نشأة السلطة/ القسم الثاني والاخير

عبدالستار قاسم

 

الإرادة الجماعية
اختلف جان جاك روسو مع   الفلاسفة وقال بأن السلطة نشأت تجسيدا لإرادة جماعية معبرة عن إرادة حرة للناس   جميعا. اتفق مع لوك بأن الإنسان ليس عدوانيا، وإنما خير بالطبيعة، وأنه أصر على   كامل حريته التي تمتع بها في الطبيعة بعدما ظهرت الحياة المدنية .
قال روسو بأن الإنسان عقلاني، ويتوصل إلى اتخاذ قرارات بصورة عقلانية، واستطاع المحافظة على حريته الطبيعية في الحياة المدنية.قال بأن الناس اجتمعوا للتداول في إقامة سلطة تحافظ على حريتهم وعلى أمنهم وتقدمهم، فوجدوا أن أفضل وسيلة هي أن يتنازل كل فرد عن حريته للآخرين، فيكون ذلك بمثابة عدم تنازل البتة. فلو افترضنا أن المجتمع يتكون من عشرة أشخاص، وتنازل كل واحد منهم عن حريته للآخرين فيكون نصيب كل واحد بمن فيهم هو عُشْرا. يحتفظ كل واحد منهم بعشر حريته، ويحصل من الآخرين على تسعة أعشار، مما يشكل واحدا صحيحا. أي أن الفرد لا يخسر في النهاية أي شيء من حريته الطبيعية، لكنه يكسب التعاون مع الآخرين.
في الوقت المعاصر، تشكل النظرية الجماهيرية تعبيرا عن هذه الإرادة الجماعية. تقول النظرية إن الشعب يحكم نفسه بنفسه من خلال مشاركة الأفراد المباشرة، ويقوم بإنشاء اللجان الشعبية التي يمارس من خلالها الأفراد الحكم المباشر سواء من ناحية التخطيط أو اتخاذ القرار أو التنفيذ.
المشكلة في هذا الطرح هو أن التطبيق العملي صعب جدا ولا مفر في النهاية من وجود أجسام تمثيلية تعبر عن جموع الناس. هذا الأسلوب في الممارسة المباشرة للحكم يتطلب مجتمعات صغيرة جدا لا تتجاوز العشرات، أما عندما يكثر الناس وتصبح أعدادهم بالملايين فإن مسألة اتخاذ القرار تصبح صعبة المنال من خلال المشاركة المباشرة المعبرة عن إرادة حرة.
من الناحية النظرية، المشاركة المباشرة أفضل تعبيرا عن إرادة الفرد من التمثيل لأن كل فرد يدلي برأيه ويشارك، لكن من الناحية العملية تبقى المسألة صعبة جدا، وتستهلك الجهد والوقت، وربما بلا طائل. مثل هذا الأسلوب يفترض الإجماع، وهذا افتراض قد يبدو لا حيز جديا له في الحياة العملية لكنه ممكن مع الاصرار على تطويع الصعوبات المادية والتقنية .

البيعة

الحاكمية في الإسلام نظريا لله سبحانه وتعالى، لكن ممارسة السلطة الدنيوية تتطلب اجتهادا دنيويا، وهناك قضايا يومية واستراتيجية كثيرة تطرأ ولا بد من معالجتها بعقول بشرية. ولهذا نص الإسلام على وجود الأمة، ومن ثم انبثقت الدولة لتكون آلية إدارة شؤون الأمة. الأمة هي التي تجتمع على هدف ومقصد وفق منهجية واضحة، والدولة عبارة عن أداة تستعملها الأمة من أجل الوصول إلى المبتغى.

هناك سلطة في الدولة، وواضح وفق نصوص القرآن الكريم بأن الوالي أو الخليفة يحتاج إلى بيعة المسلمين لكي يمارس صلاحياته وفق التعاليم السماوية. لا تُعقد المسؤولية إلا ببيعة والتي لم يوضح الإسلام الشكل الذي تتم فيه، وترك المسألة لاجتهاد المسلمين وفق الزمان والمكان. البيعة عبارة عن تعبير عن تأييد المسلمين لشخص معين ليتولى أعلى مناصب المسؤولية في الدولة، وهي عبارة عن تخويل له وفق قواعد وضوابط معينة، وهي بالتالي تعبير عن إرادة الذين يقدرون ظروفهم ومصالحهم وما هو الأنسب لهم.وهي بيعة مستمرة ما دام الناس راضين عن أداء المبايع. بمعنى أن السلطة تنبع من الناس أصلا، وهم مشاركون مباشرون في الاختيار، ومسؤولون عن الرقابة وتقييم الأداء.

