أُحاول الليلة تنزيل بعض أثقال الذاكرة الموجعة. سلة أرقام هواتف وبرائد إلكترونية وصفحات تواصل سهلة اسمها فيسبوك. بعض تلك العنوانات مدونة على ورقٍ بائد، وأخرى ما زالت مركونة بمخّ الكمبيوتر والتلفون. مات أصحابها وبقيت أرقامهم يابسة لا صريخ لها ولا مثقال نفس. تلفون عبدالستار ناصر في كندا، الذي لم يستعمله سوى مرة واحدة في رحلته النهائية إلى الله.
يوم مات الحكواتي ستّوري، قالت بثينة الناصري إنّ رحلته هذه المرة لن تحتاج إلى فيزا أو جواز سفر. تلفون لمواطن كندي آخر من جذرٍ رافديني اسمه محمد شاكر السبع، وكان زاهدا جدا فيه، خشية تعكير عزلة سعى إليها حتى باب القبر.
رقم هاتف أرضي دمشقيّ مالكهُ عبدالوهاب البياتي، ظلّ نائما بدفتري نومة عبدالوهاب في ليلة من ليالي حانة الياسمين بربة عمّون.
برائد إلكترونية وأرقام هواتف نقّالة وأرضية، لكمال سبتي ورياض قاسم وعبداللطيف الراشد وعقيل علي وعبدالأمير جرص وخضير ميري ومحمد مبارك وعبدالرزاق عبدالواحد وعبدالجبار الدراجي ومحمد غني حكمت وغازي العبادي ومحمد مهرالدين وقاسم محمد وكزار حنتوش ورعد عبدالقادر ومؤنس الرزاز ومحمد طمليه وسعاد دباح وحكمية الجرار وزياد قاسم وقصة عنوانها غسام مفاضلة، وزياد العناني ورفقة دودين وعبدالله رضوان وعبدالله حمدان وزكي أبو زيد الطيب صاحب مقهى السنترال.
من بين الموتى الأفذاذ، ذهب جان دمّو من دون أن يترك خلفه أيّ رقم أو عنوان. تلفون فؤاد سالم الذي أستعيد معه ليلة الركضة الدمشقية المزفوفة بلهاث كريم الزيدي، وخوفه من شرطيٍّ مزروع بنهاية زقاق مظلم إلّا من بقيا خرير بردى العليل.
بباب الفيسبوك الحديث، شهقتُ وأنا أمحو صفحات محمد الجزائري وعبدالأمير علوان ونضال الليثي.
في ما باد من السنين، لم تنقطع محاولاتي المجنونة آخر الليل، للاتصال بواحد من هؤلاء الراحلين، خاصة أولائك الرحماء الذين شاركتهم رنين الكؤوس الطيبة، وآهات أم كلثوم ورقّ الحبيب، وحليم الذي يتمنى في واحدة من عظيماته الكثيرات، أن تأخذ الناس عينيه لترى بهما وجه معبودته المذهل كما خلق بذاكرته أول مرة.
أشعر الآن براحة وهدوء وبهجة وسلام وطمأنينة، بعد أن هبط من فوق ظهري وقلبي، حشدُ توابيت وشواهد مقبرة، وظلّ العراق المريض المحتضر، يلبطُ فوق صفحتي الشاسعة.