انتصار عبد السلام
إن تاريخ المجتمع الإسلامي المعاصر ينطوي على مسلسل طويل من المصاعب والإحباطات، نتيجة لانقلابات مختلفة و متلاحقة في عدة مجالات،إضافة لما أفرزته عملية الاتصال الثقافي من تبعية وتقليد لتجارب مجتمعات مختلفة عنه في مضامين وأهداف الحياة ،بالإضافة إلى الانغلاق وراء أسوار التقليد تحت ستار الحفاظ على الأصالة وثبات الهوية والذات الثقافية والتنمية القطرية.
هذا ما أبرزته الصورة التي تلوح في العالم الإسلامي اليوم،وقد نتج عنها جمود في عقلية أبناء هذا العالم ؛ فهم لا يملكون القدرة على التواصل مع قيم ومبادئ الماضي، وأيضا لا يملكون زمام المبادرة للإعداد للمستقبل ، في حين يخطط سادة العالم إلى ما يحفظ سيادتهم والى ما يزيد من عبودية وضعف الآخرين، وهذا ما خلق مأساة في الوعي الفكري الإسلامي على وجه الخصوص؛ إذ كفت العقلية المسلمة عن الإبداع والتجديد في منظومة القيم لديه،وباتت تتأرجح بين منظومة قيم موروثة لا تفي باحتياجات ومتطلبات الحياة الحاضرة والمقبلة،وبين منظومة القيم المستوردة التي لا صلة لها بحاضرها ومستقبلها، أدى هذا التأرجح إلى وجود خليط ثقافي متناقض وغير متجانس بنيويا ووظيفيا وغائيا ، إضافة لما سببه من عدم فاعلية للمجتمع الذي أصبح يتخبط في صيغ من العشوائية والازدواجية واللاعقلانية؛ التي تولد عنها الشعور بالعجز والإحساس بالدونية والإحباط عند المسلم المعاصر الذي وصل إلى مرحلة الاغتراب عن حضارته الإسلامية اغترابا اجتماعيا وسيكولوجيا وثقافيا.
وبالتالي أصبح من المهم فهم الواقع المعاش للأمة الإسلامية المعاصرة ولفهم واقعها علينا تحليل الواقع الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع الإنساني، لأن ذلك يساهم إلى حد بعيد في حل المشاكل الراهنة التي يواجهها أبناء هذا المجتمع؛حتى يصبح بالإمكان رسم معالم المشروع النهضوي الجديد الذي يشمل مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، فعملية بناء المجتمع من جديد تتطلب إعطاء معاني جديدة لمفهوم المعاصرة وفق منظور ثوري في كل مجالات حياة الإنسان، لأن حدوث أي تطور في أي مجال يقتضي حدوث مثيله في المجالات الأخرى، وخاصة على صعيد الأخلاقي والقيمي للإنسان .
وما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن الفكر الجماهيري هو ابن النسق الحضاري العربي الإسلامي ،نشأ وتربى على معاييره الثقافية،و الإنسانية والاجتماعية،والمعتقدية والتربوية والتعليمية،وهو في طروحاته السياسية والاجتماعية والتربوية إنما يعكس عمق المحددات التاريخية والحضارية للنموذج العربي و الإسلامي بالنظر إلى الكون والحياة والمجتمع؛فقد نهج الفكر الجماهيري منهج الفكر الثوري الذي تقع على عاتقة المسؤولية السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية في قيادة الشعب وبناء أمة إسلامية تواكب مسيرة التطور العالمي،وترفض سياسة الهيمنة والتبعية والاحتلال التي يفرضها أعداء هذه الأمة بأساليب متعددة المسميات،متحدة الأهداف والنتائج؛ من هنا يمكن القول أن أهمية الفكر الجماهيري كونه إبن النسق الحضاري للمجتمع الإسلامي،وهذا ما ساعده على المساهمة بفاعلية في إعطاء مفاهيم جديدة للمعاصرة .