الحاكم في الإسلام ليس مفوضا إلهيا، ولا هو معصوم من الخطأ. إنه من الناس وللناس، ومن الممكن أن يخطئ، او أن يرتكب خطيئة. وهو ليس ممثلا لمؤسسة دينية أو لرجال دين، وإنما ممثل للناس جميعا بمن فيهم غير المسمين. له في الدنيا مثلما له في الآخرة، وعليه أن يسهر على دنيا الناس مثلما يسهر على آخرتهم؛ وإذا قصر في عمله أو عجز يتعرض للإقالة والاستبدال.

السلطة الدينية


أقوام وشعوب كثيرة آمنت بأن هناك في هذا الكون قوة أو قوى عظيمة غير مرئية تتحكم به وتسيره وفق إرادتها، وأن قوة الإنسان تتضاءل أمامها، بل ولا تستطيع عمل شيء دون رضاها ومباركتها. آمن كثير من الناس بأن الإنسان ضعيف جدا، وإرادته مسلوبة أمام إرادة تمارسها القوى العظمى. فالفراعنة مثلا آمنوا بأن هناك آلهة، وجعلوا من فرعون نفسه أحيانا إلها، وآمنوا بحياة  آخرة  بعد الممات. وكذلك فعل أهل الإغريق والرومان الذين قالوا بتعدد الآلهة وذلك وفق تعدد الظواهر الطبيعية الخارقة التي كانت تصادفهم. فكان هناك إله للشمس، وآخر للحياة، وثالث للحصاد. لكن أهل الإغريق واليونان لم يقيما سلطة دينية، وبقيت السلطة ضمن أبعاد أرضية تتباين منطلقاتها المادية والمحسوسة.

لكن التفكير بالآلهة بدأ يأخذ منحى ممنهجا بعد ظهور الديانات السماوية، وبالتحديد بعد ظهور الديانة اليهودية  والتي أتت بتعاليم مباشرة من السماء عبر أنبياء ورسل. بدأت بهذا فكرة التوحيد تتبلور على اعتبار أن هناك إلها واحدا فقط لهذا الكون، وهو مطلق الحكمة والعظمة والإحاطة بكل شيء في الكون، وبدأت تظهر سلطة الرسول أو النبي على اعتبار أنه صاحب الرسالة، أو هو الذي يتلقى التعليمات مباشرة من الله الواحد الأحد.
اكتسب النبي أو الرسول شرعية بسبب اتصاله المباشر مع الوحي الذي يمثل إرادة الله، والذي آمن به كل من تبع الرسول أو النبي. أي أن الشرعية أصبح مصدرها الإيمان بالرسالة والتعاليم، وأن النبي عبارة عن ناطق باسم الحقيقة الإلهية المطلقة، وكل تعاليمه ملزمة لمجتمع المؤمنين. وفي حال غياب الرسول والنبي، انتقلت الشرعية إلى رجال الدين الذين حملوا لواء المحافظة على مجتمع المؤمنين من خلال الاستمرار في تطبيق التعاليم والشرائع السماوية.وبسبب غياب الوحي، أصبح رجال الدين أصحاب السلطة في شرح التعاليم وفي تطبيقها على أرض الواقع، وأصبحوا رموزا للخير والبركة وتماسك الأمة والإلتزام.

اختلفت الديانات السماوية في مكانة رجال الدين، أو أولئك أصحاب المعرفة الدينية والمتخصصين، فمنها من أقام مؤسسة دينية يشرف عليها ويديرها رجال دين متفرغون مثل المسيحية واليهودية، ومنها من أقام مؤسسات تعليمية دينية ومدارس لا ترتقي إلى مهمة احتكار الدين مثل الإسلام. ولهذا ظهرت في العالم المسيحي نظم دينية متعددة تعتمد فكرة التفويض الإلهي، وأصبح البابا أو من يمثله رمز الهيمنة والسلطة، ومصدر الفتوى الدينية، ومصدر الإلهام الديني والعقاب. أما لدى اليهود، فسيطر الحكماء (الحاخامات( على ترتيب المجتمع متسلحين بالكتاب الموجود بين أيديهم الآن والذين يقولون عنه إنه التوراة، وأصبحوا مصدر السلطات أو إضفاء الشرعية عليها.

