حاوره: عبدالرضا الحميد
مقدمة
يحدث ان يجرى حوار مع ثائر بين احراش الوطن او على اكتافه فلايجد المحاور ـ بخفض الواو ـ شديد مشقة في اقتناص اسئله من لغة الاحراش واناشيد الثائر.ويحدث ان يجرى حوار مع زعيم وطني او ديني, فلايجد المحاور ـ بخفض الواو ايضا ـ كثير عناء في التقاط اسئلة من افواه الناس او عابري سبيل او جهد ذاتي محض. ويحدث ان يسعى كاتب او صحفي الى حوار مع عالم انتبذ له ركنا قصيا في اقصي من الارض منجمد او في اقصى من الارض على فوهة بركان ناشط, فلايجد الساعي رهقا في قطف اسئلته من فضاء ذهني, قصير زمنه, خفيف ظله, نزير قلقه.لكم ما لايحدث ان يجرى حوار مع وطن اجل: وطن.
هذا الجدل الذاتي استغرقني اسابيع طويلة وانا اروض عقلي لتقحم محاورة من نوع غير مطروق ايامنا هذه, مع وطن يمشي على قدمين اسمه جواد الخالصي .قد يفتئت ضال فينعت قــولي هذا بــمديح, وحاشــا للخالصي ان يكون من طالبــي المديح وحاشــا لي ان اكون من المداحين, فحين ضج الوطن باكيا بنيه الذين خنعوا للغزاة وطأطأوا هاماتهم:
اضاعوني واي فتى اضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
كان الجواد الخالصي وحــده مع صحابـــة الوطن وصديقــيه واهل بـــيته يذودون عن دياره وذماره, مهطال النار وطائشها, مديما بـــذلك نســغ النشــيد العراقي العظيم الهادر الذي اطلقه الامام الخالصي الكبير بوجه الغزو البــرطاني حتــى ضجت من هول مقاومته لندن وحلفاؤها.
ومابين وثبة الجد الاكبر ووثبة الحفيد الكبير ليست سلالة جهادية موقفية وطنية اسلامية عروبية فقط بل سلالة من الانتماء الفريد ونادر المثال للاصل الجوهر. ففي الاصل الجوهر ان الإســلام الواحــد وطن, والخاصيون وحدهم يمموا وجوههم شطر الإسلام المحمدي القرآني الموحــد في زمن تنابــز فيه الناس بــالطائفية والتمذهب, فلبــث الخالصيون في غار الإسلام وانصرف بعض سواهم الى اوثان الجاهلية الجديدة.
وفي الاصل الجوهر ان الإسلام وطن العرب الروحي والفكري والانساني الانبعاثي, وان العرب وطن مهد الإسلام وبؤرة نوره,والخالصيون وحــدهم وعوا مذ بدء مثاباتهم الاول هذه الحقيقة في وقت انزاح بــعض سواهم الى تفكيك هذه الاصرة, علها, مع التقادم, تغرب الإسلام وتعيد العرب الى الجاهلية الاولى.
وفي الاصل الجوهر ان العراق الوطن جمجمة العرب وان بغداد في البلاد كالأستاذ في العبــاد, وان حــب الوطن من الإيمان, وان بعض هذا الحــب جهاد دون ذله وذل اهله وان الجهاد من اصول الدين ومن أصول حــب الوطن الذي ماغزي أهله في عقـــره الا ذلوا, والخالصيون تنكبوا الوطن قياما وقعودا مع اهل بيت الوطن وصحابته وصديقــيه وتنادوا ان (حي على العراق), فما غشــيتهم غاشــية, ولا دانت لهم عالية, وما ارتد لهم طرف, ولا وجــب لهــم فــؤاد, ولــم يستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه ونزرة الخيل وشحة الزاد, وكأني بــهم يوم حشــر العراق تقوم قيامتهم وحدهم بين يديه تماما كالماشــي في الأرض بزهد ابن العذراء مريم.
ترى: من أي مآذن المعاني الإســـلامية الســـامية الاصيلة, ومن أي ذاريات المواطنة الصادقـة العفيفة الزاهدة, ومن أي مثابات التاريخ والحاضر الشريفة, يكون حواري مع الاســتاذ المرجع الديني الإمام المجاهد الكبير سماحـة الشـــيخ جــواد الخالصي؟
سؤال تركت الإجابة عليه الى متن الحوار الذي أسبح للحي القيوم حمدا وشكرا على الفوز بــه في زمن ندر فيه صوت عظيم مثل صوت الإمام الخالصي.
