كما خمّن فقد كان أبو أسامة طيب القلب نقي السريرة رغم الصرامة التي تبدو على ملامح وجهه المتغضن ‘اذ رحّب به ودعاه الى الجلوس في مكتبه الأنيق ‘وخلال دقائق قصيرة أوجز له طبيعة عمله وأومأ الى عامل الخدمة باحضار شايين ساخنين ‘وأشار عليه ان يتخذ من الغرفة الخشبية المقابلة للمكتب مكاناً دائمياً لعمله ‘وبتهذيب جم لم يعقب بكلمة واحدة احتراماً لأبي أسامة المدير المفوض للشركة وشقيق مالكها المقيم في بيروت …ولم يصدق ما يجري ولم تسعه الأرض من الفرحة بعمله الجديد ‘ دلف على عجل الى الغرفة التي أختيرت له ‘ ورأي منضدة حديدية مستطيلة وعلى جانبيها ثلاثة كراسي بلاستيكية يجلس على واحد منها رجل بشارب كثّ وساعدين مفتولين ‘ فألقى التحية الصباحية عليه وقدّم له نفسه ‘ فرحب الرجل به ودعاه الى الجلوس على احد الكراسي … _ الله بالخير _ الله بالخير _ أهلاً بك في شركتنا ‘ ونأمل ان تقوم بواجباتك على أحسن ما يرام .. لعلك تكون معنا في مشاريعنا القادمة في البصرة .. شكره على حسن الاستقبال ‘ وأخبره بأنه ما زال طالباً في الخامس الادبي المسائي ولظروف العيش الصعبة أختار العمل نهاراً والدراسة مساءً … _لاضير ‘ فان عملنا هنا يستغرق اكثر من سنتين ‘ وحتماً فان الشركة ستراعي ظروف دراستك وتأخذ بنظر الاعتبار مستقبلك … _ بارك الله فيك … ياعم . _ ما … أسمك ؟ ومن اي مدينة أنت ؟ _ من سدة الهندية وأسمي … قاطعه قائلاً : هل ما زال السمك وفيراً في السدة ؟ _ نعم .. الخير كثير ان شاء الله … (ربما يريد أن ادعوه على وجبة سمك سداوي طازج ولكن هل بهذه السرعة يرفع الكلفة بيننا ) _ هل والديك على قيد الحياة ؟ _ نعم ‘ الوالد يمتهن الزراعة في مشروع المسيب ‘ والوالدة إمرأة طاعنة في السن ‘ يضايقها الربو القصبي منذ سنوات : وعندي ثلاثة أشقاء أكبرهم علي يعمل كاسباً ‘ ومنير في الجيش بصفة نائب عريف مضمد وثالثهم الصغير خضر مازال طالباً في المتوسطة .. _ ما شاء الله !! ما شاء الله !! وراح في سرّه يقلب اسئلة الرجل ليستخلص منها ما يريد ان يستكشفه _ ولكن لماذا كل هذه الأسئلة التي لا علاقة لها بالعمل ؟ _ استفسر عن سجلات العاملين في الشركة ولما اشار إليه الى أحد الدواليب الحديدية ‘ اخرج تلك السجلات وراح يقلب صفحاتها ‘ فتعّرف في السجل الأحمر الكبير على أسماء وعناوين منتسبي الشركة القادمين معها من مقرها في البصرة … فهذا السجل كما اتضح له خاص بملاكاتها الدائمية ‘ فأسم عبد الرحمن الصباح ( أبو أسامة ) يحتل التسلسل الأول بين الأسماء ‘ يليه [ الأسطوات ]‘ فهذا محمد أبو العبد لحام أول ‘ وهذا شر شاب مجهول وايرمن مكائن و..