فقد قدم الفكر الجماهيري للمسلم المعاصر معاني جديدة لمفهوم المعاصرة وذلك عن طريق منهج ثوري يرفض كل عمليات الجمود والتخلف و التبعية الفكرية، ويحافظ على القيم والمبادئ الإنسانية، ويدعو لأهمية مواكبة التطور العلمي والتكنولوجي لان فيه راحة الإنسان وسعادته، ويرتكز هذا المنهج على أسس أصيلة المنبع، وقوية الصلة بالإنسان ألا وهي (الدين والعرف) وخصص القرآن الكريم شريعة للمجتمع كونه يحتوي على مبادئ وقيم سمحة صالحة لكل زمان ومكان،وهي الوحيدة القادرة على إعادة الثقة في شخصية المسلم المعاصر؛ لذلك على المجتمعات الإنسانية الاعتماد على ((شريعة مقدسة ذات أحكام ثابتة لا تخضع للتغير أو التبديل وهي الدين والعرف)) ؛ ف((الدين احتواء للعرف، والعرف تعبير عن الحياة الطبيعية للشعوب،إذن الدين المحتوي للعرف تأكيد للقانون الطبيعي، والشرائع أللادينية و أللا عرفية هي ابتداع من إنسان ضد إنسان آخر،وهي بالتالي باطلة لأنها فاقدة للمصدر الطبيعي الذي هو الدين والعرف)) تؤكد هذه النصوص على أهمية توظيف الدين والعرف كدستور ومنهج لحياة المسلم العاصر لأن بهما يمكن خلق منظومة من القيم التي تحافظ على إنسانية الإنسان،وتدفع به لمواكبة مجريات العصر في حل مشاكله المتعددة والمعقدة،
يكون ذلك بالعلم والمعرفة فالإنسان بطبيعته راغب للعلم والتطور لأهداف متعددة يمكن جمعها في هدف رئيسي هو أن يحقق الإنسان إنسانيته ليجسد معنى تكريم الله تعالى الذي يقول في كتابه العزيز(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) فالمعرفة حق طبيعي لكل إنسان،وهي ضالة المسلم أينما وجدها اعتقالها،ولكن علينا أن نضع في الاعتبار أن تطور المجتمعات البشرية وتغير بنائها الاجتماعي تغيراً عميقا ًمع تغير علاقاتها ووظائفها، كان معبرا عن بنائها العقلي المتلائم مع احتياجاتها، بالتالي يكون من المستحيل تحقيق خاصية التطور ما لم نحافظ على طابع الجماعة المشترك كما نما وتبدى خلال التاريخ،لأن من خلاله يمكن تحديد المنهج الملائم لطبيعة المجتمع الذي يسعى جاهدا لمواكبة التطور العلمي، والتكنولوجي، والالكتروني ، والتكتيك التجريبي والصناعة التقنية، والاقتصاد النقدي الدولي، إضافة لأهمية الحفاظ على طابع الإنسانية الأخلاقي.
بالتالي فإن العودة إلى منبع هذه الأمة (العرف والدين)و توظيفهما كأساس منهجي في الفكر الجماهيري هو السبب الذي ساهم في رفض المفاهيم السياسية والاجتماعية البرجوازية،وجعل من أبناء المجتمع الجماهيري يتمسكون بمبادئ الحرية السياسية المتجسدة في الديمقراطية، ويحافظون على النظم الاجتماعية الأصيلة بما فيها الأسرة والقبيلة والأمة والقومية، ويدعو للعدالة الاقتصادية وتحقيق الاشتراكية،بهذا تجسدت صورة الوعي الجماعي التي يمكن لها خلق فلسفة لحياة المسلم المعاصر،وهذا ما يبدو واضحا من خلال المشرع الحضاري المقدم في الفكر الجماهيري ؛مع العلم أن المشروع هذا لا يقتصر على الصعيد المحلي للمجتمع الجماهيري ، وإنما هو دعوة عالمية لنشر القيم الإنسانية التي تم طمسها وإدخالها لمنظومة الجمود والتخلف والتبعية،فقد ابدع الفكر الجماهيري في صياغة منظومة من القيم الإنسانية القابلة للحوار والنقاش والممارسة والتطوير مرتكزا في ذلك على مبادئ الشريعة الإسلامية ،ومواكباً لمجريات التطور العلمي والتقني الهائل الذي تشهده العلوم الأخرى. – أهمية المنهج الجماهيري كونه دعوة لإعادة بناء هذه الأمة ؛بمعنى أن المنهج المطروح على الساحة الفكرية في الجماهيرية لا يقتصر توظيفه على الساحة المحلية ،إنما هو قابل لتوظيف على المستوى العالمي.