من أحس بلذة الإيمان سقطت من عينيه لذائذ الحس المادي
ضعفت الامة الاسلامية بسبب سياسات الملك العضوض المتوارثة وتغييبه الشورى وبعده عن الامة وعزلته في قصور الحكم المتجبرة
محمد باقر الصدرمؤسس الفكر الإسلامي الأصيل الرافض للهيمنة الامبريالية والرأسمالية, والمبشر بسقوط الشيوعية الرأسمالية, ونهايتهما من التاريخ
اذكر كل من يدعي انه من تلاميذ محمد باقر الصدر بقوله: لا تذموا الرشيد لأنه سجن موسى الكاظم ، إذا جاءتكم دنيا هارون ولم تسجنوا الكاظم, يحق لكم ان تذموا الآخرين
مظلمة محمد باقر الصدر الكبرى ان يبيع بعض المقربين إليه دمه وموقفه الى قتلته المحتلين
ضابط بريطاني يطلق النار على الامام الخالصي الكبير بسبب مقاومته الاحتلال
بسبب ثورة العشرين تراجع الاحتلال البريطاني عن حكم العراق عسكريا وتخلى عن خطة التقسيم الثلاثي
خلع الامام الخالصي الكبير البيعة للملك فيصل بعد ان تخلى الاخير عن الاستقلال الكامل, والانقطاع عن سلطة الانكليز
المحاور:واليوم تتكرر هذه العلامة الثنائية الفارقة في شراكة سماحتكم مع سماحة الشيخ حارث الضاري في المؤتمر التأسيسي العراقي الوطني ومقاومة الاحتلال الأمريكي . هل نفهم من هذا آصرة الشراكة التاريخية لمقاومة الغزاة ، ام مشروعاً وطنياً متصلاً من الأجداد إلى الأحفاد؟
الخالصي: هو نفس المشروع التاريخي للأمة وللمخلصين شرف التاريخ وللثابتين على النهج شرف المستقبل, وللجميع رضا الله وثوابه يوم اللقاء والذكر الحسن والثناء الجميل
فأين قول الشعب وهو يهزج :
هز لندن ضاري وبجاها
من قول الشعب لمن عانق كوكز:
من عفت جدك محمد صارلك كوكز حبيب
وحين يعود الاحتلال اليوم بنفس مصطلحات العدو السابق والاحتلال الماضي فمن الطبيعي ان يلتقي أبناء العراق على نفس الثوابت التي يتبناها المؤتمر التأسيسي منذ ساعات الاحتلال الأولى, لن اكشف سراً ان أقول, تبناها الرجال المؤسسون للمؤتمر قبل الاحتلال, وكل في موقعه فان البعض لم يلتق ببعض آخر إلا في العراق وبعد الاحتلال, وإذا كان واجب الشرف والإيمان والمواطنة توجب على كل احد ان يلتزم بالأمر الصائب في اللحظات الحرجة, فان أحفاد الثابتين على المسيرة, والمواجهين للمحتلين قبل جيل او جيلين, أولى با تباع نهج الحق هذا, وإذا ثبت العار على احد من الناس لأنه خضع للمحتلين واستسلم لقراراتهم ومخططاتهم, فان هذا العار سيتضاعف على من كان آباؤه من المجاهدين الذين قارعوا بريطانيا وأذلوها وهم في عزتهم وهي في جبروتها الزائف ولا ننسى قول الشاعر الشعبي وهو يقول راثياً الخالصي الكبير
يا بريطانيا اللئيمة اخلصي واستقري مات مهدي الخالصي
وقول العشرات من الشعراء والأدباء وهم يهتفون باسم المجاهدين والمخلصين الذين ننظر إليهم بكل فخر واعتزاز كالحبوبي والحيدري والجزائري وبحر العلوم وأبو الجون والضاري والحفيد, وكل زعماء النهضة الوطنية, وقد قلت لأحد المعترضين على مواقفنا الأخيرة قبل ان ينهض من رقدته, ان كتاب بطل السلام الذي إلفه والدي, هو حجه علي قبل كل احد, لأنني قرأت ورأيت فيه كل مخططات الانكليز, التي لا تختلف عن مخططات الاحتلال اليوم. فإذا كان هنالك عذر لبعض الناس بسبب الغفلة او الغباء, وهو ليس بعذر صحيح, فأنني لن أكون معذوراً بعد ان اطلعت على كل هذه التفصيلات الدقيقة, أنها أصر الشراكة الإنسانية من التاريخ والى اليوم لإحقاق الحق وتحرير البلاد وهداية العباد, وهذا كله من النعم التي من الله بها على عباده المؤمنين والحمد الله رب العالمين.
