخ المجاهد عبد الحميد الكليدار، حيث خرجوا بأنفسهم و عوائلهم مع المجاهدين وقاموا بعمل جبار في تجميع العشائر على طول مضاربهم وامتداداتهم في محاذاة نهري دجلة والفرات وما بينهما، كما خرج الامام المجاهد السيد محمد سعيد الحبوبي من النجف الاشرف على رأس عدد كبير من المجاهدين ليقوموا بنفس الدور المميز و الذي يعطي صوره صحيحة عن علماء الدين ورجاله المخلصين، وقد انقسم المجاهدون الى ثلاث جبهات لصد عادية القوات البريطانية، وكان العلماء معهم في المقدمة، ويشاركونهم كل ظروف المعركة بدءا من التدريب والاستعداد للقتال الى المشاركة بالمعارك وقيادتها والثبات في وجه المخذلين و المنهزمين، وقد كتب الإمام الشيخ مهدي الخالصي رسالة فقهية أرسلها من جبهات القتال، رد فيها على كل الشبهات التي يثيرها المتخاذلون والمعممون المدسوسون على الفقه والشريعة، وقد نشرت هذه الرسالة الفقهية الرصينة والتي سماها ((السيف البتار في جهاد الكفار))، على عدة أعداد من صحيفة صدى الإسلام التي كانت تصدر في بغداد آنذاك وعند مراجعتنا لهذه الرسالة، فإننا نجد فيها نفس الحوارت والاستدلالات الفقهية والردود على الشبهات المثارة التي عشناها وعاشها المسلمون وأبناء العراق خاصة في مواجهة الاحتلال الأمريكي الأخير، بدءاً من شبهة التحرير والخلاص من الاستبداد الداخلي(التركي آنذاك والبعثي الآن) والى الشبهة الخطيئة التي تقول ان احترام المراجع والعلماء يقتضي جلوسهم في بيوتهم ومدارسهم وعدم مشاركتهم في حمل هموم الامة ومواجهة الأخطار بشكل مباشر، وهذه الرسالة مهيأة للطبع مرة أخرى عسى أن يتم ذلك سريعاً، واستمرت المقاومة لثلاث سنين حيث قام المجاهدون بدورهم الفاعل الذي منع وصول القوات ألبريطانية بعد أن هزموهم في عدة مواقع منها حرب الأهواز العظمى التي قادها الإمام الشيخ مهدي ألخالصي بنفسه والتي حققت نصراً عظيماً للمجاهدين على القوات البريطانية الغازية، ورغم نكسة المجاهدين في جبهة ألشعبيه ووفاة الإمام الفارس والمرجع المجاهد ألحبوبي هما وغما بسب هذه الفاجعة التي تتحمل مسؤوليتها القيادة التركية العسكرية ،والتي انتهت إلى انتحار القائد التركي سليمان بيك العسكري في نيسان 1915، إلا أن المعركة الطويلة توجت بانتصارين آخرين في المدائن جنوب بغداد ثم بمحاصرة الكوت واسر الجنرال البريطاني طاوزند و الاَلاف من الجنود البريطانيين والهنود الذين كانوا معهم0
(استمرار المقاومة)
واحتلت بغداد 1917،ولكن المقاومة استمرت والعلماء ساهرون، يعملون ويخططون حتى قامت ثورة النجف 1918 وقضى فيها المجاهدون على قائد الحماية البريطانية الكابتن مارشال وحكم فيها على احد عشر مجاهداً بالإعدام وعلى اثنين من علماء الدين المجاهدين الذين قادوا العملية، وكانا من مؤسسي جمعية الهداية الدينية التي مهدت للقيام بالثورة وهذان العالمان المجاهدان هما الشيخ المجاهد محمد جواد الجزائري،والمجاهد محمد علي بحر العلوم، وقد نفذ حكم الإعدام بالمجاهدين وخفف عن العالمين الجليلين بسبب الضغوط التي مورست على البريطانيين لمنع إعدامهم0 وهي ضغوط شعبية وسياسية،وقد نظم الشيخ الجزائري وهو في سجنه قصيدة عظيمة يمكن اعتبارها قصيدة الثورة والتحرير، ولكن غيبت من أدبيات الأجيال اللاحقة بعد ان غيب التاريخ الجهادي الحقيقي لابناء العراق ولم تذكر في المدارس الرسمية، ولا حتى في الحوزات الدينية بعد أن تم اختراقها وتطويقها- يقول الشيخ المجاهد الجزائري
