عبدالستار قاسم
شغلت مسألة نشوء السلطة العديد من الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ ذلك لأن المعرفة بمكنوناتها تلقي ضوءا على أنماط العلاقات الطبيعية والاجتماعية والسياسية بين الناس، وتسهّل على المخططين فهم المنطلقات التي يمكن الاستناد إليها في السعي نحو التطوير في مختلف مجالات الحياة. انشغل الإغريق والرومان والصينيون بهذه المسألة، وأدلى فلاسفتهم وحكماؤهم باجتهاداتهم ضمن إطار رؤاهم الفلسفية لما يجب أن تتشكل وفقه المجتمعات الإنسانية. كان لكل فيلسوف أو حكيم رؤيته لدوافع الاجتماع سواء كانت طبيعية أو بحكم الضرورة، وعمل على توظيف هذه الرؤية كأرضية لمنطلقاته حول كيفية ترتيب مختلف العلاقات داخل المجتمع.
انشغل كذلك فلاسفة العصر الحديث بمسألة نشوء السلطة بسبب حالة عدم الاستقرار التي بدأت تواكب التحولات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الأوروبية، والتي نجمت عن حركة الاستعمار، والحركة التجارية في أعالي البحار، والتمرد على الكنيسة، وانطلاق الثورة الصناعية. أدى عدم الاستقرار إلى حالات صراع واسعة، ودموية أحيانا، وكان لا بد من البحث عن حلول تؤدي إلى الاستقرار وإعادة الهدوء إلى حياة الناس. ركز العديد من الفلاسفة على حياة الطبيعة ونشوء الحياة المدنية ليضعوا أصابعهم على توجهات طبيعية في سلوك الإنسان، ومن ثم وضع الرؤية الفلسفية الصحيحة في ترتيب الحياة السياسية. الجدل حول نشوء السلطة، أو الحياة المدنية للناس ما زال قائما، وما زالت الاجتهادات متعددة على الرغم من خفوت أهميتها في البحث عن الحل الأمثل لحياة سياسية أو عامة هادئة متسمة بالرغبة في التقدم والبناء والتغيير التدريجي المتناسب مع الاحتياجات الإنسانية.
تهتم هذه الدراسة في تتبع الفكر الإنساني الخاص بنشوء السلطة، وتحاول إجمال الرؤى الفلسفية حول هذه المسألة للخروج باستنتاجات قد تكون مفيدة في سعينا لتحسين الظروف الإنسانية ضمن علاقات عامة وخاصة ترتقي بالإنسان جماعات وأفرادا. وهي تعمل على فحص الفرضية التالية: ساهم البحث في نشوء السلطة في تحسين الظروف الإنسانية لأن الاجتهادات المختلفة ركزت على مشاكل عامة ميزت الظروف التاريخية التي صيغت فيها وسعت إلى حلها. أما المنهج المتبع فهو المنهج التاريخي التحليلي الذي يأتي باجتهادات عدة عبر حقب التاريخ، ويصنفها وفق منطلقاتها الطبيعية والاجتماعية، ويحلل دورها في تشعب الفكر الإنساني ورقيه، وتطوير تطبيقاته على أرض الواقع.
تنقسم هذه الدراسة إلى:أ. النظرة الإغريقية لفكرة نشوء السلطة.ب. نشوء السلطة في الفكر الديني، وفي فلسفة الأديان.ت. الفكر الحديث وتطور الوعي الإنساني حول انبثاق السلطة.ث. السلطة في الفكر المعاصر.ج. تقييم جدلي للمقاربات التاريخية.ح. ستنتاجات.السلطة والمجتمع في الفكر الإغريقي
رأى أهل الإغريق بأن المجتمعات تتكون نتيجة للتكاثر الطبيعي الناجم أساسا عن الميل الطبيعي بين الذكر والأنثى. الزوجية عبارة عن ظاهرة طبيعية خلقية، ولا مفر إلا من اجتماع الذكر والأنثى، والحتمية هي إنجاب الأطفال وتكوين الأسرة. الأسر تتكاثر أيضا وتبقى في الغالب متجاورة بدافع عاملين وهما: الحماية المتبادلة والاكتفاء. وبسبب التكاثر والتجمع تنشأ الحياة المدنية، والتي يتمخض عنها في النهاية عنوان لإدارة الشؤون العامة؛ هذا العنوان هو السلطة التي تنظم وتتدبر الأحوال العامة وتفض الخلافات وتضع قواعد للعلاقات.
أي أن المجتمع عبارة عن انبثاق لسلوكيات اقتضتها الطبيعة الإنسانية، والسلطة عبارة عن احتياج إنساني لجعل الحياة أكثر انتظاما ويسرا.