المحاور:معظم الأحزاب الدينية الآن تعلن الاقتداء بفكر السيد محمد باقر الصدر ، لكن فكره ينضح بمناهضة الامبريالية والرأسمالية أيما مناهضة ويجدهما عدوين للإسلام؟ فكيف تفهم سماحتكم هذا التناقض لدى تلك الأحزاب؟
الخالصي: الإعلان شئ والواقع شئ, ولعنة التاريخ ستصيب كل من أعلن شيئاً واخفى شيئاً, او مارس في العمل ما هو ضد الإعلان وربنا سبحانه يخاطب المؤمنين( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ{2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ{3}ﭼ الصف: ويخاطب اهل الكتاب فيقول ﭽ ﭡ ﭢ(ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{85} ) البقرة: والأئمة من آل البيت يقولون, ان شر الناس من ادعى ولاية إمام ولم يعمل بعمله, ومن هذا فان فكر الإمام الشهيد والمرجع المظلوم والعامل بصدق لنصرة الإسلام السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) كان فكراً إسلاميا صافياً معارضاً للتسلط الكافر, ومؤسساً للفكر الإسلامي الأصيل, في الفقه والسياسة والاقتصاد والفلسفة, وهو تبعاً لذلك فكر وحدوي إيماني جماهيري, يرفض الخضوع للهيمنة الامبريالية والرأسمالية, وكان يبشر بسقوط الشيوعية, وسقوط الرأسمالية, ونهايتهما من التاريخ, هذا ما يتجلى في كتابيه التاريخيين وعنوانيهما الصارخين (اقتصادنا) و(فلسفتنا), فهما منهاجان على رسالة امتنا من اجل نهضتها وخلاصها. وقد حدثني أكثر من مجاهد مسلم في أماكن عديدة خصوصاً في فلسطين ولبنان, ومنهم من استشهدوا في هذه المسيرة, ان تلك الكتابات هي التي رجحت كفة حجتنا إمام حجج الآخرين المبهورين بالرأسمالية او الشيوعية آنذاك. ونحن نعتقد ان إعدام محمد باقر الصدر وهي جريمة كبرى ضد الإنسانية وضد الثقافة والفكر والعلم لم يكن الا بقرار أمريكي صهيوني, لان المجرمين وان كانوا طغاة, فأنهم اقصر من ان يطالوا هذا الطود الشامخ والجبل الأشم. ولكن مظلمة الصدر لم تكن أقساها في سجنه ومظلمته وإعدامه مع شقيقته المجاهدة العالمة السيدة آمنه الصدر, وإنما كان في التشويه القاسي والأليم لفكره ومسيرته على يد أناس ادعوا أنهم أبناء مسيرته وتلاميذ مدرسته. انها المظلمة الكبرى ان يذهب تلاميذ محمد باقر الصدر او أدعياء ذلك, الى مصافحة الأيادي الظالمة التي حاربت الصدر وظلمته وشوهت مسيرته التاريخية وعطائه الفكري, وتاجرت بدمه على باب النخاسة السياسية, بل ان أعظم البلاء, ان يبيع بعض المقربين إليه دمه وموقفه الى قتلته المحتلين, ثم ينتقلوا لبيع ذلك الى قتلته السياسيين والمخططين لمشروع محاصرته وإبادته, لذلك فإننا مع شعورنا بالألم, والحزن على الذين باعوا تلك الدرر الثمينة والمواقف الربانية, مقابل الإثمان البخسة من متاع الدنيا الزائل, إلا إننا في الحقيقة قد شغلنا بالحزن لهم عن الحزن عليهم, فأنهم وضعوا أنفسهم في دوائر الإدانة التاريخية الى آخر الزمان, حتى يوم النشور. ولعل السبب الأهم لهذا التناقض, هو تقديم المصلحة الخاصة, على مصلحة المسيرة ومصالح الأمة, والعجز الفكري الذي عاشوه لأنهم لم يهضموا حقيقة المسيرة الإيمانية, والضعف الذي دفعهم لطلب الدنيا, ولم ينتظروا ثواب الله في القيامة, والذي لا يحتاج لإثبات عند أهل الإيمان, فبقاؤهم في طريق الحق هوا أعظم وأجمل في البقاء في جنان الله الباقيات, بل ان موقف الحق هوا أحب إليهم من أي ثواب مادي آخر, فالمحسوس المقنع في الدنيا هو أساس الثواب الموعود في الآخرة. الم يسمعوا قول علي عليه السلام حين يقول ـ (ان بقائي في المسجد أحب الي من بقائي في الجنة, ففي المسجد رضا ربي, وفي الجنة رضا نفسي) فمن أحس بلذة الإيمان سقطت من عينيه لذائذ الحس المادي, ولا ينسى أهل الفضل قول العالم الكبير, وهو يتحدث عن سعادته عند دراسة العلم فيقول((أين الملوك وأهل الدنيا من هذه السعادة العظمى)) لقد ترك السيد الصدر تراثاً ضخماً في الجانب المعرفي, ولكن أعظم من ذلك سيرته الإيمانية الزاهدة وخلقه الكريم وتواضعه الجم, ونصائحه التي جمعت في خطبة قصيرة تتفجر حزناً وألما ولكنها نابعة من القلب جمعت في كتيب صغير سمي (المحنة), وهذه الملاحظات مع عبارات توجيهية سريعة كانت أعظم من فلسفتنا واقتصادنا والأسس المنطقية, وحلقات الأصول, لمن فهم الإيمان وثبت عليه, فأنني اذكر نفسي وإخواني وكل من يدعي انه من تلاميذه, وقد استهوته المنطقة السوداء او الخضراء او زخارف الدنيا حين قال لهم, لا تذموا هرون الرشيد لأنه سجن موسى الكاظم عليه السلام إذا جاءتكم دنيا هرون ولم تسجنوا موسى الكاظم, فعند ذلك يحق لكم ان تذموا الآخرين, لقد جاءت البعض لمحات من دنيا هارون فلم يكتفوا بسجن موسى الكاظم, بل غيبوا شريعة ربه, وسجنوا خيار صحبه, وحاربوا دينه ورضوا بشريعة أعدائه, فهذا أمر مكرر في التاريخ ينقلب البعض على قناعاتهم بشكل صارخ ومتناقض, وفي هذا الزمان رأينا العجب العجاب, فهؤلاء من سألتم عنهم, وأولئك أعداء الامبريالية وكيف انقلبوا الى أحباب مخلصين لها, وهؤلاء أدعياء العروبة وكيف أصبحوا حراساً لإسرائيل.