مددنا بصائرنا لا العيونا وفزنا غداة عشقنا المنونا
تبعنا بها سنة الهاشمي نبي الهدى والكتاب المبينا
وصنا كرامة شعب العراق وكنا لعلياه حصينا حصينا
وجحفل أعدائنا الانكليز يملأ سهل الفلا و الحزونا
واستمرت المقاومة
وبدأت بوادر العمل واللقاءات بين وجهاء المدن والسياسيين وزعماء القبائل مع المراجع المجاهدين حتى صدرت الفتاوى، بعد ان ثبت للجميع حتى المترددين أو المخدوعين، بان الانكليز لن ينسحبوا من العراق الا بالمقاومة والجهاد(هل ثبت هذا بالنسبة للمترددين والمخدوعين في احتلال اليوم!! ). وبدأت الفتاوى تحشد الناس حتى اجتمعوا في صحن الأمام الحسين(ع) في كربلاء ومن هناك أعلن الأمام الخالصي(الشيخ محمد بن الشيخ مهدي) وبحضور والده الخالصي الكبير والميرزا المقدس المجاهد محمد تقي الشيرازي الحائري قدس الله أرواحهم الزكية، وأطلق صرخته المشهورة في رفض الاحتلال والالتزام بوحدة العراق واستقلاله ووحدة الشعب ورفض مخططات التقسيم الوافدة مع المحتلين (يراجع نص الخطاب لملاحظة مدى وعي المراجع الحقيقيين للأمة وصلابة مواقفهم في تعرية الاحتلال ومجابهته وقياس ذلك بواقع اليوم ) نقل نص الخطاب المرحوم الشيخ فريق المزهر آل فرعون في كتابه(الحقائق الناصعة في الثورة العراقية ) والسيد محمد علي كمال الدين في كتابه(ثورة العشرين في ذكراها الخمسين)، ونقل عنه كل المؤرخين في تلك الفترة كالدكتور علي الوردي في لمحاته (ج5).
وقامت الثورة
بعد تسعة ايام من هذا الخطاب الذي شكل بيان الثورة الأول وحشد العلماء وزعماء العشائر والسياسيين انطلقت الثورة من مدينة الرميثة الباسلة، وبواسطة المجاهدين من عشائر بني حجيم(الظوالم) حيث تمت العملية الاولى بشجاعة نادرة وخطة محكمة لإطلاق سراح المجاهد الكبير الشيخ شعلان أبو الجون رحمه الله. وامتدت الثورة الى أنحاء العراق من الشمال الكردي(ثورة الشيخ محمود الحفيد) إلى الجنوب العربي، وتجاوزت بوعي أبنائها حواجز الطائفية التي أراد الأعداء أن يضعوها أمام الثورة والمقاومة (نلاحظ نفس الحواجز التي يراد وضعها أمام مقاومة اليوم)، وكان المجاهد الكبير الشيخ ضاري المحمود بطل الثورة في مناطق غرب بغداد, حيث بادر إلى مواجهة الانكليز ومخططاتهم وانتهى الأمر إلى مقتل الكولونيل ليجمن في الواقعة المشهورة، وقد حاول الانكليز تثبيط همة الشيخ الضاري بحجة طائفية الثورة((الشيعة هم الذين يقومون بها بتوجيه علمائهم فما دخلكم انتم)), فكان الجواب التاريخي(الجعفرية إخواننا وعلماؤهم قادتنا), وجاءت الضربة الموجعة التي خلدها العراقيون بهوسة مشهورة(هز لندن ضاري وبجاها)
(هل يفسر هذا, الحقد الكبير الذي يكنه احتلال اليوم على أهله وأحفاده خصوصاً بعد تكرار الرفض لاحتلال اليوم والإصرار على هذا الموقف).
واستمرت المقاومة:
لقد حققت الثورة هدفاً كبيراً وهو إجبار الانكليز على تغيير حكمهم العسكري المباشر, حسب الخطة الأولى, وسحب ممثله الكولونيل ولسن, واستبداله بحاكم سياسي سمي المندوب السامي وهو السير برسي كوكس(هل حققت المقاومة اليوم نفس النتيجة حين أجبرت مخططي الاحتلال الأمريكي اليوم على تغيير خطتهم من الحكم العسكري المباشر وسحب ممثله العقيد جي كارنر وإبداله بحاكم سياسي هو بول بريمر وبكلام آخر هل كان جي كارنر هو حفيد ولسن, وبريمر حفيد كوكس ولو من الناحية السياسية).
