علي السوداني
كنت انتويت – أنتويت مفردة نطقها حسني رئيس مصر قبل أن ينصرع بهاونات الهتاف – الليلة البارحة ، أن أدندل حقيبتي من على كتفي اليمين ، وأيمم وجهي صوب أمسية شعرية ممسرحة ومموسقة ومسلطنة بصوت شاعر مؤمن أن القصيدة ، هذه الأيام اليابسات ، لا تسوّق ، الا اذا كانت محمولة فوق ظهر زفة دنابق وطق اصبعتين ونتلة جسم . نزعت جسمي المنحول من السرير الصار على أول بيبان الظهيرة . كنت منشغلاَ في أمسية صاحبي ، لذا نسيت أن أتثاءب . صوت ريح كاسرة تهب على عمّان ، تسميها الناس ، ريح الخماسين ، حيث أشجار الصفصاف الضخمة ، ترقص وتهتز وتنود وتنثر شعرها ، تماماَ كما كان منظر النساء اللدنات البضات البيضات ، أيام فرقة ” بنات الريف ” وهن يتمايلن ويتغنجن على عبقرية ربابة فالح حسن ، وطبلة عبد رويّح ، وتحميسات فرج وهاب . من طلتي العالية فوق جبل الحسين ، يكاد جبل اللويبدة المذهل ، يتنكر بقناع من تراب . أغلقت نافذتي ، لكن طعم حلقي صار مثل طعم طين خاثر . بغتة ، أنشغل مخي في ترتيب وتقوية مسوغات خيانة الشاعر . وجه الولد نؤاس ، مكفهر . أقعدته في حضني ، فشبّت بصدري نار وجعه . طفرت به الى الحمام ، وغسلت وجهه النبوي ، فأرتاح وخدر ونام وأستكان . أظن أن مبررات غيابي عن فرجة قصائد صاحبي ، لم تكتمل بعد . ثردت ربع رغيف خبز ، وأغرقته بطاسة سمينة من شوربة العدس الصفراء التي أحب ، ولأنني اللحظة قائم على جبل من قلق ، فلقد أجهزت على ماعون الشوربة ، بأربع دقائق ، ومن تلك الواقعة ، الى واقعة نبش الأسنان التي أرتفع عدد ثقوبها المعلنة في فمي ، الى تسعة ثقوب ، كلفة ترميمها مثل معاش أخير الشهر ، ونصف طن قهر . ثمة حبة عدس صلدة أنحشرت بين سن العقل وطاحونة الهرس . شدة من أعواد الثقاب ، لم تقدر على نزعها من مكمنها الآمن . اقترحت عليّ المبروكة ايمان ، أن أستعمل خيطا سمكه من سمك شعرة ذيل حصان ، فوافقت فوراَ ، ومع أول معزوفة سلكية ، نام الخيط في لحم شفتي السفلى ، فساح منها دم عزيز . في هذه الذروة ، أصدرت فرماناَ قوياَ راسخاَ ، زبدته هي عدم الذهاب الى دكة صاحبي الشعرية . كفكفت ما ساح من دمي ، وصارت ايمان الجميلة ، تأكل نفسها تحت ثقل واقعة الخيط ، فقامت وصنعت لي كوب قهوة عملاق ، مزفوفاَ بطاسة ماء عذب بارد ، وسيكارة مؤرثة ، وضحكة مقموعة ، معناها ” تعيش وتأكل غيرها ” وأن قطيرات دم زائدة ، لا تميت الجسد ولا تقلب الدنيا . آمنت بأيمان وما جاءت عليه ، وصار حبوري ينمو وحسي بالذنب يتآكل ، وقراري بلبس أمسية صاحبي ، لم يصبني بوخزة ضمير ، خاصة أن الساعة المقبلة ، ستلد مصائب جديدة ، منها نفاد جرة غاز الطبخ ، وانقلاب الصحن اللاقط المزروع فوق سطح الدار ، ما حوّل تلفزيون العائلة ، الى وشّة وأزيز يشبه ما يحصل ساعة تستفرد مليون ذبابة وذبابة ، بجثة قطة نافقة منفوخة فوق زبل الفقراء . في عصرية اليوم التالي ، رنّ هاتفي ، فأنرسم فوق شاشته المغبشة ، اسم صاحبي . واصل الهاتف طنينه ، وواصلت عيناي ، غسل قصائد خلّي وخليلي ، وعتبه وزعله وغضبه ، لكن ماذا أصنع أيها الحميم النبيل العذب الشاعر المدهش ، وحرارة الولد الجميل نؤاس ، ما زالت عالية ، كما لو أنها سلة جحائم ، أو تنّور خبز عتيق ؟