المحاور: ما هي ابرز المحطات الجهادية في سيرة الأسرة الخالصية الشريفة والتي تشكل علامات فارقة في السفر الجهادي العراقي ضد الاحتلالات جميعها؟ بتفصيل الوقائع وأحداثها ونتائجها وآثارها البعيدة على مجمل النشاط الجهادي الوطني؟
الخالصي: هذا السؤال يحوي أحداث فترة طويلة من تاريخ الأمة. في العراق وفي دول أخرى من العالم الإسلامي خصوصاً في بعض دول الجوار, وإيران صاحبة الحصة الأكبر من هذه الأحداث ثم تركيا, وذلك بعد العراق طبعاً, وقد كانت أحداث العراق تنعكس بشكل تلقائي وقوي على الأحداث في الدول العربية والإسلامية وفي إنحاء العالم بشكل ملفت للنظر وهو أعلى من المتصور والمتوقع في ظل تباعد البلدان وصعوبة وسائل الاتصال وندرة المواصلات آنذاك, خصوصاً في بدايات تلك الفترة الطويلة التي استمرت منذ نهايات القرن التاسع عشر وشملت القرن العشرين كله ووصلت الى اليوم حيث نهاية العقد الثاني من القرن الأول من الألفية الثالثة(القرن الحادي والعشرين), وكانت بداية صعود المشاركة الفاعلة للأسرة الخالصية متزامناً مع ظهور الإمام الشيخ محمد مهدي الخالصي الكبير, وتصاعد المساهمة الجادة لعلماء الدين في عملية الصراع المتفاقم بين الأمة الإسلامية ككل ودولها التي وان اصابها الكثير من التراجع والضعف بسبب سياسات الملك العضوض المتوارثة وغياب الشورى والبُعد عن الامة والعزلة في قصور الحكم المتجبرة., الا انها بقيت مستهدفة في الصراع بين الامة وبين المشروع الغربي ألاستيلائي والتفتيتي(الاستعمار) وكانت هذه المساهمة الجادة تشمل الجوانب الفكرية ـ عملية النهضة والتنوير ـ والجوانب الاجتماعية لتقوية النسيج الاجتماعي الفاعل لأبناء الأمة, وعملية النهضة التنموية بزيادة مستويات العمل والاعتناء بشؤون الحياة والبنى التحتية الاقتصادية ضمن عملية التنمية, وكذلك المشاركة السياسية في المواجه والتي وصلت الى مرحلة الصدام القوي مع المشروع الغربي ومع الكثير من أبناء الأمة الذين استسلموا له وساروا على خطاه واتبعوا توجهاته, واستقووا واستعانوا به في بعض الأحيان واللحظات الحرجة والخطيرة, واندفعت المساهمة والمواجهة الى مرحلة الصدام المسلح والحرب والجهاد والثورة, وكانت المساهمة القوية للعلماء وللأسرة الخالصية منهم, قوية ودائمة وفاعلة وعلى مداها الطويل, وكان الموضوع الآخر الفاعل في هذه المواجهة هو ان العراق كان محور الإحداث ـ ليس بسبب موقعه الجغرافي فحسب حيث يشكل النقطة المركزية الرابطة لاطراف العالم الإسلامي, وإنما ايضاً بسبب تمركز العلماء الكبار والحوزات العلمية وتأثيراتها الخارجية القوية حتى في مركز الدولة العثمانية في الاستانه(استانبول), وفي مركز الدولة الإيرانية القاجارية في(طهران), وهذا كله مع امتداد العراق في العمق العربي في الجزيرة جنوباً وفي الغرب, من هنا بدأت المحطات الجهادية, ونحن سنشير فقط الى أبرزها لان المكان لا يستوعب كل المحطات ولا تفصيلات الإحداث ـ ولا بأس ان نذكرها في نقاط :ـ
1ـ الهجمة الثقافية العامة ضد رسالة الأمة(الإسلام), وبدايات زرع الفتنة الطائفية بين المسلمين, وهذا ما قام به دخلاء ومدسوسون أرسلوا من دول خضعت للاستعمار البريطاني مثل الهند, وزرعوا في العراق مبكراً.
2ـ التاكيد تبعاً لذلك ان الدوله العثمانية طائفية(سنية), وعرقية متعصبة(تركية), ولابد من الخلاص منها ولو بالتعاون مع بريطانية ودول الغرب, وعلى الشيعة ان يغتنموا الفرصة, وعلى القوميين العرب نفس الامر.
3ـ التغلغل الاقتصادي الغربي بدءاً من شركات النقل النهري في دجله والفرات, او شركات احتكار التبغ(التنباك) في ايران, او طلائع شركات النفط الاجنبية في العراق والخليج وإيران الجنوبية.
4ـ بدء حركات الإصلاح الدستوري في ألدولة العثمانية والدولة القاجارية 1906ـ1907, والتي عرفت بالحركة الدستورية(المشروطية), والصراع حولها ومحاولة استغلالها غربياً بتحويل حركات تقيد الدكتاتوريات الحاكمة الى ارتباط بالاستعمار الغربي ثقافياً وفكرياً وسياسياً على منهج(نحو الغرب) او(الانبهار بالغرب).
5ـ بدء طلائع الحركات العسكرية لتقسيم الدولة العثمانية واضعافها مثل تحويل البلقان واليونان وبلغاريا الى حركات انفصال يدعمها ساسة الغرب الاستعماري, بشكل مباشر وبتدخل عسكري واضح المعالم.
