علي السوداني
وها هي النكتة الضحكة الطرفة الملحة القفشة تنشال من فراعنة وادي النيل وتنزرع عند أعتاب السومريين والبابليين والآشوريين في بلاد وادي الرافدين المسبية ، فصارت بغداد تصنع النكتة والحواضر والثغور ، تطبع وتقرأ وتضحك والضحك هنا ليس في باب السعد انما هو من قوة القهر وفرط الضيم ومطر المهانة . ومن هذا الولوج كنا بحوشنا في بطون الكتب وسير الظرفاء ومدونات الجوابين والصعاليك والشطار والعيارين والبهاليل والضحاكين والبطرانين ، فلم نقع على يوم واقعة تؤرخ لأول نكتة قيلت وشاعت وساحت في بلد ما بين القهرين على الرغم من ذهاب غير مؤلف ومؤرشف وأديب الى لملمة سلال من أخبار وحكايات التنكيت والمنكتين والتظريف والظرفاء والضحاكين وكان جل تلك الكتب قد رصف فوق رف التراثيات ولقد عاشت رعية العراق منذ قيام دولتهم الحديثة وهي تتداول النكتة المصنوعة في المقهى أو في مجلس الحانة أو في قعر مطمورة سجن مظلمة حتى الزمان الأمريكي الذي شوّفهم نجوم الظهر وجعلهم يلعنوا اليوم الذي ولدوا فيه . ولقد مرت النكتة الرافدينية بأدوار استحالة كما مرت دودة القز وكان أشهر تلك النكات هي التي قيلت وصنعت وطبخت في مطبخ ليس ببعيد عن مطبخ السياسة والقصدية والفتنة والتفريق والتفكيك وكان مثواها ومهواها أكراد البلاد الذين صاروا – ويا للمفارقة – يحفظونها ويلونونها بلكناتهم المحببة ويقصونها على العرب كما لو كانت زاد وملح الوحدة الوطنية . ولم تكد البلاد تفوت في سخام أول تسعينيات القرن العشرين حتى تزحزح المشهد قليلاَ وذهب الى مكون آخر مشهور هو عشائر الدليم الغربية مع مقترباتها وفاض نحو أسفل غرين دجلة والفرات وأستل من هناك سلة نكت وطرف من دواوين البهادل والسواعد وبني مالك والسودان والبو محمد وأسد ، لكن الحصة الأكبر ظلت من حظ أحبتنا الكرد وكانت النكات في هذا الباب غالباَ ما تذهب الى التجريح والتشكيك برجاحة العقل حتى دار الزمن وأستدار فتبين الذكاء الكردي الحاد الذي اشتغل بهدوء على قيام دولة كردستان المستقلة القائمة الآن في الوقت الذي التهى فيه عرب العراق الكثرة بالأجتثاث والهجرة والتهجير والثأر والقتل بسبب الأسم أو الميل والهوى والكذب والتبويس المغشوش والنوم بأنتظار السيد غودو الذي لن يأتي ابداَ . الكرد لم يقتلوا أو يجتثوا بعثياَ كردياَ وكان من هؤلاء كثرة في الجيش وفي الأمن وفي المخابرات والبرلمان والحكم وألوية الجحوش ، بل ها هم تراهم الآن في عيش آمن ومنهم من شارك في تجارة وحكم وصناعة وبناء الأقليم . في الأنتخابات الأخيرة برزت ظاهرة المعارضة الكردية المعلنة وأوحي للناس أن الحزبين الكردستانيين الكبيرين في طريقهما الى التآكل ، وفي أول امتحان لهذه الكذبة ، توحد الجميع وقالوا بلسان واحد أن من يريد أن يشكل حكومة ببغداد ويريد منا أن نصير بيضة قبّان ترجح كفته ، عليه أن يقر ويعترف بكل مطالبنا التي هي الرئاسة والنفط وكركوك ومدن وقصبات تمتد من شرق الكوت حتى غرب الموصل وتالياَ دولة كردستان المستقلة ساعة نضج الظرف وهو ناضج لا محال وكل قول خلاف هذا انما هو واقع في باب التبويس والكذب والترضية والمجاملة وبعض استحياء مرده الزاد والملح والكأس والجيرة فهل آن الأوان لينزل العراق الصخرة من على ظهره المكسور ويقول للكرد : اذهبوا فأنتم الطلقاء ؟
قد يكون السؤال موجعاَ ونحن هنا نجتهد ونقترح وننصت ، لكن الأجابة واجبة والوجوب سيلد أسئلة واجابات عليها أن تحدث قبل خراب ما تبقى من بلاد الرافدين ومن الرافدين ايضاَ .