توارى خلف التلّة الترابية التي اعتاد الجلوس على خدها الأيمن معتزلاً أقرانه تفادياً لثرثراتهم أثناء مراجعة دروسه والتحضير للأمتحانات ، اذ لم يعد يحب الاختلاط بهم بعد ان اقتربت السنة الدراسية من نهايتها ، وهو الذي قرر مع نفسه ان يستثمر جل وقته لكي يحصد النجاح بمعدل يؤهله للقبول في الجامعة وضمان مستقبله الذي خطط له بعد ان اضاع سنة من عمره لأسباب خارجة عن ارادته ، أفترش قطعة القماش التي خاطتها له أمه في السنة الماضية ونثر عليها كتبه ودفاتره ، ووضع الى جواره علبة سجائره وبضع حبات من التمر الزهدي الصلب وقطع الخبز الأسمر ، التي يتناولها كلما شعر بالجوع ، كانت بستان الحاج يوسف سماوي مزدانة بأشجار اليو كالبتوس والسدر والنخيل والنارنج ، وتمتد ألواح البرسيم من نهاية مجرى الناعور حتى الحد الفاصل مع سكة الحديد المهملة ، في حين تمتليءُ المساحة المتبقية بالأعشاب الطفيلية التي تتباين أطوالها وأنواعها ، وبين آونة واخرى تختلط أصوات حيوانات الحاج بسقسقات الطيور التي تحدث ضجيجاً يقض هدوء البستان ويزعج الطلاب المنتشرين بين تلالها وسواقيها وتحت ظلال اشجارها الباسقة ، ومنذ اليوم الأول الذي وطأت اقدامه فيها لاحظ من بعيد عيون صاحبه فارس ترصد حركة إمرأة فارعة تلف عباءتها حول خصرها وتقوم بتشذيب السواقي من النباتات الضارة وغالباً ما كان يفتعل الأعذار للأقتراب منها ومحاولة التحدث معها والتحرش بها ولم يكن يعلم ان تلك المرأة كانت تحاول من جانبها ان توقع فارس في شباكها إلا بعد ان أخبره صاحبه بأسرار علاقتهما ، وذات مرة لمحها تقدّم لفارس قدحاً من اللبن الرائب ، ومنذ تلك اللحظة قرر ان ينصرف ذهنه عن مراقبتهما والأنغمار في مراجعة دروسه وعدم اضاعة وقته في أمور لا شأن له بها ، لكن خشخشة الأغصان المتيبسة لفتت انتباهه الى مصدر الصوت فرفع رأسه ليتبين ما يجري وها له مرأى زميله حامد الذي كان يراود حمارة في بطن ساقية موحلة ، ولم يطق ذلك المشهد فأطلق صوتاً خفيضاً يؤنبه فيه على فعلته المستهجنة ، ومع ذلك فأن حامداً لم يعره ادنى أهتمام ومضى في محاولته وكأن البستان على سعته يخلو من العيون الآدمية التي ترصد كل شيء داخله ، ولولا حكمته وبرودة أعصابه لجرت معركة دامية بينه وبين حامد جراء حملقته واصراره على ارتكاب فعله الشائن ، الذي سيكون بلا شك على لسان من يصل الى اسماعه ، ومع انه شاهده متلبساً إلا ان حامداً أقسم اغلظ الأيمان على براءته وقال بعصبية وامتعاض : ارجوك ، كفّ عن اتهاماتك الباطلة وإلا فستكون العاقبة وخيمة عليك ، ولست مستعداً بعد الآن لسماع هلوساتك واكاذيبك المفضوحة ، ومنذ هذه اللحظة لا تحسبني في عداد اصدقائك ، ولا تحاول إلباسي لباسك … انسحب كل واحد الى مكانه خشية انتشار الفضيحة ، واكتفى حامد بمغادرة البستان ، في حين تشاغل هو بتقليب صفحات كتاب التاريخ الذي جلبه معه في هذا الصباح على أمل مراجعته والانتهاء من حفظ فصوله المهمة ، وعند الساعة العاشرة قرر العودة الى البيت بعد ان ذهب وقته من غير أن يستثمره ، وترك في مكانه حبات التمر وقطع الخبز التي جلبها معه ، اذ فقد شهيته بتناولها بعد ما جرى من مشادة كلامية عاصفة ، وفي البيت وضع دفاتره وكتبه في مكانهما وجلس متقرفصاً الى جوار فراش أمه التي اشتدت عليها نوبة الربو المزمن ، ولكي يعيد توازنه وينسى احداث بستان الحاج يوسف اقترح على والدته اصطحابها الى طبيب المستوصف الوحيد في المدينة ، إلا انها رفضت مقترحه قائلة : ــــ ما فائدة الذهاب الى الطبيب يا ولدي ؟ ــــ لعله يعطيكِ علاجاً سريعاً يخفف من اشتداد الربو … ــــ لقد جزعت من مراجعة الأطباء ، دع الأمور على الله سبحانه وتعالى … ــــ ونِعمَ بالله … ــــ هل تناولت شيئاً من الطعام ؟ ــــ الشيء القليل !! ــــ لماذا ؟ ــــ لست بحاجة إليه !! ــــ وهل راجعت دروسك اليوم ؟ ــــ الحمد لله … ــــ ومتى ستعاود الدراسة ؟ ــــ بعد الظهر !! ــــ أين ؟ ــــ في بستان الحاج يوسف سماوي !! ــــ ليوفقك الله يا ولدي !! ــــ شكراً لكِ وشافاكِ من كل داء … سأنام قليلاً وارجو ان توقظيني بعد الأذان .. ــــ ان شاء الله … استلقى في فراشه ، وحاول ان يغمض عينيه إلا ان الأرق داهمه واقضَ مضجعه ، وأستذكر ما فعله حامد وما دار بينهما من حوار حاد ، وكيف ان شجاراً ساخناً تفاداه بحكمته وبرودة أعصابه كاد ان يقع ، وبينما هو غارق في استرجاعاته سمع ضربات خفيفة على الباب ، نهض واذا بالملازم لطيف يسلمه رسالة من شقيقه منير ، تحسس المظروف فوجده منتفخاً ، فضمن ان اوراقاً نقدية داخله ، شكر الملازم الذي رفض الدخول الى البيت وتناول الشاي معتذراً بحرصه على ايصال رسائل اخرى الى اصحابها ، وبفرح غامر اخبر والدته بوصول رسالة من منير ، فض مظروفها فوجد داخله ورقة نقدية فئة العشر دنانير اعطاها لوالدته التي رجته ان يقرأ رسالة ولدها العسكري في شمال الوطن . استجاب لرغبتها قارئاً: الوالد الحنون .. الوالدة الحنونة .. الأخوة الأعزاء أقبلكم فرداً فرداً وادعو لكم بالعافية والسعادة .. انا بخير … قريباً سأكون عندكم … وأسأل عن صحتكم واحوالكم …لا تقلقوا … فالوضع في منطقتنا هاديء تماماً … الى لقاء .. ……….. ولدكم المطيع منير دهوك / معسكر آلوكه اخذت والدته الرسالة قبلتها ووضعتها تحت وسادتها الصوفية وقالت متنهدة : متى أفرح بزواجك يا ولدي ؟ وأرى أولادك يملأون البيت ضحكاً وصراخاً ؟ ملأت الأبتسامة وجهه متوهماً ان العلوية تسأله ، لكن قطعت خيالاته قائلة : أمامك وقت بعيد لتكون أباً ، وسنفرح بك بعد زواج علي و منير ، اذا أمدّ الله في اعمارنا ـــ عمركِ طويل يا أمي ، ولا تشغلي بالك في مثل هذه الأمور الآن ، فأمامي سنوات الكلية والعمل والأدخار وربما السفر الى الخارج لأكمال الدراسة العليا والعيش هناك بعيداً عن المتاعب والخوف واسئلة دائرة الأمن … ـــــ يوه يا أمي …. الله كريم !! ورأى ان ينهي هذه المحاورة العقيمة مع والدته التي تتمنى له كل الخير ، وان يجعل من يومه هذا عطلة أجبارية عن مراجعة دروسه ، بفعل ما حدث له في بستان الحاج يوسف سماوي مع صاحبه حامد ، وقرر ان يستثمر الوقت في محاولة كتابة قصيدة عن فوزية التي ضيعها وضيعته في لحظة طيش رعناء …. وجرّب هكذا : هبطت والكَحلُ يشاكـــس عينيها كملاك أضنته تباريحُ العشـــــقِ يا همّي النازل في النفـــسِ لماذا أسرجتَ مـــلامــات الــــصبرِ أرأيت حبيباً دنّس أسرار طفولته وتــمادى ………. في دربٍ شائكةٍ ملعــونـــهْ أرأيتَ أغثني ….؟ من أين سندخل بابَ الودِ ونضىءُ فضاءَ السُهدِ أرأيـــتَ ………… ؟ )) ردي يا زهو الأحلام ربيعي وأعيدي بهجة أيامي فأنا معتذر حَد اللعنةِ عن تلك الأيامِ مغفرةً يا نور العين إلى مَ جفاكِ؟ معذرةً …مغفرةً لن أرضى يا نور عيوني .. إلاّ برضاكِ .. ولماّ اكمل مانزفه من سطور قليلة على بياض ورقة الدفتر فكّر في كيفية ايصال قصيدته هذه الى صاحبتها لعلها تعيد ما انقطع من وصل بينهما ، وحين عجز عن ايجاد الوسيلة الأمينة لذلك ، مزّق الدفتر كلّه ورمى به في التنور وصمم على ادامة صلته بأم وجدي التي منحته كل شىء من غير شروط ومخاوف … والى الأبد ( يتبع في العدد المقبل)……….
- info@alarabiya-news.com