6 –غزو الدولة العثمانية بشخصيات وحركات مدسوسة, ذات ارتباط بالحركة الصهيونية او الماسونية, مثل جمعية الاتحاد والترقي التي صعدت مستويات الصراع العرقي بسياساتها التتريكية البعيدة عن روح الإخاء الإسلامي التي كانت سائدة لاطوال القرون السابقة على تدخلاتها.
7ـ دس شخصيات مشابهة على نفس الشاكلة في القوميات الأخرى العربية, الكردية, الفارسية لترد على سياسة التصعيد العرقي بموقف مضاد يحمل نفس المواصفات والتوجهات والتوجيهات .
8ـ قيام أحلاف عديدة في العالم الإسلامي, ضمن عملية خداع واسعة وشراء ذمم وتخدير عقول لربط أجزاء من ارض الأمة, وأمراء ومشايخ ومسؤولين بمعاهدات وأحلاف مع دول الاستعمار الغربي.
9ـ البدء بحملات عسكرية مباشرة ضد بلاد المسلمين, مثل الهجوم الايطالي على طرابلس الغرب(ليبيا حالياً). وعلى شمال إيران(مشهد او طوس) من قبل قوات الدولة القيصرية1911م.
10ـ استدراج ألدولة العثمانية للدخول في حرب خاسرة, وغير مبررة عبر دفعها لمساندة دول المحور في الحرب العالمية الأولى واستغلال هذه الحرب لتمزيق الدول العربية والإسلامية, ونزول القوات البريطانية الى جنوب العراق وفي منطقة الفاو1914, وبدء حركة الجهاد الكبرى ضد الغزو البريطاني والتي استمرت في حركة ملحمية الى سنة 1917م.
11ـ احتلال بغداد وبدء مرحلة الانتداب البريطاني(كل خطواتها شبيهة بخطوات الاحتلال الأمريكي اليوم), والتي مرت بثورة شجاعة سريعة في مدينة النجف الاشرف 1918م.وانتقلت وبسرعة ايضاًَ لتصل الى ثورة العراق الشاملة سنة 1920م.
12ـ تراجع المحتل البريطاني عسكرياً بسبب الثورة العراقية 1920م, واستبدال خطة التقسيم الثلاثي والحكم العسكري المباشر بتنفيذ الكولونيل ولسن, بخطة الحكم المدني عبر المندوب السامي البريطاني وإعطاء العراق الاستقلال الاسمي(وهذا ما جرى في الاحتلال الأخير حيث تراجعت خطة الحكم العسكري المباشر والتقسيم الفدرالي الثلاثي بتنفيذ الكولونيل جي كارنر. وإبداله بالحكم المدني بتعيين السفير الأمريكي بول بريمر حاكماً مدنياً على العراق وإعطاء العراق الاستقلال الاسمي). وفي كلا الحالين ـ حاولوا سرقة الاستقلال الحقيقي والسيادة تحت عنوان معاهدات واتفاقيات أمنية معروفة.
13ـ بدء المقاومة المدنية العامة ورفض مخططات العملية السياسية المزيفة بعد ثورة العشرين, ورفض الانتخابات التي ارادوا من خلالها إعطاء الاحتلال والانتداب صفة شرعية عبر مجلس نواب مزيف, او معاهدة مقيدة يراد تمريرها بواسطته, فصدرت فتاوى تحريم الانتخابات والتي ساندها والتزم بها الشعب العراقي بكل شرائحه من المسلمين والنصارى واليهود وكل قومياته ومكوناته حتى ان هذا الأمر أدهش المحتلين الى حد الصدمة لأنهم كانوا يراهنون على انحياز بعض الشرائح الدينية الى صفهم تحت خداع المسيحية التي يروجونها, او الصهيونية التي يؤيدونها.(لا ننسى تاريخ وعد بلفور في هذه المرحلة).
14ـ ضمن عملية خداع بعض الشرائح السياسية للتعاون مع المشروع البريطاني بدعوى تحرير العرب من الترك, او الشيعة منهم, جرى أمران خطيران وسريان وعد بلفور1917, واتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا وفيها كامل الحقد الغربي بحق الأمة والسعي لتفتيتها والغدر الأكبر مع البلهاء الذين خدعوهم بالشعارات الزائفة, فقبلوا منهم ذلك القانون البائس والذليل.
15ـ استمرت عملية مواجهة المخطط السياسي البريطاني في العراق ولا ننسى باقي مناطق العالم الإسلامي ـ خصوصاً فلسطين, والتي اشارت اليها المذكرات الواعية لزعماء العراق والتي وقعت في بيت الإمام الخالصي الكبير وتم الاحتجاج فيها على تصريحات المسيو بيشون وزير خارجية فرنسا حين اعلن ان لفرنسا حقوقاً تاريخية في سوريا ولبنان وفلسطين. ولم يتمكن المحتلون تمرير مخططهم بوجود العلماء الاعلام وعلى راسهم المرجع الاعلى والشخصية المميزة في الحركة, وهو الامام الخالصي, فقرروا وبتحريض وتنفيذ بعض عملائهم, نفي هذا الرجل وابعاده من وطنه الى مستعمرة بريطانية اخرى, وكانت الهند.
