دأب القاص الراحل محمود عبدالوهاب على التأمل الطويل في نصوصه القصصية قبل نشرها للناس، وكان ذلك أحد الأسباب في إنتاج عدد قليل من القصص المنشورة التي لم تتجاوز مجموعة واحدة طيلة حياته، لكنه كان في حياته الخاصة منشغلا بحوار أدبي دائم مع أدباء مدينته وغيرهم من أجل إنتاج قصصي جديد، وكان حين ينشر قصة جديدة يتحرّى بحرص كبير وقعها على المتلقين خصوصا الأدباء منهم.
حياة القاص الراحل محمود عبدالوهاب كانت منذورة في أغلب أيامها للقصة بشكل خاص ويبدو ذلك واضحا في أغلب قصصه، لقد كان حريصا على التأمل في بنيتها والتجديد في شكلها، وعلى وفق ذلك فإن قراءة إحدى قصص هذا القاص، تعطي الناقد إمكانية الكشف عن هذه النزعة التجريبية في لغتها المكثفة المضغوطة وأجوائها الخاصة.
الكتابة والتشكيل
وهنا، سنتخذ من قصة “يوم في مدينة أخرى”، المنشورة في مجموعته “رائحة الشتاء” أنموذجا لتجريب مستويات بناء الحدث وجريانه متزامنا في قصة قصيرة. كتبت القصة على وفق ما دوّنه القاص في نهايتها في ديسمبر 1970، لكن الأجواء المناخية في القصة تدل على أنها كتبت في تاريخ أبعد من ذلك فأجواؤها تشي بفصل الصيف من خلال الحوار والمشاهد الخارجية التي تحيط بالمطعم، وبهذا المعنى نرى أن القاص ربما استغرق عدة أشهر في كتابتها، الأمر الدال على عادة من عادات الكتابة عنده، فهو لا ينجز قصة بشكل سريع.
يعكس زمن الحدث في القصة أنها جرت في شهر يوليو أو أغسطس وهي الأشهر الحارة والرطبة في مدينة البصرة، كما أن انتقالات عين الكاميرا من داخل المطعم إلى خارجه، أو انتقالها في تحرياتها داخل المطعم، يكرس جوا من العزلة والوحشة، يتضح ذلك من تلك المنتجة باستثمار وجهات نظر شخصيات القصة: الشاب صحبة زوجته أو حبيبته وهما يدخلان المطعم ثم عند التفاته إلى الخارج يظهر أمام عينيه “رصيف أجرد، ميدان عام تتوسطه مظلة شرطي مرور، صف طويل من السيارات، موقف باص المصلحة.. وليس هناك ما يشير إلى حركة الناس بسبب هذا الجو الخانق، في نفس هذه اللحظة تسجل عين الكاميرا لقطة عن الرجل البدين الجالس في المطعم وهو ينظر إلى لوحة جدارية كبيرة، رسم فيها “عقاب ضخم، منقض على ثلاثة طيور صغيرة مذعورة وعيناه جاحظتان تقدحان لونا أحمر غاضبا، وجناحاه قاتما السواد، بينما مالت ريشة ذيله مع جسمه المائل المنقض”.
لعبة التكرار
في القصة تكرار لمشهد دخول الشابين -الرجل والمرأة- إلى المطعم في معظم مقاطع القصة المرقمة بطريقة فنية مقصودة وهذه التقنية ممنتجة بشكل خاص لإنتاج مغزى بنائي وجمالي ودلالي في آن واحد، ونحن نلاحظ أن تقنية التكرار هنا تمثل إنجاز (تجريب) القاص الذي سعى إليه في هذه القصة.