و… ولفت انتباهه ان هذا السجل يخلو من حقل أجور العاملين ‘ وتأكد فيما بعد ان اجور هذه الفئة متحركة وقابلة للزيادة بأستمرار ‘ وفكّران يستفسر من الرجل الذي يقتسَم معه الغرفة الخشبية والذي أمطره بسيل من الأسئلة في الصباح الباكر عن بعض مشاريع الشركة التي نفذتها من قبل ‘ لكنه صرف النظر عن ذلك ‘ واكتفى بتقليب الأوراق التي احتواها ذلك السجل الضخم ‘ ولم تعد فيه رغبة للأطلاع على بقية السجلات …( مالي … ومالها ؟) كانت مهمته تنحصر في نقل محتويات بطاقة العمل اليومية لكل منتسب في الشركة الى السجل الأخضر ‘ مؤشراً الحضور والغياب وعدد الساعات الأضافية التي تخص كل عامل … وفي نهاية الأسبوع يقدم خلاصة فيها الى السيد عبد الرحمن الصباح ليطلع عليها ويأمر الحسابات بصرف مستحقات اصحابها ‘ وغالباً ما يكون يوم الخميس مدعاة فرح وسرور المنتسبين ففيه يحصد كل واحد ثمر أتعابه ليوفر لعائلته احتياجاتها ومستلزمات ادامة حياتها .. وعندما أعطاه المحاسب اجرته الأسبوعية التي وضعها داخل مظروف أسمر اللون ‘ لم يتمالك نفسه من السعادة التي غمرته وهو يقرأ الورقة الصغيرة التي دونت فيها تفاصيل اجوره : 4200 اربعة دنانير ومائتا فلس اجرة الايام الستة الماضية و 1500 دينار ونصف الدينار أجرة يوم الجمعة و 900 تسعمائة فلس قيمة الساعات الاضافية وراح يقلب الاوراق النقدية باصابع مرتجفة ‘ اذ لأول مرة في حياته يرى (النوط ابو الخمسة ) الذي اصبح من حصته وثمن اتعاب اسبوع من العمل اللذيذ .. في المساء وضع في يد أمه خمسة دنانير وابقى لنفسه ديناراً وستمائة فلس ‘ أعطى منها خمسين فلساً لشقيقه الصغير ‘ وانطلق الى دكان محمد حسين ليجلب كيلو سكر وربع شاي وعلبة سجائر لوكس لوالدته التي تدخن بنهم رغم الربو القصبي الذي تعاني منه ‘إبتهجت العلوية بهذا الرزق الحلال وأوصته ان يستعد للدراسة التي ستبدأ بعد أيام قليلة ‘ وأمرته ان يعود مرة اخرى الى دكان محمد حسين ليجلب مثل ما جلبه في المرة السابقة ولما استغرب أمرها سألها : أيتها العزيزة قبل دقائق كنت قد جلبت السكر والشاي والسجائر .. فلمَ هذا التبذير ؟ ابتسمت قائلة : اذهب فخالتك ام شاكر لها كثير من الأفضال علينا ‘ وهي تستحق ان تتذوق من راتبك ما يدخل الفرحة الى قلبها .. حسناً يا أمي نعم الرأي السديد وبارك الله فيك فأم شاكر إمرأة فاضلة ليست كباقي النسوة ‘ ( تستاهل ماء العين ) وما هي إلا دقائق حتى جاء بما امرته به أمه ‘ وهو يشعر بالأمتلاء والزهو….