16ـ كان هنالك امر خطير وهو ان الانكليز تظاهروا بالرضوخ لمطالب الشعب والزعماء فقرروا ان يقبلوا بفيصل بن الحسين ملكاً على العراق, وكان فيصل شخصية مهزوزة ومتأرجحة بين إحساسه بغدر الانكليز بابيه وبين مطامعه الشخصية في الحكم والرئاسة وبين ضغوط الشعب العراقي وقراره الوطني فجئ به ليكون ملكاً على العراق ولكن تحت عنوان رضا الشعب وبيعته له, وكان فيصل ومن وراءه ومن معه, يعلمون ان هذه البيعة لن تتم الا بموافقة الإمام الخالصي الكبيرـ الذي كان سيئ الظن بفيصل وبدور أبيه وأسرته من خلال حركتهم ضد الدولة العثمانية وبالتعاون مع الانكليز كما هو مدون في مراسلات مكماهون ـ ودور لورنس الانكليز وليس العرب ومع هذا الرأي الصارخ للامام الكبير, الا انه وجد ان المصلحة ان يستجيب لرغبة الزعماء العراقيين الذين كتبوا لأكثر من مره انهم يريدون استقلال العراق وبزعامة ملك عربي مسلم من نجل الشريف حسين, كان هنالك سبب مهم غير مكشوف, وهو ان الانكليز كانو يشيعون ان الشيعة لا يوافقون على اي حاكم ما لم يكن من طائفتهم, مع ان اكثر الزعامات المطالبة باحد الا نجال كانوا من الشيعة, وكان الشيخ الشبيبي هو الذي حمل رسالة العراقيين في ذلك الى الحجاز وسلمها الى الشريف حسين, فأراد الإمام الخالصي ان يفشل هذه اللعبة الخبيثة, فقرر ان يقبل بفيصل ملكاً على العراق بشرطين صالحين لكل زمان بالنسبة الى الحاكم الذي يقبله الشعب العراقي, واي شعب واع ومخلص, وهذان الشرطان هما: (أ) الاستقلال الكامل, والمعبر عنه بالناجز, او الانقطاع عن سلطة الغير كما ورد في نص البيعة.
(ب) ان يكون الملك او الحاكم مقيداً بمجلس نيابي يمثل الشعب وهذا الشرط يؤكد الشورى ويمنع الديكتاتورية وتسلط الفرد. والشرط الثاني كان سيقيد الملك في كل خطوة تنفيذية ان خالف إرادة الشعب ومصالحه. لقد شكل هذا الشرطان سداً منيعاً امام المخطط البريطاني الذي اراد البيعة لفيصل بلا قيد او شرط حتى يسيره في مخططه كيف شاء وسارع الشعب العراقي الى الالتزام بهذه البيعة المشروطة التي أزعجت البريطانيين وعملاءهم الى درجة كبيرة وردت في العديد من تقاريرهم السرية. اما فيصل فانه قبل بالشرطين بسرعة, واقسم عليهما امام الإمام الكبير في نفس هذا المكان الذي نجلس فيه هذه الأيام , وهو لا يدري ان الانكليز سيصدمون بالشرطين كما صدم هو بهما لاحقاً, ولكنه خرج مسرعاً فرحاً, فنشرت البيعة في الصحف في اليوم التالي, فكانت المتابعة الجماهيرية لها اولى المحطات التي استوقفت المخطط البريطاني وأصحابه في تلك المحطات المصيرية الحرجة.
17ـ اما كيف صدم فيصل نفسه, فانه وجد بعد حين ان بقاءه متردداً بين مطالب الشعب, ورغبات الاحتلال لا يمكن ان تستمر فقرر ان ينحاز ولكن الى الموقف الخاطئ بقبوله بضغوط الانكليز المباشرة, وخاصة من كوكس, حتى أنهم ادخلوه المستشفى واجروا له عمليه (الزائدة الدودية), صنعوا له هذه المرض وهو لم يكن بحاجة اليها حسب بعض التقارير, وإنما استغلوا هذه الفرصة لضرب الوطنيين وقصف بعض العشائر المجاهدة, والملك تحت التخدير. هنا جاء القرار التاريخي للإمام الخالصي وفي مدرسة(الزهراء) وإمام حشد من تلاميذه والجماهير, قال لقد با يعنا فيصل بشرائط, وقد اخل بها, فلم تعد له أية بيعة في أعناق العراقيين وجاء هذا القرار ليربك المخطط بشكل عام كما أشار إليه كل مؤرخي تلك الفترة, وقد ظهرت اثار الحادثتين في كتابات المسز بيل في رسائلها المشهورة, وفي التقارير البريطانية السرية, وفي كتابات مؤرخي العراق, وقد شهد الشيخ محمد مهدي كبة, هذه الواقعة بنفسه حيث كان من تلاميذ مدرسة الإمام الخالصي ودونها بشكل جلي في مذكراته المعروفة باسم(مذكراتي في صميم الإحداث), لقد جاء خلع فيصل بعد ان اخل بالشروط الشرعية والمطالب الوطنية, حداً فاصلاً بين من باعوا أنفسهم لشيطان الاحتلال, وبين من باعوا أنفسهم لله دفاعاً عن الوطن والأرض والعرض.