تعرض أفلاطون لمسألة النشوء وقال إن البداية كانت في أن القوي يحكم الضعيف، والكبير يحكم الصغير، والرجل يحكم المرأة، والسيد يحكم العبد. أي ان السلطة تقع بيد القوي، ذلك في المجتمعات التي لا يحكمها نظام تربوي يهذبها ويجعل من صناعة السلطة أمرا واعيا. وقد تعرض أفلاطون للمسألة التاريخية والاجتماعية على لسان عدد من الشخصيات الوهمية التي صنعها في كتابه الجمهورية. فمثلا، اعتبر على لسان ثراسيماكيوس أن الحق للقوة، وأن السلطة في النهاية بيد من يملك القوة. القوي يفرض نفسه، ويبقى في السلطة حتى يظهر من هو أقوى منه. هكذا هو التاريخ، وهذه هي الحقيقة الواقعة.
لكن أفلاطون رأى أن السلطة الحقيقية العادلة يتم فرزها فقط من خلال برنامج تربوي يتعرف على قدرات الأفراد، فمن كان معدنه من حديد بقي في الأعمال اليدوية والحرفية، ومن كان معدنه من فضة ارتقى إلى الأعمال الإدارية، ومن كان معدنه من ذهب أصبح مسؤولا أو حاكما. الفرز يتم هنا بناء على القدرات التي يتم التثبت منها من خلال التربية والتعليم، ولا يتم تحديدها بناء على أسس وراثية أو تفويض غيبي. فإذا أراد شعب أو أمة خيرا بنفسه، عليه أن يعتمد على التربية والتعليم حتى لا يكون في الحكم جاهل أو قاصر أو ضعيف معرفة.
شرح أرسطو في كتابه رجل الدولة بأن المجتمع عبارة عن كائن عضوي كأي كائن عضوي آخر، وهو عبارة عن ترتيب طبيعي سابق على الفرد من ناحية الفكرة، على الرغم من أن الفرد أسبق من الناحية الجسمانية. لقد وجد الفرد لكي يكون عضوا في المجتمع، كما أن جذر الشجرة قد وجد ليكون جزءا من الشجرة. أعضاء المجتمع العضوي عبارة عن كل متكامل، وهي في اعتماد متبادل فيما بينها، ولا قيمة لأي منها بدون الكل. يستمد العضو معناه من الكل، والكل لا يعمل بطريقة صحيحة، وربما يموت، بدون أن يقوم كل عضو بعمله خير قيام. المعنى أن نشوء المجتمع مبني أساسا في الفكرة التي أوجدته، وأن نشوءه عبارة عن حتمية لا مفر منها.
يضيف أرسطو بأن البحث عن الاكتفاء عبارة عن نعمة، وهو بحث هادف بالطبيعة لأنه يؤدي إلى تجمع الناس. إنه القوة الدافعة نحو تجمع الناس في مساكن متجاورة، وفي اعتمادهم المتبادل بعضهم على بعض، وبسببها تتشعب نشاطات الحياة وتتنوع، وتظهر عملية التخصص في الإنتاج. يقود هذا في النهاية إلى ضرورة ظهور سلطة تنظم أعمال الناس وعلاقاتهم، وهي أساس الدولة. أي أن السلطة عبارة عن ضرورة قد تتعدد أشكالها، لكنها تصب في النهاية في هدف واحد وهو خدمة الناس من ناحية تنظيم وتقنين شؤونهم العامة. وبمعنى آخر، الضرورة عبارة عن أمر طبيعي، وبالتالي فإن التجمع عبارة عن أمر طبيعي مما يؤدي حتما إلى الحياة المدنية. أي أن الحياة المدنية مبنية في الدافع الطبيعي الذي يوجه سلوك الإنسان سواء شاء الإنسان أو لم يشأ، كان على وعي أو لم يكن.
وفق أرسطو، المجتمع المدني موجود منذ أن بدأ الناس بالتجمع في قرى ومدن، وهو مجتمع يفرز سلطته بصورة تلقائية فيظهر من ينظمون العلاقات بين الناس، وهم أنفسهم الذين يصبحون سلطة. السلطة عبارة عن إفراز حتمي للتجمع، وأنماط العلاقات السائدة هي التي تعبر عن جوهرها.
