لعلها فرصة أخرى
أحبها بجنون أبن السابعة عشرة ‘ فهي ابنة الجيران ذات الملامح الخلاسية ‘ ومن عائلة محافظة كريمة متوسطة الحال تنحدر من ريف الفلوجة ‘ ورغم انها تكبره بثلاث سنوات فقد هام بها وحفظ من اجلها أكثر من عشرين قصيدة من عيون الشعر العذري اضافة الى عشرات الأبوذيات والدارميات التي تتغنى بجمال السمراوات ‘وكان يختلق الأعذار لرؤيتها والوقوف لحظات بباب الدار المقابل لدار أهله لكي يوصل اليها قصاصة ورق صغيرة يفصح فيها عن أشواقه ورغباته المجنونة ‘ وغالباً ما كانت أمها تشيح بوجهها المتغضن عنه لكي تشعره بامتعاضها من تردده ومرة نهرته بصوت مسموع الا إنه لم يعر لها أذناً صاغية وغاب بسرعة بين زحمة العابرين في الزقاق الأفعواني المتهالك ‘ وكان لا يكلّ عن ابتكار وسائل الأتصال بحبيبته ‘ خاصة في تلك الليالي التي تقام فيها الطقوس الدينية والاحتفالية في شهري محرم وصفر والتي تبيح وبحدود ضيقة خروج النــسوة والصبايا لمتابعة ومشاهدة المواكب الحسينية ‘ وتزداد بهجته في ليلة (عرس القاسم) التي تقلٌ فيها الممنوعات وشدّة الضغوطات باعتبارها مناسبة سعيدة يقرأ المحتفلون القصائد المنوعة التي تشيد بالحياة ومباهجها خلالها ‘ وتطلق النسوة على جانبي الازقة والشوارع الزغاريد ‘ مما يتاح للشباب النظر بحذر الى وجوه الحبيبات اللواتي يحتشدن في الجانب المقابل ‘ وفي ليلة العاشر من محرم كانت المدينة لا تنام إلا عند طلوع الفجر ‘ وغالباً ما كان يرابط في نهاية الزقاق مع اقرانه ‘ متحلقين حول النارالتي يشعلها أحدهم بقصد إعداد وجبة شاي ساخنة ترافقها أصابع المعجنات المغموسة بالسمسم والسمن النباتي ‘ لا طمعاًً في هذه الوجبة اللذيذة ‘ وانما طمعاً في رؤية الحبيبة التي تضرب صدرها هي وصويحباتها في حلقات متصلة تعبيراً عـــــن حزنها المعلن على ما جــرى في التاريخ البعيد من جريمة قتل الحسين واصحابه وحرق خيام النسوة في تلك الواقعة المعروفة…مرة أسمعه صاحبه جبار ناجي كلاماً يشير فيه من طرف خفي الى صاحبته ‘ فأنكر عليه ما قاله ودعاه الى غلق الموضوع لئلا يتسرب الى آذان شقيقها الذي يجيد الملاكمة ‘ فيلقنّه درساً في اصول احترام بنت الجيران والمحافظة على علاقات الجوار والتقاليد الاجتماعية السائدة ‘ فبنت الجيران هي بمثابة الاخت التي يتوجب الحرص على سمعتها وعفافها ‘ وإلا فان مصيبة كبيرة ستحلّ على الرؤوس المدوّخة بأحلام الشباب المراهق ..
أقترح على أصحابه ان يقوموا بجولة قصيرة قرب موقع الخيام المنصوبة بانتظار اشعال النيران فيها في اليوم التالي ‘ لعلها تتبعه الى هناك فيحظى بلقائها ولو لدقائق معدودة ‘ وافق الجميع على المقترح وبأشارة برقية من يده اليمنى عرفت مغزاها ‘ فانطلق مسروراً والأمل يراوده بتحقيق ما يتمنى ويحب … وظلت رقبته تلتفت يميناً وشمالاً ليتأكد من قدومها وراءه …
كانت [فوزية] مجللة بالسواد وعلى رقبتها الناحلة يلتفٌ شال أسود أضاف الى وجهها سحراً اخاذاً أشعل الشوق في جوانحه وجعله يطير فرحاً ‘ فالليلة ستكون الحبيبة الى جواره وربما يسمعها بعض أبيات قصيدته الجديدة ان توفرت له فرصة لذلك ..
وأمام الخيام المنتشرة جلس وأقرانه بانتظار اللقاء المحتمل ولكنها كانت على مسافة بعيدة من المكان بحيث لا يستطيع رؤيتها بوضوح فهي غمامة سوداء بين غمامات من السواد الفاحم ‘ وان نظره لا يسعفه على تبيان ملامحها الخلاسية من بين حشد صويحباتها .. حاول ان يقترب منها ‘ لكن الظرف لا يساعد على مثل هذه التصرفات الصبيانية … واكتفى في الذهاب والأياب واختلاس النظر من وراء زجاج نظارته السميَك .. وقال في سرّه لعل فرصة اخرى مواتية يتم فيها اللقاء ….
اقفل الجميع عائدين الى الزقاق ودخل الآخرون في بيوتهم الوطيئة … ورأها بأم عينه تدفع ضلفة باب بيتهم الخشبية ‘ مستديرة الى خلفها بحركة خاطفة ‘ لتقول له بخفقات عباءتها وداعاً ياحبي الغالي ….
عندها ادرك ان لا امل يرتجى في هذه الليلة ‘ وقرر ان يطوي هذه اللحظات القلقة بالأستلقاء على فراشه المتآكل بانتظار ان يراها في منامه .. واستغرق في اغفاءة عميقة ‘ ولم يستيقظ إلا على صوت العلوية وهي تدعوه للنهوض والذهاب الى بيت السيد طاهر لجلب [ التمن والقيمة ] التي اعتاد السيد على طبخها في كل يوم عاشر من محرم من كل عام طلباً للأجر والثواب ..
نهض منزعجاً مما جرى له في الليلة المنصرمة مستذكراً تفاصيل عناءاته في الترقب وتسَارع دقات قلبه وقرر ان يكبح جماح مراهقته في الآتي من الأيام لعّل الأشواق ترغمها على المبادرة بالأتصال به وإلا فأن القصة لا تعدو سوى تزجية وقت وعواطف مراهقة مجنونة …
مرت أربعة أيام بساعاتها الثقيلة ‘ ولم يرها ‘ ولم يرَ أمها تجلس بباب الدار كعادتها … تسربت الظنون الى روحه الملتاعة ..
وراح يضرب أخماساً بأسداس ‘ ربما تدهورت حالة والدها الصحية الذي يرقد على فراش المرض منذ أسابيع ‘ وربما حصل مكروه لوالدتها أو شقيقها الملاكم !! وربما عثروا على قصاصات ورق الرسائل التي كان يدسها بين طيات دفاترها !! وربما !! وربما !!
سأل والدته بطريقة غير مباشرة عن بيت الحاج فلم تجبه ‘ زاد قلقه وتوترت أعصابه ولم يعد يهتم بدروسه ‘ لا … بل انه قلل من وجبات الطعام التي يتناولها حزناً على فوزية التي اصبحت كل شىء في حياته .. وبينما كان غارقاً في امواج بحار هواجسه ‘ سمع طرقاً على الباب فركض مسرعاً صوبها ‘ لكن والدته كانت اقرب منه الى باب الدار وسمعها ترحب
بالحاجة ام صالح مستفسرة منها عن هذا الغياب المفاجيء … لحظتها أطمأن قلبه وهدأت روحه القلقة ‘ ولم يعد يفكر إلا بها وبدروسه التي أهملها منذ أيام خلت ……….