محمود البريكان .. راهب الشعر الخالد وديع شامخ

مهاد
في عام الفيل ، كان للشعراء معلقاتٌ مقدسة ، وفي عام الخوف ُقتل الشاعر محمود البريكان
كان الشاعر ” اليوت ” يشمّ رائحة الموت في نيسان ..
وكان السياب يشمّ الموت كلّ يوم
ولكن البريكان إختار موته في شباط

وكانت أشرّ ميته لشاعر في 27 شباط .. 2002
***
في تسعينيات القرن الماضي ، والحصار يطحن قامات العراقيين ويعصر أعمارهم في طاحونتة الدرداء .. كنّا مجموعة من شباب البصرة ” جابر خليفة جابر ، كريم جخيور ، عزيز داخل ، كامل فرعون ، طه جبوري ، وديع شامخ ” نجتهد في عقد إجتماعات دورية في بيوتنا لمناقشة موضوعات تخص الادب والفكر والابداع عموما، ورغم كلّ المنغصات الواقعية أو المتخيلة من قبل سلطات النظام كنّا ننجز عملنا بمتعة وتحدٍ نوعيين .
كنتُ أسكنُ يومها في منطقة الجمعيات ” حي الخليج العربي ” وكان الدور عليّ في إلقاء محاضرة عن ” قصيدة النثر .. تاريخها ، جذورها العربية ، الغربية .. نماذج تطبيقية ” ، وبعد إنتهاء الجلسة التي إستمرت اكثر من ساعتين وفرح الأصدقاء بجهدي .
شعرت بالحاجة الى زيارة الشاعر الكبير محمود البريكان لسبب ،لا اعرفه حتى هذه اللحظة،
البريكان الذي يسكن في منطقة الجزائر في عشار البصرة ، والتي لا تبعد عن بيتي سوى بضعة كيلومترات .. ولكنني لم ازره أبدا ، رغم أني من المدمنين على قراءة ما تناثر من بوحه هنا وهناك .. وتقصي أخبار صمته المهيب في زمن ” الحناجر الطرية ” والمعدّة تماما للطنين نيابة عن الذباب والفحيح بدلا من الأفاعي والتثعلب بدلامن الثعالب والخرير بدلا من نقطة الحياء .
***
لدّي عيب ظاهر- آنذاك- لا استطيع الفكاك منه حتى الآن ، وهو الخجل حدّ اللعنة من الأسماء المشهورة والتقرب إليها ، ومن هذا الداء السلبي حرمت نفسي من مرافقة الشاعر رياض أبراهيم الى بيت البريكان ، حيث جاء الراحل رياض الى البصرة وإستطاع بجهد خارق أن يخرج الشاعر من صمته ويحصل على ملف شعري مهم نشر في مجلة الأقلا م العراقية آنذاك .
يومها جاءني الصديق جابر خليفة ومعه الراحل رياض ابراهيم الى ” محل عملي ” بناء على دعوتي لهما للغداء .. وهكذا قضينا وقتا ممتعا دون أن أشير الى رغبتي بلقاء البريكان
يا لهذا الخجل ” البصري ” الخارج من صلب الحب ..
***

غادر الجميع المهرجان وبقى البريكان وحده يرسم لمملكته أفقا ويلقم الفنارات ضوءا بعد كل ّ عتمة
كان البريكان شاعرا متأملا ، أقرب منه الى الموت من الحياة ..
معتكفا كراهب
يتلصّص على الحياة من كوة في روحه ويحدس ما سيأتي
شاعر رؤيا ، في زمن الحيطان الناطقة بالشعارات …
أعددت ُ مائدتي وهيأت ُ الكؤوس
متى يجي ء
الزائر المجهول ُ ؟
أوقدت ُ القناديل َالصغار
ببقية ِ الزيت المضيء ِ
فهل يطول ُ الانتظار ؟
أنا في انتظار سفينة الاشباح ِ تحدوها الرياحْ
***

ذات صيف ومعي أصدقاء الروح ذهبنا الى بيت الشاعر الكبير واللغز المُحير والمعلم النبيل .. محمود البريكان في ” معقله”
هناك رأيت ” أبو ماجد” بدشداشة بيضاء وعينيه المغلفتين بالريبة والمحبة معا ..
قطعنا الفناء الى باحة الاستقبال ، وأرخينا سدولنا بترف عالٍ
” كان بيت الشاعر خاليا من أي آثر للمرأة “
جاء البريكان بالشاي وجلس بقربي .
قال لي بحب : ماذا تكتب ؟
قلت: محاولا ت في النثر
وتركت ُ البريكان في مهب الأصدقاء
وأنا أتذكر سهوي الكبير في محاضرتي عن قصيدة النثر،
لقد كانت حياة البريكان قصيدة نثر حقا
***

لم ازره بعد هذا أبدا ، لم أكن من مريديه
أخاف من عدوى نصه
هو ذهب للموت وأنا أواصل الشعر قدرا

 

Facebook
Twitter