تحدث أرسطو حول أنظمة الحكم المختلفة، ورأى أنه يفضل النظام المختلط، أي النظام الذي يجمع بين الملكية (حكم الفيلسوف) ومشاركة الشعب. لقد أيد أفلاطون من الناحية النظرية بأن حكم الملك الفيلسوف هو الأفضل، لكنه رأى أن التطبيق العملي للفكرة بعيد المنال، ومن الأفضل أن يكون هناك توازن بين العقل الراجع وعامة الشعب. وأضاف بأن للشعب الحق في اختيار ممثليه الذين يساهمون في صناعة القرار والتنفيذ. هؤلاء الممثلون أقدر على فهم هموم ومشاكل الناس اليومية والحياتية من الملك الفيلسوف الذي يهتم عادة بالكليات على حساب الجزئيات.
لكن أهل الإغريق لم يغفلوا فكرة الآلهة، وأن هناك قوى كبيرة تسيطر على هذا الكون، وتعرف النواميس وتمثل المثل العليا السامية التي يجب أن يتحلى بها الإنسان. هم لم يؤمنوا بأن هناك من الناس من يحمل تفويضا من الآلهة ليحكم باسمها، لكن الإنسان قادر من خلال التأمل أن يتعرف على المثل العليا ويعمل على تطبيقها في المجتمعات. أي أن القواعد التي يجب أن تهتدي السلطة بهديها تأتي من المثل التي تمثلها الآلهة والتي هي الحقيقة المطلقة.
سلطة القوة
عدد لا بأس به من المفكرين وأساتذة السياسية يقولون بأن السلطة هي ابنة القوي. القوي هو الذي يقيم سلطة يسيطر فيها على الآخرين، ويوجههم بالطريقة التي تحلو له، ويجزيهم ويعاقبهم كما يرى مناسبا. القوي يملك إمكانات السيطرة، وهو القادر على إزالة كل العقبات والتحديات من أمامه، وهو يبقى صاحب سلطة حتى يجابهه قوي آخر فيهزمه ويأخذ مكانه. إنهم يرون بأن القوة هي أساس السلطة، وأن النظام والأمن لا يتحققان إلا بالقوة، وإذا غابت القوة غاب النظام وسادت الفوضى.
وجهة النظر هذه تبدو أنها أقوى وجهات النظر بشأن قيام السلطة ذلك لأن الشواهد العملية التي يراها الإنسان العادي والمفكر تؤيدها وتعطيها زخما هائلا. ليس من الصعب أن يرى الإنسان العادي أن الثري محترم من قبل الناس أكثر من الفقيه، وصاحب العضلات القوية مهاب أكثر من النحيف، والمرأة الجميلة مدللة أكثر من الأقل جمالا، والدولة التي تملك الصواريخ ذات مكانة عالمية أكثر من التي لا تملك، وصاحبة الاقتصاد القوي أو المال الوفير ذات شأن أكثر من غيرها، وهكذا. حتى أن العديد من الناس يرون في الديمقراطية حاضنة للأقوياء الذين يملكون المال ووسائل الإعلام.
هؤلاء يدحضون فكرة الأخلاق كأساس للسلطة، ولا يتبنون فكرة اجتماع الناس وفق إراداتهم الحرة للاتفاق على إقامة سلطة يقبلونها جميعا وتحقق لهم مصالحهم. إنهم يرون أن القوة هي التي أخرجت الإنسان من حياة الطبيعة، حياة القرار الفردي، ووضعته على طريق الحياة المدنية التي أخذت تتسم بقرارات مركزية. هم يرون بأن الفوضى أخذت تسود بعد أن كثر الناس وأخذوا يتجمعون في تجمعات سكانية، ولم يكن بالإمكان تنظيم الأمور إلا من خلال قوي يظهر بدافع الحرص على حياته وممتلكاته ومصالحه، وقاد الناس نحو طاعة أمره. القوي هو الذي أخذ يضع القوانين، ويقرر الخير والشر، والصواب والخطأ. ولم يجد الناس إلا الانقياد لأن الخطر الذي يتهددهم في حياة الطبيعة أقوى وأشد من الخطر الذي يمثله جبروت القوي. أي أن الناس يفضلون الظلم المنظم على عدم الأمن في حياة الفوضى.
هكذا قال فيلسوف أفلاطون ثراسيماكيوس الذي رأى بأن القوي هو الذي يتحكم بالناس بغض النظر عن أي معايير إنسانية وأخلاقية، وهو الذي يختار في النهاية فيما إذا كان سيلتزم بمعايير أخلاقية أم لا. وعلى ذات النمط كتب الفيلسوف الإنكليزي هوبز الذي قال بأن الناس يسأمون حياة الفوضى والخوف المستمر، وبسبب عقلانيتهم يقررون تسليم أمرهم لقوي ينظم شؤونهم بالطريقة التي يراها مناسبة مقابل المحافظة على حياتهم. أي أن الناس يدخلون في عقد ضمني أو صريح مع القوي، يوكلون فيه إليه أمرهم مقابل تعهده هو بتوفير الأمن لهم والمحافظة على حياتهم. فقط يمكن أن ينفرط هذا العقد إذا لم يعد القوي قادرا على الوفاء بالشرط، فيظهر قوي غيره.
