صاحب الامتياز
رئيس التحرير
عبدالرضا الحميد

مجرد إشتباه !! صفحات من كتاب الأيام الغابرةلابــــد … مـــن مــــوعـــد آخــر !! – شكر حاجم الصالحي

أغلقت المدارس أبوابها وانقطع الطلاب عن الدراسة استعداداً لخوض الامتحانات النهائية ، واستبشر الجميع خيراُ بما ستسفر عنه الأيام القادمة وفي صباح يوم مشمس أبلغ أبا اسامة برغبته التمتع بأجازة اسبوع تسبق موعد اجازة الاسبوعين التي أمر بها ذات يوم بأجر تام ، ولم يمانع بذلك وزاد في تكريمه بصرف أجرة اسبوع قبل استحقاقه ، مقرونة بتمنيات الموفقية والنجاح في البكلوريا ، والسماح له بمغادرة عمله قبل انتهاء دوامه المقرر بساعتين ، ولم يصدق ما حدث إلا حين جاءه محاسب الشركة بمظروف اسمر دسه في يده وقال : هذا هو راتبك ، توكل على الله ..ولم يستطع ان يشكره فقد تلعثم لسانه من شدة الفرح الذي غمره به أبو أسامه ، جمع كتبه ودفاتره المدرسية التي توافقه في العمل وتوجه صوب الأدارة ليلقي التحية مودعاً من فيها ، واثناء عودته صادفه ضاري الخميس الذي قال : أين أنتَ يا أخي ، منذ ربع ساعة وأنا أبحث عنك لأيصالك الى السدة بناء على توجيه السيد المدير ، وفي الطريق اقترح على ضاري ان يتناولا وجبة طعام سريعة في مطعم أبو العيس الشهير بتقديم المشويات ، فأستجاب أبو سبع لرغبته مشترطاً ان تكون الوجبة على حسابه الخاص وباصرار مبالغ فيه ، رضخ رغم انفه ، وجلسا في ركن المطعم الشعبي يلوكان قطع الشواء المتناثرة في الصحن الخزفي الابيض ، مع اقداح اللبن المحلي واقراص البصل الحار ، وعندما اراد أبو سبع تسديد ثمن الوجبة قال له ابو العيس : حسابكم وصل من أبي مهدي ، ولم يفاجىء بذلك ، فصاحب علي العبدون هو استاذه السابق ورب عمله في علوة الاسماك التي تركها بعد إلتحاقه بشركة صباح اخوان ، شكراً أبا مهدي على مبادرته السخية ، وشربا قدحين من الشاي الساخن اللذيذ ، وافترقا على أمل اللقاء بعد انتهاء الامتحانات ، دلف الى البيت فرأى والدته مضطجعة في فراشها وقد اعترتها نوبة الربو المزمن ، عرض عليها ان يذهب بها الى المستوصف الصحي إلا انها رفضت عرضه واكتفت  بالطلب منه احضار كوب من الماء المغلي الذي غالباً ما يقلل اضطراب انفاسها المتلاحقة ، ورجته ان يخبر ام شاكر بتهيئة عشرة اقراص من الخبز عندما تسجر تنورها ، اذ لم يعد بمقدورها وهي بهذه الحالة ان ان تقف امام لهب التنور وتمارس وظيفتها كما كانت تفعل كل يوم ، انطلق مسرعاً بعد ان وضع امامها كوب الماء المطلوب ، ممنياً نفسه برؤية ام وجدي التي لم يرها منذ ساعات طويلة ، طرق الباب بهدوء عدة طرقات فجاءه صوت من داخل البيت : من ؟ – انا – من انت ؟ انا .. والدتي العلوية تسلّم عليك ، وتقول … ولم تدعه يكمل عبارته  وقالت : تفضّل – كيف اصبحت اليوم ؟ – بخير .. ولكنها طريحة الفراش !! – خذ هذه الارغفة وقل لها : سأكون عندها بعد قليل … وغادر منكسراًَ لانه لم يرها كما تمنى … في نهاية الزقاق اصبح وجهاً لوجه معها ، ابتسمت ، بادلها الابتسامة ، وعندما اقترب منها قالت : اين انت يا ملعون ؟ – في العمل ومنذ اليوم سأتمتع بأجازة لثلاثة اسابيع استعداداً للأمتحانات !! وهل ستأتي …؟ – ما وقت دوامه ؟ – مساءً ..سأكون
عندك في تمام الساعة الثامنة والنصف هذه فأستعدي . – اهلاً وسهلاً بالعزيز !! عندما يحين الموعد سأطلق صفيراً متقطعاً وعند سماعك الصفير افتحي الباب ، واذا كانت ام ملكة مستيقظة فحاولي  رمي صفيحة النفايات عند الباب علامة على استحالة تسللي الى البيت ، لأنصراف بعد ذلك بانتظار فرصة أخرى …