فالمنهج الموظف في الفكر الجماهيري :هو من الشعب و بالشعب والى الشعب،وهو بذلك النموذج الأمثل لبناء المشروع الحضاري الجديد الذي ترنو إليه الأمة الإسلامية لبناء حضارتها من جديد،وتكون الخطوة الأولى بإعادة الثقة في شخصية المسلم المعاصر،وخاصة عندما يعلم أن تراث هذه الأمة قد جسد لبنة من لبنات تطور الفكر البشري ،وهو الآن يدفع بالمجتمع الجماهيري لمواكبة عجلة التطور في الفكر الإنساني،وعدم الوقوف على منهج التلقي الذي يعتمد على النكوص إلى الماضي، أو تقليد الحاضر دون معرفة تركيب نسيج العقل في الزمان؛حيث يرتكز هذا المجتمع على شريعة ثابتة الجذور والقواعد، وينتهج أسلوب التجديد والتطوير في مجال العلم والعمل والتطبيق بناء على أن لكل عصر ضروريات خاصة لابد للمسلم المعاصر أن يواكبها ويتعايش معها ،ويكون ذلك بتأليف منظومة أخلاقية وفق مبادئ الشريعة الإسلامية؛لأننا عندما ننجح في جعل ضروريات عصرنا جزءا من مقاصد شريعتنا ،نكون قد عملنا حينئذ ليس فقط على فتح باب الاجتهاد في وقائع عصرنا المتجدد وحل مشاكله؛بل سنكون أيضاً قد بدأنا العمل في إعادة تأصيل أصول شريعتنا نفسها بصورة تضمن لها الاستجابة الحية الفاعلة لكل ما يحصل من تغيير أو يطرأ من تجديد.
وبما أننا في حاجة إلى التحديث،أي الانخراط في عصر التكنولوجيا كفاعلين ومساهمين، وأيضا في حاجة إلى حماية هويتنا القومية وخصوصيتنا الثقافية من الانغلاق والتلاشي ،على الأمة الإسلامية الأخذ بما ينادي به الفكر الجماهيري وخاصة في ما يتعلق بإعداد مناهج تعبوية تسعى لغرس القيم والفضائل النبيلة في تنشئة الأجيال المتحمسة لبناء حضارتها وتحرير أرضها،بحيث لا تستورد هذه المناهج من الغرب إلا الاكتشافات العلمية ووسائل التقنية المتطورة مع الحفاظ على قيمها وهويتها المسلمة لأنه من الصعب بناء جيل معاصر بدون مراعاة التكافؤ في التعليم الديني والتقني والمدني،وهذا ما نلاحظه في القوانين والنظم المشرعة في الفكر الجماهيري الذي تعددت مناهجه وحل القضايا المطروحة في الساحة الجماهيرية.
ويمكن أن نلاحظ النهج المميز للفكر الجماهيري على عدة أصعدة:-
– على الصعيد السياسي للدولة يتبع سياسة الحياد الايجابي وعدم الانحياز،بالإضافة للتعايش السلمي ومراعاة الإنسانية.
– على الصعيد السياسية الوطنية ينادي الفكر الجماهيري بضرورة تحقيق سلطة الشعب وتحقيق مبدأ الشورى .
– على الصعيد الاقتصادي تتطبق الاشتراكية لتحقيق العدالة الاجتماعية .
– على الصعيد الديني يؤكد الفكر الجماهيري أن التعاليم الدينية تنص على الأركان الأساسية للانسجام بين الوجود الإلهي والدنيوي،وأن العلم الحديث يجب أن ينتشر ضمن إطار ما تنص عليه الكتب السماوية