واستمرت المقاومة:
حيث جاء الانكليز بحكومة عراقية ولكن تحت إشراف المحتلين(وهذا نفس ما جرى منذ مجلس الحكم وحكومات الاحتلال الى اليوم), فأبى الوطنيون الحقيقيون القبول باللعبة, ورفضوا الدخول تحت راية الاحتلال ومشروعه السياسي(عمليته السياسية التي نرى ما يماثلها في العراق اليوم). وأراد المحتلون سرقة الثورة, أو تحويل أهدافها أو تزييفها(يلاحظ نظيره من خلال تحريف الصراع وتهييج الطائفية وتصعيد الإرهاب ضد الشعب العراقي حتى يمهد الى ما يسمى بالصحوات التي تحارب الإرهاب ولكنها تدفع لمحاربة المقاومة) وشكلت الحكومة الهزيلة برئاسة عبد الرحمن النقيب رغم تحذير الإمام الخالصي له بشكل مباشر وقوي واسقطت المقاومة سياسي الأمس الطائفيين كما أسقطتهم اليوم وقال العراقيون أبياتناً شعبية تكفي لتوضيح الصورة
يـا نقيب يـا نقيب عجب ما عندك صحيب
من عفت جدك محمد صار لك كوكس حبيب
(فكثير من الذين تركوا جدهم محمداً, أو نبيهم محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم), صار لهم كوكس حبيباً بالأمس, وبريمر حبيباً اليوم).
واستمرت المقاومة:
رغم انف الانكليز وعملائهم ووزرائهم وصدرت الفتاوى بحرمة الانتخابات المزيفة التي يراد منها تمرير المعاهدة العراقية البريطانية(انتخابات الاحتلال المزيفة اليوم مررت الاتفاقية الأمنية) ولم يجد الانكليز أمامهم إلا طريق القمع المباشر أو بواسطة العملاء – وانتهى دور النقيب فجيء برجل من الأجلاف الذين عاشوا في ظل العسكرية التركية ولم يكن يجيد الكتابة بلغة أهله(العربية)، عينوه رئيسا للوزراء، وذلك بعد مجيء فيصل وتعيينه ملكاً على العراق، وقد اشترط الإمام ألخالصي الكبير على فيصل شرطين ليقبله ملكاً على العراق(الاستقلال الكامل والانقطاع عن سلطة الغير)، كما ورد في نص البيعة؛ والثاني(عدم الانفراد بالحكم)، إذ لابد من مجلس نيابي يمثل الشعب يتم الرجوع اليه في اتخاذ القرارات وأحس كوكس بخطر هذه الشروط وانحياز شعب العراق إليها بشكل كامل، وصدور الفتاوى التي أيدها أبناء العراق كافة بقومياتهم العربية والكردية وغيرهاً، وبأديانهم المتعددة مسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم، مما جعل كوكس أمام أزمة حقيقية خانقة.
وجاء القمع وتم ضرب قادة الحركة الوطنية الإسلامية وتم تسفير الكثير إلى الخارج وخصوصاً الى جزيرة هنجام وطلب من الإمام ألخالصي الكبير إن يدفع ابنه الشيخ محمد ألخالصي إلى الخروج من العراق، لان المحتلين حسبوه لولب الحركة الوطنية حيث كان حاضراً في كل الساحات واليمين الفعالة لمرجعية الثورة المتمثلة بالمرحوم الشيرازي، والمستمرة بشخص ألخالصي الكبير بعد وفاة الأول، وطلب كذلك من السيد حسن الصدر رحمه الله اخراج ابنه السيد محمد الصدر إذ خرج مع الخالصي في نفس السيارة حيث غادرا العراق إلى إيران وكان هنالك حادث خفي وخطير, اذ همس السيد جعفر عطيفة رئيس بلدية الكاظمية في اذن الشيخ محمد في السيارة, وكان موالياً لابيه للامام الخالصي في قلبه, بكلمة خطيرة تتعلق بمخطط الاندساسات البريطانية القادمة والتي ظهرت اثارها في مراحل لاحقة.
وجاءت المفاجأة، أن المقاومة ظلت وفية لمبادئها واستمرت على دربها وواصلت العمل لتحقيق أهدافها ، رغم خروج الرجال الذين حسبتهم سلطات الاحتلال وسائل الثورة، ويد المقاومة ،ظانين أنهم بإخراجهم، سيجعلون الإمام ألخالصي الكبير وحيدا لا يستطيع الحركة لإدامة المسيرة ، ولكن الذي شاهدوه أن مرجعية الإمام ألخالصي ظلت فاعلة ومستقطبة لجماهير الامة، بل وأعلن أمام الناس أن فيصلا قد نقض الشروط التي تم قبوله على أساسها ملكا على العراق، وان بيعته قد انتقضت بذلك، فلا يبق له في أعناق العراقيين أية بيعة، وهنا جاءت الوثيقة الخطيرة التي نحن الآن بصدد دراستها وتوضيحها وترجمتها بشكل كامل .