 وضع ارغفة الخبز في القدر النحاسي المخصص لها ، وجلس عند حافة فراش والدته ناقلاً اليها تحيات أم شاكر و وعْدها بالمجيء لرؤيتها ، ولم يستطع اخفاء سروره الجامح برؤية من يحب واتفاقهما على اللقاء في هذه الليلة ، ولما لحظت امه على ملامحه علامات البهجة قالت بتثاقل : اراك اليوم فرحاً يا ولدي ؟ ـــ نعم يا أماه فقد منحني مدير الشركة راتب أسبوعين مقدماً كما اعطاني اجازة لمدة اسبوعين ايضاً وبأجر تام تبدأ من يوم غد ، اضافة الى توقف الدوام في المدارس وانصراف الطلاب الى التحضير للأمتحانات …. وها أنتِ كما ترين يا والدتي كل هذه السعادة الآن (( ولم يقل لها عن السبب الحقيقي الذي كان وراء سعادته الحقيقية خشية تقريعه على فعلته المستهجنة التي أقدم عليها صباحاً عند لقائه بها في نهاية الزقاق )) !! أتمنى لك الخير والنجاح يا ولدي … ظلت ضربات قلبه تتسارع بانتظار موعد اللقاء ، وتمنى لون ان الزمن يمضي بسرعة ليقف عند الساعة الثامنة والنصف مساءً ـــ ستكون ليلة من العمر افترش ردفيها وسادة لرأسي ، وأمسح بأصابعي حبّات العرق المتصبب من رقبتها ، وأداعب بشفتييَ مسامات جسدها الحنطي ، ثم اجلس على فخديها المكتنزين بشراهَة شاب يفور رغبة ، وأمسّد شعرها الفاحم براحة يديَ ، ولن أنهض عنها إلا بعد أن أغرس في صحاريها بذرتي وأرش ساقيتها بعسل الأشواق العارمة ، وربما أغوص في خلجانها الظامئة ، مرات ومرات حتى لا أدع لحظةً إلا واستثمرها عناقاً بين مفرقي نهديها المتوثبين ، ولا أبالغ ان قلت لن أتركها حتى لو ادركني الوقت ، انها فرصتي التي ربما لن تتكرر ثانية في مثل هذا الظرف النادر ـــــ  

غادر البيت الى المقهى لعله يبدد بعض الوقت ، جلس منفرداً على اريكته التي اعتاد الجلوس عليها مساء كل يوم جمعة ، ومن بعيد حّياه جبار إيدام وتبعه حسن مظلوم في القاء تحيته ، وما زال القلق يخض جوارحه ، والهواجس تفترس تأملاته ، دنا منه حسن وأقترح عليه التجوال على كورنيش الشاطىء المحاذي للمقهى ، لم ترق له الفكرة ، وأكتفى بأشارة من حاجبيه تعلن رفضه ، حسناً لنلعب النرد ، لا رغبة لي بذلك ، دعني افكر في كيفية تنظيم وقت مراجعة دروسي لعلّي اهتدي الى ما يعينني على احراز التفوق في الامتحانات .. كما تحب يا صديقي الحميم ولكن أليس من المنطقي ان نمتع بنصف ساعة من اللعب البريء ، لا … لا … شكراً … !! ونهض مغادراً من غير ان يلقي كلمة وداع واحدة .. قال حسن لجبار ما بال صاحبنا هذا اليوم كلماته مرتبكة ونظراته قلقة ، لا اظن ان في الامر ما يدعو للأستغراب قال جبار ، وأضاف : هكذا هو دائماً شارد الذهن مشتت النظرات ، لا يمكث على رأي ولا يقر له قرار ، هل تظن انه يحب ؟ ردّ حسن !! لا أظن ، فمن أين لهذا المسكين الوقت والمال اللذين يساعدانه على مثل هذه الأمور المتعبة ّّّ!! فما به اذاً ؟ ـــ والله لا أعرف ما الذي يدور في كوامن ذاته التي تثير الدهشة … على كلٍ مالنا وماله هذه أمور شخصية علينا ان لا نبحث في تفاصيلها .. مرت الدقائق ثقيلة وهو يتقلب على جمر انتظار قدوم لحظة الموعد الذي أفقده صوابه وجعله لا يتحكم في بعض تصرفاته ، لا بل يُطلق في بعض للاحيان عبارات غامضة لا معنى لها ..بحث بين كتبه عن قنينة العطر ( البروت ) التي أهدتها له ذات لقاء حبيبته المتوارية عن انظاره فوزية ، ولما لم يجدها خجل من سؤال والدته عن مصيرها لئلا تدقق في سبب بحثه عنها في هذا الوقت وتسمعه ما لا يرضيه من كلام لاذع ، وخّمن ان شقيقه الأصغر خضر هو من اقتنص القنينة وتصرف بعطرها على هواه ، وفي لحظة صفاء طلب من أمه ان تحضر له وجبة العشاء لكي ينصرف بعد تناولها الى مراجعة دروسه ( لا والله ليس هذا هو السبب ! ) ، تناول الطعام على عجل وألحقه بقدح من الشاي الذي يعشقه ، ودس في جيب دشداشته البيضاء سكيناً صغيراً وجده بين ادوات المطبخ  مسروراً لقرب حلول موعد اللقاء ، وفي تمام الساعة الثامنة والنصف مساءً لم تفتح له الباب رغم نوبات السعال المفتعلة التي أطلقها في فضاء الزقاق ، ساوره قلق غريب ، ظل يقطع الزقاق جيئة وذهاباً من غير ان يضع في حسبانه ما قد يثيره هذا السلوك من شكوك العابرين في ذلك الوقت ، وفي التاسعة تماماً أطلت أم وجدي تحمل صحيفة النفايات ، التفتت شمالاً ويميناً ورمت ما في يدها حتى كادت محتوياتها تلامس جسده المرتجف والذي هاله وازعجه ان زوجها قطع دوامه بسبب وعكة صحية طارئة وها هو في البيت يتمتع بثلاثة أيام اجازة مرضية … وما عليه إلا ان يفكر في موعد آخر وان يبدأ مراجعة دروسه مراجعة جادة ومنظمة قبل كل شيء (يتبع في العدد المقبل)  ……

Facebook
Twitter