واصل دوامه في الثانوية المسائية بحماسة متقدة ، وواصل عمله في شركة صباح اخوان بفرح غامر ، كما واصل لعبه على حبال العلاقة الوجدانية بين فوزية وام وجدي ،ولم يعد بمقدوره اتخاذ قرار ناجز بالرسو على ضفة واحدة من الاثتين ، فأبنة الحاجة ام صالح تتمنع في وصاله ولها اعذارها ومبرراتها في ذلك ولكنه يحبها بجنون ، اما ام وجدي فقد اذاقته طعم عسلها وسحرته بجمال جسدها وحلاوة لسانها واغرته بحرية ترددها عليه في الاوقات التي يراها مناسبة للانفراد بها ، والغوص بلذة بين مفرقي نهديها ، والنوم على ذراعيها في تلك الظهاري الحارقة ، وفي الثانوية حقق تفوقاً أشاد به مدرسوه ، ولم يتوان عن الاجابة على اية اسئلة يوجهها لطلاب صفه مدرس اللغة العربية اذ اصبح قدوة لزملائه في درس الانشاء الذي لم تقل درجته فيه عن اربعة وعشرين من خمسة وعشرين درجة ، مما حدا بمدرس المادة ان يهديه مجموعة من الكتب الادبية من بينها (( ميزان الذهب )) لمؤلفه الهاشمي ، وان يشجعه على نظم الشعر وتوسطه في نشره في بعض صحف بغداد ، وذات دوام مسائي قال له مدرس الانكليزي ان مستواه بدأ يتحسن وان النجاح سيحالفه لو واصل قراءته الجدية وحرصه على الاستزادة من العلم والمواظبة على الدوام المنتظم ، ومما زاد في حماسته نجاحه وثلاثة من طلاب الشعبة في امتحانات نصف السنة التي اصبحت مثالاً للتندر بين المدرسين لقلة الناجحين فيها ، رغم سهولة الاسئلة وعدم التشدد في التصليح ، لأن الادارة تحرص على سمعة الثانوية وتقدّر وضع طلابها غير المتفرغين للدراسة وانشغالهم في اعمال الكسب اليومي والدوام الرسمي ، وفي الشركة احتل موقعاً مرموقاً بين اقرانه لدقته وحسن ادائه ، مما دفع بأبي اسامة لزيادة مرتبه وصرف مكافأة مالية بلغت عشرين ديناراً قبضها وهو غير مصدق لما يحدث ، وعندما اعلم والدته بخبر الزيادة والمكافأة امرته بشراء قطعة قماش لأم شاكر جزاء ما بذلته من جهود لاتنسى في رعاية البيت اثناء غيابها في الحسينية ، واستغربت امه حين اقترح عليها ان توافقه على شراء قطعة ثانية لأم وجدي لأنها كما قال لها في معرض تبرير لمقترحه الجريء ، ان المرأة رغم انشغالها بطفلها الصغير وزوجها الا انها لم تتأخر في الحضور وتنظيف البيت مرات عديدة (يا.. لك من شيطان ) ، ولما استجابت امه على مضض دفع اليها بورقة نقدية حمراء فئة الخمسة دنانير وقال تصرفي يا والدة كما تشتهين ، ولا تنسي نفسك فأنت العزيزة الغالية التي تستحق كل ما أملك وماهذا إلا من فضل الله وفضل ابي اسامة وفضلك ، حاولي ان تشتري ثوباً فاخراً وثميناً يليق بك ، واذا ما احتجت الى مبلغ اضافي فأنا على استعداد تام لتقديمه اليك يا بنت الاجواد … هذا كثير ياولدي !! ليس كثيراً عليك يا أماه فأنت ماء العين ونبض القلب وهذا قليل بحق ام مثلك .. ابتسمت ابتسامة خفيفة ، لحظتها شعر بالارتياح والاطمئنان ، وراح يخطط من جديد لجولة قادمة من المواعيد واللقاءات الحميمة المتخيلة وكأنه في غابة من النساء الجميلات اللواتي يتدافعن للحصول على وعد منه بعلاقة تعيد إليه توازنه وتجعله قادراً على الاختيار المناسب ، وتبعده ـ كما توهم ـ عن المتمنعات من الحبيبات المفترضات ، غادر البيت والمرح يملأ جوانحه والاحلام تزدحم في مخيلته ، وفي المقهى أراح جسده على أريكته التي اعتاد الجلوس عليها في زاوية المقهى بعيداً عن ضجيج الجلاّس ومناكداتهم المألوفة ، واطلق لخياله التحليق في ذكريات الامس القريب ، واستعاد بلذة عارمة لحظات تعارفه بحبيبته الفارعة السمراء وكيف دس بين اصابعها رسالته الاولى ، وكم عانى في انتظار اجابتها التي استغرقت اربعة ايام أمضاها متقلباً على جمر الاحتمالات والمفاجأت ، والتي لم يذق خلالها النوم العميق إلا قليلاً ، ورغم ان صوت ام كلثوم كان يبدد بعض اوجاع ذكرياته ،إلا انه في لحظات توتره يستجمع قوته الكامنة فيطلق آنّة حارقة ، تعيده الى أجواء تلك الدقائق الصعبة التي قضاها مترقباً قدومها الى البيت ، بعد ان خطط بمهارة لأقتناصها اثناء سفر والدته الى الحسينية ، ولكن آماله خابت وفشل في تحقيق ما صمم عليه ، ( لسه فاكر … كان زمان ) ، أي زمن هذا الذي تتحدث عنه وتستعيد لحظاته باعصاب باردة ؟ وهل تكفي الذكريات التي تثير المواجع والشجون والمكائد ؟ هل تذكر تلك العبارات الجارحة التي تسمعك اياها أم خضير وأم ستار وإلى مَ تظل تجتر هناءاتك الغابرة ، وتلوك أحلامك الموءودة ؟ كف عن هذا الهذيان وافتح قلبك للحياة والمستقبل؟! وما بين هذه التهويمات الغارقة في اليأس وبين محاولة ترميم علاقة متصدعة قرر ان يغادر محطته الأولى ( فوزية) ويطلق لنفسه العنان في ترصين علاقته المحرمة بأم وجدي التي اذاقته ذات مساء تفاحتها اللذيذة ، واصبح طيفها لا يفارق مخيلته الملبدة بالأسئلة الغامضة … والشكوك الهاطلة ، وما عاد يكترث لتمنّع فوزية وتغنجها اذ وجد من يعوضه عنها دون عناء ، فكل الدروب سالكة الى منالها ، لا سيما وانها تقيم في بيت امرأة عجوز لا تغادر غرفتها إلا لقضاء حاجتها أو لشراء بعض ما تحتاجه من مواد منزلية وخضر وفواكه تكفيها لأسبوعين أو أكثر ، فأم ملكة لا ولد لها عدا ابنتها الوحيدة ملكة التي توفيت اثناء ولادة أبنها أموّري الذي يعيش مع ابيه وزوجته الشابة في بيت حكومي فاره ، أين هذه من تلك يا أبن العلوية يا أحول ؟ استمتع كما تشاء ولا تخف مم تخبئه الايام الآتية ، انها فرصتك الذهبية السانحة ، ولكن اياك ان تهمل دروسك ، فمستقبلك هو الأهم ، فلا تضيّع وقتك في النساء وفي النزوات العابرة ، كن رجلاً ولا تخيب ظن عائلتك بك ..كن كما يريدك السيد وكما تريدك العلوية ، فأنت أملها في هذه الدنيا الفانية …. وفي خضم هذه الأنثيالات والتداعيات المقلقة سمع طرقاً على الباب ، فهبّ مذعوراً اليها ، ولما رأها هدأ روعه وقال لها تفضلي … البيت بيتك ، والدتي تشكرك وتسأل عنك باستمرار .. تفضلي … تفضلي … وبحياء مفتعل دفعت بجسدها الممتليء الى داخل البيت فلامست عباءتها جسده الناحل الذي اشتعلت حرائقه ولم يعد قادراً على ضبط مخارج كلماته التي يجيب فيها على أسئلتها المتلاحقة .. ها .. كيف حال العلوية ؟ وأنتَ ما الذي كنت تفعله قبل مجيئي ؟ ومتى تذهب الى المدرسة ؟ وهل البيت بحاجة الى التنظيف ؟ و .. و … لن أتأخر هذه المرة فمشاغلي كثيرة وقد تركت وجدي نائماً وربما يستيقظ ويسبب ازعاجاً لأم ملكة !! ولكن ما الذي جاء بك في هذا الوقت ؟ لا .. لا شيء وانما للأطمئنان على صحة الوالدة والسلام عليها بعد غيبتها في الحسينية !! ( يا ملعونة ..هل هذا هو السبب الحقيقي ! لا أظن ذلك ! ) الوالدة نائمة في غرفتها وصحتها معتلّة.. ولم تتناول الطعام منذ قدومها وأنا أخشى عليها فنحن من بعدها لا نساوي حبة خردل ، لا تقلق … سأعمل لها قدراً من ( شوربة ) العدس لترطب صدرها .. بارك الله بك ، وربت بيده على كتفها عامداً ، فأحس بدفء يسري في عروقه ، غمزت بطرف عينها ليرفع يده عنها ، استجاب لطلبها مكرها ، إبتسمت وانكبت على وجه العلوية تقبّله وتدعو لها بالشفاء العاجل ولكن عينيها لم تفارقه طيلة مكوثها الى جوار أمه التي شكرتها وأثنت على حسن مداراتها ودعت لها بولد آخر يعينها في شيخوختها ، ولما لم توافق على مقترحها بطبخ وجبة عدس ساخنة ، قالت سأعمل ذلك في بيتي وأعود ثانية وما عليك إلا النهوض من فراشك وطرد الشر ، وداعاً عمتي العزيزة وداعاً ….. وأطلقت آهةً تهدُ جسر السدة الأسمنتي الشائخ (يتبع في العدد المقبل)
- info@alarabiya-news.com