فبعد إبعاد الإمام الشيخ محمد ألخالصي(الابن) والسيد محمد الصدر إلى إيران -جرى لهما استقبال حافل من قبل القوى الوطنية المعارضة للتسلط البريطاني على إيران ومن عموم طبقات الشعب الإيراني الناقمة على السياسة البريطانية (كانت هناك اتفاقية أمنية فرضت على الشعب الإيراني ووقعها رئيس وزراء إيران سنة 1919- واسمه وثوق الدولة وسبب نقمة واسعة حتى عُد هذا الشخص خائنا في نظر اغلب الإيرانيين).
وكان الإمام الخالصي(الابن) – يحضر في المناسبات واللقاءات ويحاضر في المساجد والاجتماعات، يتحدث عن جرائم الانكليز في العراق، متعاطفاً مع كل الناقمين على السياسة البريطانية، بل عُدَّ صوته, الرمز الوحيد لمقاومة السياسة البريطانية آنذاك على حد تعبير السيد نور الدين كيا نوري رئيس الحزب الشيوعي الإيراني(توده)، كما قام بتحشيد الجماهير والخروج بمظاهرات لمواجهة مخطط الانكليز للسيطرة ليس على العراق فقط بل للسيطرة على المنطقة بما فيها إيران، وقد كتب السفير البريطاني في طهران(وهوا أحد أعمدة السياسة الاستعمارية) السير برسي لورين وثيقة خطيرة يقول فيها(يعد الشيخ محمد ألخالصي المهيج الرئيسي ضد السياسة البريطانية)، وهذا السفير هو نفسه صاحب الرسالة التي نشرت في الصحف الايرانية، والتي تأتي هذه الوثيقة المنشورة والمكتشفة حديثا للرد عليها وتوضيح الأهداف الاستعمارية الخبيثة المقصودة منها وقد نشرت هذه الوثيقة المهمة والخطيرة في مجلة فصلية تخصصية هي مجلة دراسات تاريخية(مطالعات تأريخي) التي تصدر باللغة الفارسية والمهتمة بنشر ومتابعة البحوث والوثائق التاريخية في إيران والمنطقة، وكانت المجلة قد قامت بنشر بعض الوثائق المهمة المتعلقة بتأريخ إيران والمنطقة وكثير من هذه الوثائق لها ارتباط مباشر بوضع العراق وإن لم تكن عراقية في اغلب موضوعاتها0 وقد قام مركز وثائق الإمام الخالصي بالتعاون مع هذه المجلة وقدم لها بعض الوثائق السابقة أو أرشدها إليها، ولكن هذه الوثيقة نشرت في المجلة دون اطلاع المركز أو احد من تلاميذ مدرسة الإمام ألخالصي فكانت وثيقة جديدة بالنسبة للقارئين، وهي في نفس الوقت وثيقة خطيرة جامعة، ففيها إجابة على كل الأكاذيب التي طرحها السفير البريطاني، وبشكل رائع ومفصل، وهذه الإجابات نفسها ترد على الشبهات والأكاذيب التي جاء بها الاحتلال الأمريكي وعملاؤه هذه الأيام بصورة دقيقة، فكأنها رسالة لمواجهة اليوم وليست رسالة لمواجهة قبل أكثر من ثمانية عقود. وسبقت الوثيقة توضيحات مهمة كتبها ناشرها الباحث السيد هداية الله بهبودي وهي مقدمات مهمة تلقي الضوء على أوضاع العراق بعد ثورة العشرين وفي ظل العملية السياسية التي صاغها المحتلون، والتي وصفت العراق انه قطر تابع للمصالح البريطانية حتى النهاية المأساوية لهذا المخطط في 14 تموز 1958، وما مر خلالها وما بعدها من احداث مأساوية كانت تعصف بالعراق استباحة ودمارا حتى وصل الحال إلى الاحتلال وعمليته السياسية المعقدة والبغيضة والتي جعلت العراق ومؤسسات الدولة فيه قطعا ممزقة يستبيح كل جزء منها مجموعة من المستغلين والمنتفعين، وكل هذه المجاميع تركب قطار الاحتلال الذي سيرميهم إلى الهاوية وهم لا يدرون الى اين ينتهي مشروعهم هذا, وفي أي يوم سيتكرر ما جرى في 14تموز, أو ما هو اشد وأقسى