الفوضى السياسية والأمنية وسوء استخدام التكنلوجيا هما مزيجان خطيران كفيلان بإثارة الرأي العام، وهو ما يجري في العراق إذ أن محتوى رقمياً مفبركاً ينتشر على مواقع الانترنيت ويثير الأحقاد داخل المجتمع الواحد.
تلقى مواقع التواصل الاجتماعي بأنواعها “فيس بوك” و”تويتر” و”يوتيوب” رواجا واسعا بين العراقيين وخصوصا بين فئة الشباب، حتى صارت هذه المواقع بالنسبة لهم مصدرا أساسيا للأخبار السياسية والأمنية في بلادهم، أكثر من وسائل الإعلام التقليدية المرئية والمقروءة.
وبسبب الاضطرابات الأمنية التي يشهدها العراق، وتسارع الأحداث في كل دقيقة، خصوصا الأخبار المتعلقة بالمعارك التي تخوضها الحكومة العراقية ضد “داعش”، يتعطش العراقيون لمعرفة الأخبار بشكل سريع وهو ما توفره مواقع التواصل الاجتماعي.
ولكن مواقع التواصل الاجتماعي لا تخضع لمعايير محددة، وأي شخص يمكنه نشر ما يريد من صور ومقاطع فيديو ومنشورات بشأن الأوضاع في مدينته من دون رقابة ولا مصادر موثوقة، ويكون الغرض منها الحصول على متابعين او مهاجمة طائفة دينية او سكان مدينة ما.
المئات من المنشورات الكاذبة يتداولها العراقيون على نطاق واسع، وتتضمن مقاطع فيديو وصورا كاذبة عن حوادث أمنية او سياسية او اجتماعية، تنتشر بشكل سريع بعد دقائق من نشرها، ولغياب الخبرة من التحقق من حقيقة المحتوى المنشور فان العراقيين يصدقون هذه المنشورات.
وقام فريق باختيار عينة من بعض المنشورات التي ساهمت بنشر أخبار كاذبة، ولعبت دورا في نشر الكراهية بين العراقيين، بعد تطبيق آليات للتحقق من المحتوى الرقمي لهذه المنشورات وأثبتت بالأدلة عدم صحتها.
في 2 من الشهر الحالي أعدمت السلطات السعودية رجل الدين السعودي نمر النمر، ولم تمض ساعات حتى شهدت بعض المدن في العراق موجة غضب كبيرة، ونظمت تظاهرة واسعة في بغداد استنكرت إعدام النمر، وردد المتظاهرون شعارات ضد السعودية.
وكانت مواقع التواصل الاجتماعي العراقية مكانا لإعلان الاستياء عبر نشر منشورات كاذبة، وتضمنت مقاطع فيديو على أنها لإعدام النمر لكسب التعاطف والمؤيدين، تبين بعد التحقق بالوسائل الرقمية عدم صحتها.
وانتشر مقطع فيديو بشكل واسع على موقع يوتيوب وفيسبوك وتويتر على انه تصوير لإعدام النمر، وحصل على آلاف المشاهدات وانتشر سريعا بين العراقيين، ولكن بعد إجراء تحقيق من المحتوى المنشور تبين أن مقطع الفيديو منشور قبل أربع سنوات ويخص حادثة إعدام خادمة اندونيسية في السعودية.
وفي مقطع فيديو آخر انتشر بشكل واسع على انه رمي لجثة النمر من الطائرة بعد إعدامه، وبعد التحقيق تبين أن مقطع الفيديو يعود إلى حادث عرضي حصل قبل سنتين تمثل بسقوط احد عناصر الدفاع المدني السعودي من الطائرة.
المعارك الدائرة بين القوات الأمنية من الجيش والبيشمركة و”الحشد الشعبي” ضد تنظيم “داعش”، أفرزت العديد من الأبطال الوهميين، عبر مقاطع فيديو وصور كاذبة، وأكثرها انتشارا تلك الصورة التي يظهر فيها شخص بلباس عسكري مصاب بقذيفة هاون في ذراعه، وكل فصيل مقاتل ادعى أن هذا الجندي تابع له.
مشهد الجندي وهو يجلس في غرفة المستشفى مكتئبا في انتظار مصير قذيفة الهاون المستقرة في ذراعه كانت مناسبة لنشر أخبار كاذبة ولكن العراقيين سيصدقونها بسرعة، مع اطلاق على هذا الجندي صفات مثل “البطل الخارق” و”الرجل الحديدي”.