في الوقت المعاصر، تتبنى الولايات المتحدة نظرية القوة على الساحة الدولية، وترى أن الأمم تسود من خلال القوة، ولا تتحقق مصالحها إلا إذا كانت قوية. ويعتبر هانز مورجينثاو وهنري كيسنجر من أبرز المنظرين لنظرية القوة. ولهذا حرصت أمريكا على تطوير قدراتها العلمية والتقنية والعسكرية والاقتصادية حتى تكون قادرة على الهيمنة وبسط النفوذ في مختلف أنحاء الكرة الأرضية. ومن الملاحظ أن أمريكا تحاول استعمال الدبلوماسية أحيانا كنوع من التورية، وهي في الغالب تفرض الأمور فرضا من خلال الترغيب والترهيب.
انسجاما مع فلسفة القوة، يضيف ميكافيللي بعدا واعيا لهذه القوة من خلال مبدأ الغاية تبرر الوسيلة والذي يبرر الخداع والكذب والتضليل من أجل إطالة أمد الحكم. رأى ميكافيللي أن القوة ضرورية من أجل إقامة السلطة، لكن القوة السافرة وحدها لا تكفي، بل يجب على الحاكم القيام بالأعمال التي ترفع من شعبيته وتعزز من مكانته بين الناس مثل التمسك بالدين بالظاهر حتى يعطي انطباعا أنه متدين، والتضحية بالمعاونين من أجل إرضاء الناس إذا أحس منهم ضجرا، وصناعة الوهم حول بساطته وقلبه الواسع الذي يتسع للفقراء والمساكين. إنما على الحاكم أن يكون جاهزا دائما لاستعمال القوة إذا تطلب الأمر ذلك، وعليه أن يعطي بناء الجيش والمؤسسة الأمنية أولوية خاصة.
سلطة المنافع
ترتكز هذه السلطة على مبدأ المنفعة الذي يُفترض أنه يحكم سلوك الناس، وهو مبدأ معكوس لمبدأ القوة، أي أن الناس يطوعون أنفسهم لمصالحهم، ولكل من يظنون أنه ينفعهم. سلطة القوة تقوم على عمل مباشر من صاحب القوة لإخضاع الناس، أما في هذه السلطة فإن الناس يبحثون عن مصالحهم، ومن أجلها لا يهتمون بمسألة السيادة أو الاستقلال بالرأي.
من الفلاسفة من قالوا بأن فكرة الخير والشر لا تحمل مفهوما أخلاقيا عاما، وإنما مفهوما أخلاقيا ذاتيا، وأن السلوك خيّر إذا نجم عنه منفعة، وشر إذا نجم عنه ضرر، والناس يفرحون لما ينفعهم، ويتألمون لما يضرهم. أي أن كل فرد يقرر باستقلالية عن الآخرين ما يضره وما ينفعه، وهو يتصرف بعد ذلك وفق تقديره الذاتي. ويضيف هؤلاء بأن البحث عن قيم أخلاقية كونية أو عالمية أو عامة عبارة عن مضيعة للوقت، وأن ترتيب الأمور السياسية ومجمل شؤون الناس وفق ذلك يؤدي إلى متاهات تلحق الضرر بالجميع، ومن الحكمة أن يتم ترتيب الأوضاع العامة وفق الواقع الذي يعبر عن حقيقة الناس، أو حقيقة اتخاذهم للقرار.
الواقع يقول إن الناس يتصرفون وفق أهوائهم، وقلة قليلة جدا ربما تتصرف تبعا لمبادئ وأسس عامة، وإذا كان للدولة أن تعترف بالواقع فإنها تستطيع كسب تأييد الناس واستحسانهم. واضح من هذا الطرح أن السلطة حقيقة عبارة عن مؤسسة لتسهيل البحث عن المصالح، ولتجنيب الناس المشاكل والهموم الناجمة عن تضارب المنافع. السلطة لا تقرر ما هو المفيد وما هو غير المفيد، والأمر متروك لكل فرد ليقرر، وبذلك يتكيف كل فرد مع مختلف المتطلبات الموجودة ويحاول بقدر الإمكان تجنب التضارب الذي يمكن أن يلحق به الضرر.
