عالم الطفولة له مميزاته وخصوصياته التي تساهم بدرجة كبيرة في نحت شخصية الإنسان، وتحدد تربيته وتنسج ملامح مستقبله ومدى قدرته على مواجهة المجتمع ومن ثمة الانخراط في نسيجه المتشابك.
وتتظافر مجموعة من العوامل في مدى تنشئة الأنثى داخل المجتمع المصري، يضع قيودا وخطوطا لا يجب تجاوزها، فتبقى تلك الصورة في ذهن الطفلة وقد لا تفارقها فتؤثر، بطريقة أو بأخرى، في مستقبلها ونظرتها للحياة.
نوال السعداوي في روايتها “مذكرات طفلة” تقول “ربما هذا الصفر هو الذي جعلني أتوقف عن الكتابة سنين طويلة، والذي جعلني أدخل كلية الطب بدلا من كلية الآداب”، الرواية تحكي قصة فتاة صغيرة اسمها سعاد وانتقالها إلى المدرسة الثانوية والتفاصيل اليومية المحيطة بها.
اللذة في الحركة، في اكتشاف الكون واختراق ذرّات الجسد لذرّات المادة، الركض، تحريك الديدن، القفز، كلها متع صغيرة كانت تقوم بها سعاد من أجل الحصول على اللذة، وكأن السكون يعني الموت، إذ نرى سعاد الطفلة دائما تسعى نحو الحركة بوصفها تدفع جسدها تجاه العالم من حولها لاستكشافه.
السعداوي على بساطة لغة الرواية نراها ترسم معالم النموذج الاجتماعي والنفسي الذي يحكم طفولة الأنثى في مصر، الخوف من الوالدين، التمييز الطبقي، العلاقة مع الأم ثم الأب، هذا التمييز يجعل الطفلة تطرح التساؤلات الأولى التي تخطر في بالها، لماذا أنا فتاة وأخي ذكر؟ هل الذكر أفضل مني؟ لم الفتيات يعتبرن همّا على القلب؟
الرواية تحكي قصة فتاة صغيرة اسمها سعاد وانتقالها إلى المدرسة الثانوية والتفاصيل اليومية المحيطة بها
على براءة هذه الأسئلة المتنوعة نرى السعداوي تطرحها على لسان سعاد بوصفها تساؤلات لكشف معالم النظام الذكوري المسيطر، فسلطة الأب تبدأ بالطغيان، وسلطة المدرّس تطغى على صوتها، كذلك نرى الاختلافات الطبقية بين أصحاب الأرض “الفلاحيّن” وبين من يعملون في وظائف رسمية “الموظفين”.
نتلمس أثناء سير أحداث الرواية الدهشة الدائمة التي تعلو وجه سعاد، فنحن أمام طفلة بريئة يتمّ رويدا رويدا، النحت في تفكيرها وجسدها على حدّ سواء لتقولب ضمن الشكل الذي يحكم سير حياة المرأة وآلية تفكيرها.
التساؤلات الأوسع التي تطرحها سعاد ترتبط بالله وحضوره، إذ نراه ذكرا مخيفا يفعل ما يشاء، بل حتى نراها تطرح تساؤلات حول مفهوم العدل الإلهي والفروقات بينها وبين زملائها، وبسبب ذلك تخسر صديقها في المدرسة لأنه مسيحي قبطي وسيدخل النار حسب تعبير أبيها.
سلطة الأب هنا تتوحد مع سلطة الإله، ليبدأ القمع الذكوري بممارسة سطوته على الجسد أولا ثم على الخطاب، إذ تتحاشى سعاد صديقها، وتبدأ بتغيير سلوكها اليومي خوفا من الله الذي يراها دائما، الله الذي يكتشف ما في داخلها حتى وهي تصلي له.
السرد قائم على صوت واحد، صوت الراوي الذي يعلق على حياة سعاد، التساؤلات المطروحة تُترَك للقارئ كي يجيب عليها، فالراوي يحيط بحياة سعاد لكنه لا يستخدم معرفته الكلية لتبرير ما يحدث، بل نراه ينقل لنا ما تراه، الخوف، الرعب، التشكيك في كل شيء، الرغبات الدفينة التي تراودها، النموذج الذكوري يتغلغل شيئا فشيئا قامعا صوت سعاد ليختفي في النهاية، يبقى بعدها صوت الراوي (السعداوي) وهو ينقل لنا ما تمر به سعاد من تغيرات، فانتقالها من مدينتها ومنزل أهلها للالتحاق بالمدرسة الثانوية قد يبدو تحررا إلا أنها أثناء الطريق تلاحظ أنها بدأت تفقد اللذة في الحركة، بدأ السكون يطغى على كل شيء، ما كان يثير دهشتها تحوّل إلى تفاصيل خالية من المعنى.
ينصحها أهلها بالتركيز على الدراسة بوصفها السبيل كي تكمل حياتها ولا تتحول إلى فلاحة، بصيص من الأمل يبدو للقارئ بأن سعاد ستتمكن من إكمال حياتها بصورة تؤمّن لها ما تستطيع أن تحقق به نفسها والمتمثل بالعلم، إلا أن الصدمة التي تصيب القارئ تبدو في المقطع الأخير من الرواية، نهاية مفاجئة تترك القارئ مذهولا، فسعاد التي مازالت بالسنة الأولى من الثانوية وفي عمر الحادية عشرة والنصف يتم تزويجها وتترك وحيدة مع رجل لا تعرفه، فجأة يتغير كل شيء وتنتهي الرواية بالسطور التالية “حين انفتح الباب في الصباح الباكر لم تكن سعاد هي الطفلة؛ في ليلة واحدة قفزت من الطفولة إلى الشيخوخة ثم ماتت بعد أن أنجبت طفلة تشبهها سمّتها سعاد”.
هذه النهاية تجعل المأساة تحضر بقوة في ذهن القارئ، ويبرز التساؤل، هل الرواية مكتوبة بلسان الأم سعاد أم الطفلة سعاد، هل حضور الموت بهذه العبثية هو الحل الوحيد أمام المرأة العاجزة التي تخضع لعنف الذكر.
يحضر في الذهن دائما أن هذه الرواية الأولى للسعداوي، فالتاريخ الطويل من النضال النسوي الذي تختزنه السعداوي عبر كتاباتها وما تعرضت له من عنف بسبب مواقفها يجعل هذه الرواية أقرب لوثيقة تكشف بدايات نضال السعداوي التي تعتبر علما من أعلام الحركة النسويّة في المنطقة العربيّة.
- info@alarabiya-news.com