ولم ينم ليلتها فقد أشبع أمه وأخويه كلاماً عن ابي أسامة والشركة وطبيعة عمله فيها ‘ واقترح على والدته ان يقيم وليمة لبعض العاملين معه في الجمعة القادمة ‘ لتترسخ علاقته بهم ولابد من ان ذلك سيعود عليه وعلى العائلة بالنفع الأكيد . فالسمك وفير ما شاء الله .. ولا تكلف الوليمة سوى بضع دنانير لكن فائدتها ستكون كبيرة رحبت الأم وعلي وخضر بمقترحه ‘وقالوا له مجتمعين : توكل على الله … فلقد اصبحت رجلاً تعرف الأصول وما عليك إلا ان تستعد للوليمة ‘ فمثل هؤلاء يستحقون اكثر من ذلك … طرح الفكرة على ضاري الخميس باعتباره اقرب العاملين الى نفسه ‘ ولولاه لما حصل على العمل في هذه الشركة ‘ فوقعت الفكرة عليه موقعاً حسناً .. وابلغه ان تكون الدعوة مختصرة على مجموعة منتقاة سيكون أولهم عبد الرحمن الصباح بالتأكيد فهو كل شيء في الشركة ‘ ولابد من ان يكون معه (ابو العبد) ‘ وشرشاب وزهدي فهؤلاء كما يرى وكما هو واقع الحال أركان الشركة واصحاب القرارات المؤثرة فيها، _حسب ما ترى يا أبا خميس !! ولكن عليك تقع مهمة توجيه الدعوات وابلاغي بالموافقة قبل وقت مناسب لكي تستعد الوالدة لتكون الوليمة لائقة بالضيوف .. _ سيكون لك ذلك .يا رجل !! اتسعت دائرة علاقاته داخل العمل ‘ وصار محط انظار العاملين الذين يزيد عددهم على المائتي منتسب ‘ بعضهم أصبح يتودد إليه ‘ وبعضهم يذيع عليه اسراره الشخصية ‘ومرة سأله ابو العبد : هل انت متزوج ؟ أجابه بالنفي .. _ ولماذا ؟ _ مازلت طالباً في الخامس الأدبي ‘ ولا أملك مالاً ولا ملكاً ‘ فالبيت مستأجر ‘ والوالد لا يملك من متاع الدنيا غير التدرن الرئوي وقطعة ارض زراعية في مشروع المسيب لا تدر عليه ما يمكنه من الانفاق علينا .. _ الله …كريم !! _ الله …كريم !! وعندما أخبره ضاري الخميس بموافقة عبد الرحمن الصباح على تلبية دعوته ‘ استبشر كثيراً وتمنى لو ان الأيام تطوي ساعاتها بسرعة لكي تكون الجمعة القادمة غداً ‘فيهنأ وعائلته باستضافة اصحاب الشأن والمقام العالي في شركة صباح اخوان التي بفضلها أصبح القيمر فطور العائلة كل صباح ‘ ولم يعد الخبز فطورها المعتاد ‘ وفي مساء الجمعة اشترى سمكتين كبيرتين من علوة رحيم عبد الشبيب اذ لم يعد باستطاعته ان يذهب الى علوة استاذه القديم صاحب علي العبدون حياءً من تركه العمل معه دون استئذان ‘ وخصم له ابو ستار من سعرهما بحدود نصف دينار ففرح لهذا التكريم المتوقع … وضع السمكتين على مقدمة حوض ماء الغسيل ‘وقال لأمه : توكلي على الله ‘ فالضيوف سيحضرون في الثامنة مساء وما عليك إلا ان تبيّضي وجوهنا امامهم . شكر المدعوون العائلة على حسن ضيافتها ‘ وهمس ضاري الخميس في اذنه : ان ابا اسامه ممتن جداً لك على هذه الوليمة الفاخرة … غادر الضيوف السدة الى مقر اقامتهم في المسيب التي لا تبعد سوى سبعة كيلو مترات عنها ..
وظل هو .. والعلوية .. وعلي .. وخضر .. مزهوين بما حققوه من ضيافة كريمة لهؤلاء القادمين من اقاصي الوطن ‘ ولم يكف عن الحديث المسهب عن اخلاق وسجايا زملاء العمل … ولم ينتبه الا على صوت الحاج جمعه وهو يطلق اذان الفجر بصوته الرخيم لتصحو السدة ملبية نداء الرحمن .. ويبدأ الصباح اشراقته الجميلة … (يتبع في العدد المقبل).