وقبل الدخول في تفصيل وجهة نظرنا عن هذا التكرار نقول إن الحكاية في أية قصة من القصص القصيرة للعديد من القصاصين تحمل زمنها الخاص الذي يتجه من الحاضر إلى المستقبل أو من الماضي إلى الحاضر بحركة تتابعية تعتني بتفاصيل الحدث ولا يمكن لهذه الحركة أن تتوقف أو تشير إلى أحداث مجاورة لها تسرد في نفس اللحظة، كما هو الحال في واقع الحياة حيث تجري الأحداث متزامنة مع بعضها، ذلك لأن السياق الخطي للكلمات لا يسمح بذلك إلا بتقنية متفرّدة في السرد، ويؤكد تطور أشكال الخطاب في القصة القصيرة الحديثة ذلك الأمر حين يعطي إمكانية قطع تسلسل الحدث والعودة إلى الماضي أو الحاضر وتفكيك الحكاية بالشكل الذي ينتج خطابا قصصيا لا يعتمد دلالة الحكاية بل إنه يتجاوزها إلى آفاق أخرى.
في هذه القصة “يوم في مدينة أخرى”، يستثمر القاص تقنية تكرار استهلال القصة لإنتاج خطاب قصصي جديد يعتني بمستويات السرد وجريانه متزامنا دون فواصل، وينظم تكرار الاستهلال ذلك “حين ضغط الرجل بطرف إصبعيه على حافة الباب الزجاجي الدوار (….) دخلت هي أمامه ودخل هو وراءها بتأن وحين لامس ذقنه هواء الصالة المحصور المشبع برائحة الأثاث والأخشاب حك ذقنه بسبابته وابتسم”.
صور متتابعة
بعد ثلاث صفحات، يكرر هذا الاستهلال من عبارة “دخلت المرأة أمامه” إلى عبارة “شقا طريقهما بين صف الموائد الساج الصقيلة والمقاعد الجلدية”، بالتزامن مع حوار قصير بين رجلين كانا جالسين قبل دخول الرجل والمرأة مشفوعا بالتفاتة أحد الرجلين إلى المرآة “وقعت عيناه على صورتيهما في المرآة الرجل إلى اليسار والمرأة أمامه وقد ظهر إلى جانبهما في المرآة صبي المطعم يقضم صمونته”، وهذا يكرر تزامن حدثين في آن واحد: دخول المرأة والرجل متزامنا مع حديث الرجلين أما ظهور صورة صبي المطعم مع دخولهما فهي إضافة تبلورها المرآة لإنتاج مغزى إيديولوجي يحاول القاص تمريره في مثل هذا الجو المشبع بالترف والغنى الواضح.
في القسم الثالث من القصة، لقطة يضيفها القائم بالسرد نشاهد فيها الصبي وهو يقضم صمونته “ويمضغ عجينتها بين أسنانه كان الزبائن يتقاطرون داخل المطعم (…) وإلى جانب الحاجز الخشبي جلس رجل يمضغ طعامه بصبر نافد”، بالتزامن مع تكرار دخول الرجل والمرأة بتحريف بسيط لاستهلال القصة.
نستنتج من ذلك أن القاص الراحل وفي فترة مبكرة نسبيا فكر في كتابة قصة بمستويات متنوعة تنقض التتابع الزمني الذي يفرضه التتابع الخطي للكلمات في السياق لصالح تزامن أكثر من حدث أو مشهد باستثمار تقنية تكرار الاستهلال ومنتجته مع عبارات أخرى كإيقاع متكرر يضبط تزامن الأحداث في القصة في آن واحد.
وبذلك استطاع السارد أن يحقق إنجازين: بنائي وجمالي اتضحا في تقنية التكرار في حين يتضح الإنجاز الدلالي بظهور صبي المطعم الذي يقضم صمونته وسط جو أرستقراطي مرفه وكذلك في إضاءة مشهد مشابه عن رجل الحاجز الخشبي “يمضغ طعامه بصبر نافد” متضامنين مع مشهد اللوحة المعلقة في المطعم التي تكثف مغزى دلالي عميق يدشنه “عقاب ضخم، منقض على ثلاثة طيور صغيرة مذعورة وعيناه جاحظتان تقدحان لونا أحمر غاضبا، وجناحاه قاتما السواد، بينما مالت ريشة ذيله مع جسمه المائل المنقض” بالتضامن مع نهاية القصة التي تشي بحياة قاحلة “كانوا وهم في مقاعدهم مرهقين صفر الوجوه وكأنهم يشكون نقصا من النوم “