بناء على هذه الرؤية، من الممكن أن السلطة قد تولدت من خلال تقديم منافع للناس من قبل من هو قادر على ذلك. فمثلا، من المحتمل أن رجلا قويا قد ظهر وكان قادرا على مواجهة خطر الحيوانات المفترسة، فدأب الناس على الاستنجاد به مع كل خطر افتراسي واجههم، فأصبح زعيمهم من خلال هذه المنفعة. ومن الواضح أيضا أنه من الممكن لأي شخص أو جهة تملك المال الوفير أن تسيطر على الناس وتحكمهم لأنها قادرة على تلبية حاجاتهم المعيشية. الناس يصفقون لمن يقدم لهم الطعام، أو يعينهم في تلبية متطلباتهم أو يقدم لهم الأجور والرواتب، ولديهم الاستعداد للانحناء من أجل ما ينفعهم.
الاختيار الحر
ربما يكون جون لوك هو الأبرز في تبني نظرية الاختيار الحر العاقل. يقول لوك بأن حياة الطبيعة كانت تتسم بالهدوء والسلام ذلك لأن الإنسان خير بالطبيعة ولا يعتدي. إنما بسبب ازدياد أعداد الناس وظهور التجمعات بدأت تظهر بعض الفوضى لأن المصالح تشعبت وتعددت. أي أن ارتفاع عدد السكان أدى إلى ظهور مصالح اقتصادية وسكنية وملكية عديدة أدى إلى بعض الفوضى وانتهاك سلم حياة الطبيعة.
افترض لوك أن الناس مسالمون وعقلانيون ولم تدفعهم الفوضى الناجمة عن تضارب المصالح إلى الاقتتال، وإنما إلى التفكير بما يجب عمله من أجل تفادي الأضرار الناجمة وتحقيق حياة هادئة. لقد فكروا معا، وتوصلوا إلى نتيجة بأن عليهم أن يختاروا من بينهم من يمارس السلطة بالنيابة عنهم تحقيقا لمصالحهم وذلك من خلال آلية الانتخاب.
وجد الناس، وفق لوك، أن الانتخابات هي الآلية الأسلم لاختيار من يمارس السلطة، وأن الأغلبية هي المخولة بالقيام بذلك دون الطغيان على الأقلية. رأى الفيلسوف بأن إجماع الناس على رأي واحد فقط غير ممكن، بل ومستحيل، وأن الأخذ برأي الأغلبية هو الطريق الأقصر نحو حل مشكلة السلطة. الأغلبية تبقى في السلطة ما دامت أغلبية، وللأقلية أن تبقى نشطة وتعمل على إقناع الآخرين برأيها عساها تصبح أغلبية. تحترم الأغلبية حق الأقلية في النشاط بين الناس وتوجيه الانتقادات والاعتراضات، وتحترم الأقلية القانون الذي تضعه الأغلبية من أجل أن يبقى النظام والأمن سائدين.
وبسبب عقلانيتهم، رأى الناس ضرورة فصل السلطات وذلك من أجل الحرص على عدم ظهور الاستبداد والطغيان. السلطة في الدولة، وفق لوك، تنقسم إلى سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، وكل واحدة تمارس السلطة بطريقة تراقب فيها السلطتين الأخريين، وتصحح مسارها إن اعوجت. جميع هذه السلطات تعمل على المحافظة على الحق الطبيعي للإنسان في الحياة والتقدم، وتحترم الملكيات الخاصة على أنها مقدسة لا يجوز المساس بها.
هذه النظرية تؤكد على مشاركة الأفراد في السلطة منذ البدء، وتؤكد على أن الإنسان مخلوق بالطبيعة مسالم متعاون يحب الخير لنفسه وللآخرين، وأن السلطة لا تقوم عليه وإنما من خلاله.
تعتنق الدول الديمقراطية الغربية هذا الرأي، وتعتبر جون لوك أحد أعمدتها الفلسفية. إنها ترى، كما رأى لوك، بأن الأحداث التاريخية استمرت في التفاعل إلى أن استقرت عند الديمقراطية التي يعتبرونها النظام الأفضل عبر التاريخ. لقد جرب الناس في مختلف أنحاء العالم أنواعا متعددة من السلطات، لكن الصراع استمر، واستمر نزيف الدماء والشقاء، إلى أن وصل التفاعل التاريخي إلى منتهاه وهو دولة الديمقراطية. المعنى أن هناك جدلا تاريخيا قاد حتما إلى النهاية، وهي نهاية غير ناجمة عن قرار إلهي أو عن سلطة فوقية، إنما عن تجارب الناس في حياتهم اليومية.