18ـ قاطع الشعب العراقي الانتخابات بشكل كامل فلم يكن امام المحتلين الا إظهار حقيقتهم القمعية والاستبدادية فبادروا الى ضرب رؤوس وقيادات الحركة الوطنية ونفوا بعضهم الى جزيرة(هنكَام او هنجام), والى الهند وأماكن أخرى, وتوجوا مسلسل القمع بنفي وإبعاد الإمام الخالصي الكبير, الى الهند كما ذكرنا, لان الهند كانت مستعمره بريطانية, وقوانين الاحتلال الدولية لا تسمح بإبعاد مواطن من ارض مستعمرة كالعراق الا الى مكان يخضع لنفس الجهة المستعمرة(بكسر الميم), ولكنهم لم يتمكنوا من إنزاله في الهند, فبقي في السفينة في عرض البحر أمام مدينة بومباي والسبب هو تصاعد وتيرة الاحتجاج الشعبي الإسلامي العارم على نفي الإمام الخالصي ومن تبعه من العلماء, وكان اكثر من 17 فقيهاً ومرجعاً من كبار العلماء كان على رأسهم النائيني والأصفهاني والخراساني والشهرستاني خرجوا من النجف محتجين على نفي الإمام الخالصي, فووجهوا الى إيران مباشرة, بواسطة قطار نقلهم من الحلة الى الحدود, متجنباً المرور ببغداد وقد ادعى وزير المستعمرات البريطانية آنذاك ونستون تشرشل, وعلى منوال أسلوب الكذب الذي يجيدونه في سياستهم ان بريطانيا لم تقم بنفي اي من العلماء وإنما هم مواطنون إيرانيون عادوا الى ديارهم حسب رغبتهم, علماً ان السؤال كان يدور على نفي الإمام الخالصي وهو مواطن عراقي وقد تم نفيه الى الهند كما أسلفنا, فتجنب الإجابة بشكل ملتو طالما اجادته سياساتهم في العراق والعالم, وبالمناسبة فان هذه الكذبة تكرر طرحها من قبل السفير البريطاني في طهران السير برس لورين, وهذه قصة كبيرة لان الإمام الشيخ محمد الخالصي(الابن) رد عليه برسالة عاصفة خطيرة نشرت في الصحف الإيرانية آنذاك, وكنا نحن أبناؤه وكذلك تلاميذه والباحثون التاريخيون على غير علم بهذه الوثيقة الخطرة حتى نشرتها مجلة إيرانية متخصصة بتاريخ وثائق الثورة الإسلامية, فقمنا مرة أخرى بترجمتها الى العربية لضياع الأصل العربي الذي كتبت به كما سنأتي الى احداثها في مرحلة لاحقة.
19ـ لم يتمكن المحتلون الانكليز من إنزال الإمام الخالصي في الهند فحولوه الى باخرة أخرى تذهب الى مستعمره بريطانية أيضا وهي عدن, فوصلت الباخرة الى هناك قبل موسم الحج لذلك العام, ولان الإمام الخالصي لم يكن قد ذهب الى الحج حتى تلك السنة المتقدمة في عمره(شاهد كل جبهات الحرب والجهاد ولم يذهب الى الحج, خلافاً للذين أدمنوا الحج ونسوا الجهاد والكفاح). ولاحظ الحيرة التي يعيشها سجانوه, فقال لهم انا سأختار الذهاب الى مكة لأداء الحج, وقد أرادا بذلك أداء الفريضة أولاً, واللقاء بالحجيج عموماً وبالعراقيين خصوصاً لمتابعة الإحداث في البلد والاستمرار في إدارة الصراع المصيري. وتم له ذلك حيث اركب في غرفة القبطان في آخر باخرة تحمل الحجاج من شرق اسيا الى مكة المكرمة فذهب الى جدة ومنها الى الحج. حيث جرى له استقبال كبيرـ حرص الشريف حسين على تعظيمه تملصاً من آثار تصرفات نجله فيصل ومن تصرفاته هو وتعاونه مع الانكليز, والتي دفع ثمنها غالياً في مراحل قادمة.
20ـ وهو في الحج, وصل العلماء الى إيران كما أسلفنا, وكان نجله الإمام الشيخ محمد الخالصي قد اُخرج قبله بثمانية أشهر, وكان يقود حركة واسعة ضد الانكليز حظيت بتعاطف واسع من كل أبناء الشعب الإيراني وساسته الأحرار, كما جوبهت بمعارضة العملاء والمندسين من الساسة الإيرانيين وإذناب الانكليز الكثار في إيران, فأرسل الدكتور محمد مصدق وزير خارجية إيران آنذاك, والشخصية الوطنية التي قادت جبهة الشعب مع الإمام السيد ابو القاسم الكاشاني في الخمسينات وعملا على تأميم النفط وخاضا معركة التحرير السياسي والتي أنهتها مؤامرة المخابرات المركزية الأمريكية بقيادة جنرال إيراني اسمه زاهدي تمكن والانقلابيون من إعادة الشاه ونظامه حتى سقوطه سنة 1979م ـ أرسل مصدق برقيه الى مكة المكرمة يطلب فيها توجيه الدعوة الرسمية الى الإمام الخالصي للمجيء الى إيران من اجل لقاء باقي العلماء واتخاذ القرار المناسب للاحداث.