في الإسلام وعلى الرغم من أن مؤسسة رجال الدين غير موجودة، إلا أنه تطور لدى الشيعة فكرة ولاية الفقيه الذي يتمتع بشبه تفويض إلهي مشابه للتفويض المسيحي، وتطور لدى أهل السنة مؤسسة دينية لا تحظى بإجماع برعاية السلطان بهدف إضفاء الشرعية على الحكم، والإفتاء بصواب القرارت والسياسات التي يتخذها الحاكم. بقيت هذه السلطة الدينية ذات نفوذ كبير حتى الآن، لكنها الآن تواجه تحديا كبيرا من تنظيمات وأحزاب إسلامية عدة، ومن مفكرين ومثقفين أخذوا يتناولون الفكر الديني بمنهجية علمية.

في كل الأحوال، شكل الدين مصدرا للسلطات، وما زال له تأثير كبير حتى الآن في صياغة الخطط والقرارت لدى المسلمين واليهود والمسيحيين. أنظمة الحكم القائمة تتأثر كثيرا برأي رجال الدين أو المؤسسة الدينية لأنها تريد أن تستجمع حولها أكبر تأييد ممكن. ومن الملاحظ أن العديد من قادة الدول التي يسود فيها دين سماوي يؤدون بعض الشعائر الدينية أمام عدسات التلفاز، والعديد منهم يستنجد بنصوص دينية في خطاباته السياسية وتصريحاته.

السلطة الدينية سدت فراغا تاريخيا لدى الناس، وما زالت وذلك بسبب عقلنة فكرة القوى الخارجية المسيطرة على الكون والتي تتفوق إرادتها على كل الإرادات الإنسانية. لقد انشغل الناس في كل أنحاء الكرة الأرضية عبر التاريخ بفكرة القوى الخارجية الغيبية غير المرئية والتي تتحكم بمصائر الناس والظواهر الطبيعية، وأدى ذلك إلى تعدد الآلهة وتباين الاجتهادات، وربما إلى خلافات كثيرة، لكن فكرة التوحيد أتت لتقضي على التعدد، ولتجمع الناس على إيمان بإله واحد أحد. قضت الديانة السماوية على الكثير من الأوهام الغيبية، وأتت للإنسان بشرائع واضحة، وبقصص تاريخية تثير الاعتبار، وبتشريعات تنظم الحياة، وبتفسيرات عديدة حول ظواهر كثيرة. لكن مسألة الشرعية بقيت مرتبطة بالإيمان، وحيثما انتفى الإيمان انتفت الشرعية.

سلطة التخويل


يمكن أن تنشأ سلطة كنتوء لسلطة أقوى قادرة على السيطرة والتحكم، وهي تبقى تابعة للسلطة الأصل، ويبقى وجودها مرتبطا برغبة الذي أنشأها. يقوم شخص قوي بتخويل سلطاته لشخص آخر ليس بذات القوة، لكن هذا الشخص الآخر باق بسيف القوة أو برضاه، وهو يؤثر على الآخرين ويحصل على طاعتهم أو تعاونهم من خلال معرفتهم بأنه مخول من سلطة أقوى. هذا أمر يحصل في دول كثيرة من حيث أن الإمبراطور أو الملك أو الحاكم يخول شخصا أو مجموعة أشخاص في إدارة مقاطعة معينة من البلاد أو محافظة. هذا الشخص يحصل على دعم مالي وعسكري وأمني من الأصل، ويبقى مستمرا في ممارسة صلاحياته المخولة ما دام الأصل موافقا على الاستمرار. أو من الممكن أن يحصل شيخ قبيلة على تخويل من قوة مستعمرة أو محتلة على ممارسة صلاحيات إدارية تهم الشؤون اليومية للناس، ويستمر بأداء مهامه بفعل هيبة القوة الأكبر.

جميع الصلاحيات التي تتمتع بها الجهة المخولة هي صلاحيات مخولة أو ممنوحة وليست أصيلة. هي ليست صلاحيات مكتسبة، ولا متحققة ذاتيا، وإنما مرتبطة مباشرة بإرادة ورغبة القوي، ولذلك يمكن استرجاعها بسهولة ويسر ومنحها لجهة أخرى أو الاحتفاظ بها من قبل القوي. إنها ليست مكتسبة لأنه لم يتم العمل عليها من أجل انتزاعها، ويتطلب المحافظة عليها الإذعان للمانح والطاعة وتلبية متطلباته.