وأصبحت صورة هذا الجندي اكثر المواضيع سخونة على مواقع التواصل الاجتماعي في العراق، وأصبح مرة عنصرا في الجيش العراقي، ومرة ثانية عنصرا في “الحشد الشعبي”، ومرة ثالثة عنصرا من قوات البيشمركة، حتى أن مؤيدين لعصابات “داعش” الارهابية نشروا الصورة على انه احد عناصرهم الأبطال.
وبعد البحث في أصل الصورة عبر أدوات التحقق الرقمي تبين أن هذا الجندي لا علاقة له بكل تلك القصص التي رويت عنه، بل انه كان عنصرا للجيش الكولومبي بداية عام 2000، وأصيب في قتال الجيش ضد مسلحي (فارك)، وكتب احد المدونين أن الجندي اسمه (خيسوس آليريو) وأصيب في منطقة (كيومبايا- Quimbaya) الكولومبية قبل سنوات.
إن التمعن قليلا في تفاصيل الصورة مثل عبارة (كيومبايا) المكتوبة على ذراع الجندي، ونوع رتبته العسكرية، ونوع قذيفة الهاون المغروسة في ذراعه، تفند بشكل كامل القصص التي نشرها عراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي.
ومن الصور الأخرى التي أثارت جدلاً واسعاً وشتائم بين العراقيين على مواقع التواصل الاجتماعي، صورة تجمع ضابطاً من البيشمركة مع شخص يبدو وكأنه احد عناصر “داعش” من حيث الملابس والذقن الطويل، وانتشرت الصورة مع تعليق يقول ان البيشمركة تتعاون مع “داعش”، وتصاعدت الاتهامات ضد الأكراد.
ولكن بعد تدقيق في محتوى الصورة، تبين أن الشخص الذي يرتدي زي “داعش” هو ممثل كردي معروف ومعه مجموعة من الممثلين الايزيديين ويقومون بتصوير فيلم عن جرائم تنظيم “داعش”، وتم تصوير الفيلم في منطقة ربيعة غرب الموصل، والضابط الذي معهم من قوات البيشمركة هو ضمن قوة لحماية كادر الفلم أثناء التصوير.
ومن النتائج السلبية لانتشار العشرات من المنشورات الكاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل يومي، هو انتشار الشائعات وتزايد تصديق العراقيين لها، بسبب الجهل وقلة الخبرة في التأكد من الأخبار التي تنشرها مواقع التواصل الاجتماعي.
ويقول استاذ في كلية الإعلام جامعة بغداد إن “الشائعات ازدادت بشكل واسع في المجتمع العراقي بعد التطور التكنولوجي والرقمي الذي يسمح لأي شخص بنشر معلومات دون التأكد من صحتها”.
ويضيف أن “هناك حاجة لزيادة الوعي الرقمي بين العراقيين لمواجهة الشائعات التي باتت تؤثر على الرأي العام بشكل سلبي”.
والمشكلة الأكبر أن العديد من وسائل الإعلام المحلية متورطة أيضاً بنشر محتوى رقمي كاذب ومضلل، وبدلا من أن تساهم هذه القنوات والصحف والوكالات الإخبارية في نشر المعلومات الدقيقة وفق مصادر صحيحة، لكنها تشارك في التضليل ونشر أخبار كاذبة بهدف الحصول على المزيد من المتابعين، وزيادة الزائرين لمواقعها الالكترونية.
وغالبا ما تكون الأخبار المضللة مدروسة بشكل يضمن انتشارها بسرعة، من خلال الاستفادة من المشاكل الطائفية والاجتماعية بين العراقيين، فالمحتوى الرقمي إذا كان يدعم طائفة معينة ضد طائفة فانه ينتشر بسرعة، ويزيد الكراهية، دون رغبة وخبرة لدى العراقيين في التأكد من حقيقة مقاطع الفيديو والصور والمنشورات المكتوبة من مصادر موثوقة.
عميد كلية الإعلام في جامعة بغداد هاشم حسن يقول إن “أفضل طريقة لمواجهة الأخبار الكاذبة والشائعات، هو زيادة خبرة الصحفيين على نشر الأخبار الصادقة بأسرع وقت، وتوفير مصادر موثوقة في الحصول على المعلومات”.
ويضيف ان “العراقيين يريدون سماع الأخبار عن الأوضاع الأمنية والسياسية بشكل سريع، ويجب على وسائل الإعلام توفير هذه المعلومات، بدلا من السماح لمواقع التواصل الاجتماعي بنشر أخبار كاذبة تهدف لنشر الكراهية”.