21ـ بعد الحج ولقاء الشريف حسين في خيمة الحج في منى ـ رفض الإمام الذهاب الى مقر الإمارة او اي مكان آخر للقاء الشريف حسين أمير مكة ـ فعرض امر الدعوة التي جاءته على الشيخ الخالصي فقرر الذهاب الى إيران مع وجود دعوات عديدة له للبقاء في مكة والحجاز او الذهاب الى أماكن أخرى ـ فأخذته باخرة حجاج الى مدينة بوشهر الإيرانية ـ حيث جرى استقبال رسمي كبير له شارك فيها كبار أركان الدولة الإيرانية وكبار ضباط الجيش, وكثير من كبار العلماء والوجهاء والأهالي. وفي بوشهر جرى حادث غريب اذ أقدم موظف بريطاني على أطلاق النار من مسدسه على الإمام الخالصي, وكان في سيارته, ولكن الرصاصات لم تصبه وجرى اعتقال الجاني, وكان مخمورا بشدة, وهذه كانت الحجة التي جرى تحتها تقديم اعتذار بريطاني رسمي عن الحادث قدمه كبار الموظفين والضباط البريطانيون وخلال مراسيم أداء التحية وتقديم الرجاء بقبول الاعتذار ـ اعرض الإمام عن الحادث وكتبت الصحف الإيرانية بشكل مثير حتى ان إحدى الصحف قالت تحت مشهد تقديم الاعتذار الرسمي, انه كان مشهد مؤثر يجسد قول الله تعالى(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). وللإشارة فقط ولمعرفة دوافع الحادث, وخبث المخططين والموجهين المحتلين, ان مدير شركة النفط التي كان الجاني من موظفيها, لم يكن الا الضابط البريطاني الفاشل والمحال الى الخدمة المدنية لسقوط مشروعه في العراق امام الثورة والمقاومة والجهاد. انه بالضبط الكولونيل ولسن ـ فهل كان إطلاق النار بسبب ألخمره؟ ام بسبب الحقد والهزيمة, وقد اثبت الحادثة شاعر إيران الكبير المشهور باسم بديع الزمان فروزا نفر. بقصيده باللغة العربية استقبل بها الإمام الخالصي حين وصوله الى مدينة مشهد بعد هذه الإحداث فقال:ـ
ورام ثعيليبٌ ببوشهر قتله ليزهو بقتل الليث بين الثعالب
22ـ وصل الإمام الى قم وكانت هي المحطة الخطرة ـ فقد جرى جهد بريطاني ينفذه الإذناب كالعادة, لانها مقاومة الشعب العراقي فجاء مبعوث من فيصل ليعرضوا على العلماء العودة الى العراق لإخماد الضجة وإطفاء الثائرة, فطلبوا من العلماء المبعدين او الخارجين احتجاجاً ان يقدموا تعهداً خطياً الى فيصل بعدم التدخل في أمور السياسة, أنها مرة أخرى وبشكل سافر قضية فصل الدين عن السياسة لتجنبها ولو كانت الحفاظ على مصالح الأمة والبلاد والعباد. وصدم الإمام ـ لا بتصرفات الانكليز وإذنابهم ـ وإنما يتراخى بعض العلماء وإظهار اللين إمام هذا المطلب الخطير, فجلس معهم وحاورهم ونبههم وتحاكم معهم الى شخصية مهمة هي الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي من أوائل مؤسسي الحوزة الدينية في قم في المراحل الأخيرة فحكم اليزدي لصالح رأي الإمام الخالصي بعدم قبول هذه الشرط للعودة مع ان اليزدي رحمه الله كان ممن لا يتدخلون بالسياسة بالمعنى العام, وكان متفرغاً لشؤون التدريس وتنظيم الحوزة, لقد حكم لرأي الخالصي رغم اختلافه معه في الأسلوب ونهج العمل. ولكن المؤسف ان مخطط العودة المشروطة انطلى على القوم وساعد في ذلك تعاون شخص خطير من كبار عملاء السياسة البريطانية في إيران والذي كان يتهيأ للوثوب على العرش بتوجيه الانكليز ووفق خطتهم, انه رضا خان الشاه الأول, ووالد الشاه الذي اسقطتة الثورة الإسلامية الشعبية, وكان هذا العميل الحقود نموذجاً في الشخصيات الخانعة والذليلة والحاقدة والجسورة في اختراق الآداب والقيم والأعراف وفي التجاوز على الدماء والكرامات والقوانين والأنظمة وهو نموذج طبق في العديد من بلاد المسلمين مثل تركيا والعراق وبلدان أخرى, وهكذا اجتمعت كل هذه المؤثرات لتعطي نتيجة مريرة, تجلت في تخلي القيادات العلمائية عن دورها في قيادة وتوجيه الأمة لصالح القيادات الجاهلية المتغربة, وقد بدأت أزمة العراق الحقيقية في القرن العشرين خلال الربع الثاني الذي افتتح بهذه الاتفاقية الخطيرة, او التنازل الخطير, وقد رفض الإمام الخالصي ومعه نجله الإمام الشيخ محمد أعطاء هذا التعهد وأدانوا تقديمه والمخططين له واعتبروه نجاحاً خطيراً لمخطط المحتلين حتى قال لهم الشيخ الكبير, لو أنكم بقيتم ولم تخرجوا من النجف الاشرف لكان أفضل من هذا التحرك المهزوز والمنقطع, كما ان السيد الشهرستاني رحمه الله والذي وافق على برنامج العودة لما وصل الى كرمنشاه, وطلب منه ان يكتب التعهد الخطير, صدم بما فيه من عبارات مهينة فرفض ان يوقعه وبقي في المدينة حتى مات فيها.