السلطة الفلسطينية في الأرض المحتلة/67  مثلا عبارة عن سلطة ممنوحة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وهي سلطة تحت الاختبار، ويتم توسيعها وتوسيع صلاحيات القائمين عليها كلما أثبتت أنها تلتزم بشروط ومتطلبات الاحتلال. وقد كان هذا الأمر واضحا تماما في اتفاقية طابا التي قسمت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق: “أ” “ب” وج”. قالت الاتفاقية إنه يكون للسلطة حق الإشراف الإداري والأمني على مناطق “أ، وإنه يتم توسيع هذه المناطق بعدما يتم التحقق من ممارسات السلطة الأمنية، وكلما نجحت بمقاومة ما يسمى بالإرهاب يتم إعطاؤها المزيد. وقد لاحظنا أنه عندما قدرت إسرائيل أن السلطة الفلسطينية عاجزة، ولم تقم بالدور الأمني المطلوب منها، قامت باجتياح الضفة الغربية عام 2002، وعادت تمارس نشاطات أمنية كما كانت قبل قيام السلطة الفلسطينية. ولاحظنا أيضا أنه عندما بدأت السلطة تتقدم في ملاحقة ما يسمى بالإرهاب والإرهابيين الفلسطينيين، وتوظف المزيد من الطاقات في هذا الاتجاه، عملت إسرائيل على تقليص نشاطاتها الأمنية في الضفة الغربية.

في هذا التخويل بالذات، إسرائيل لا يهمها النشاطات الإدارية المتعلقة بإدارة شؤون الشعب الفلسطيني المدنية واليومية، وإنما يهمها المسألة الأمنية فقط. هي تخول صلاحيات مقابل قيام الفلسطينيين بالدفاع عن الأمن الإسرائيلي والسهر عليه. وقد اندفعت الولايات المتحدة نحو تدريب الفلسطينيين حول النواحي الأمنية من أجل رفع قدراتهم، ومن أجل أن توافق إسرائيل على منح الفلسطينيين المزيد من الصلاحيات التي قد تؤدي في النهاية إلى حل الصراع العربي- الإسرائيلي.

السلطة الممنوحة أو المخولة لا تعبر عن إرادة من يمارسها وإنما عن إرادة من يمنحها، وهي ليست سلطة ناشئة عن وعي من يقبل المنحة، وإنما عن وعي من يعطي المنحة، ولهذا لا ينطبق عليها التحليل التاريخي الخاص بكيفية نشوء السلطة. إنها سلطة تستمد وجودها ممن أوجدها الذي يعتبر أصيلا في إقامة سلطة.

المجتمع المدني المعاصر

 


لا يناقش منظرو السياسة في الوقت المعاصر مسألة نشوء السلطة على اعتبار أنها مسألة استنفذت البحث والاجتهادات، وأن المهم هو كيفية ترتيب المجتمعات مع وجود سلطة. إنهم يركزون على الحقيقة القائمة وهي أن السلطة موجودة، وأن على الإنسان البحث في تلك السلطة التي تقيم مجتمعا مدنيا، أو مواطنة حقيقية تفتح الأبواب أمام المشاركة والتفاعل والمساهمة في مختلف الأعمال العامة.

يتم التركيز الآن على فكرة المجتمع المدني، ويحاول عدد كبير من المفكرين ربط هذا المجتمع بالديمقراطية، والقول إن المجتمع المدني لا يتحقق إلا بالديمقراطية، وإن غابت غاب المجتمع المدني. هم يرون بأن الديمقراطية أساس المواطنة، ولا بد من توفرها إذا كنا نريد إقامة مجتمع المواطنين ذلك لأنها توفر الحرية للأفراد والجماعات، وتفتح المجال للمشاركة والتخطيط والتنفيذ. ويجادلون بأن المجتمعات جربت أنظمة سياسية عديدة عبر التاريخ، لكنها جميعها أخفقت في تحقيق الأمن والاستقرار واستمرت الصراعات التي كلفت الإنسان أثمانا باهظة.

الديمقراطية بالنسبة لهؤلاء هي نهاية المطاف، وأن الصراع التاريخي قد انتهى حيث يجب أن ينتهي، <span style="font-family: "Arial","sans-serif"; mso-ascii-font-family: Calibri; mso-hansi-font-

Facebook
Twitter