هل انتهى العراق حقاً؟ “العراق البريطاني” على كل حال؟
هل عادتْ صيغة حكم الولايات العثمانية الثلاث في العراق، في اللا مركزية المحلية لصالح المركزية الإمبراطورية لتعود بغداد إلى دورها العثماني مجرَّد بوابة محلية خفيضة للباب العالي؟
على أن “الاستانة” نفسها لا وجود لها اليوم، وما تبقى منها لم يعد باباً عالياً إنما أضحى باباً خفيضاً آخر من أبواب عدَّة، لذلك تتجه بغداد اليوم، ككلِّ البوابات الخفيضة، نحو واشنطن.
لكنْ من أين ولدتْ تلك “النهاية” حقاً؟
هل ولدت مع عنوان كتاب “نهاية العراق ـ كيف خلق العجز الأمريكي حرباً بلا نهاية” لبيتر جالبريث، أم من تقارير مراكز الدراسات الغربية، ومعاهد الأبحاث الأمريكية، أم لعلها جاءت من توصيات الجواسيس، أو من تصويت مجلس الشيوخ، أم ربَّما ولدتْ من رحم الحرب وترعرت في حاضنة “الديمقراطية”؟
وهل كان مشروع السيناتور الديمقراطي جوزيف بايدن الذي صوت عليه شيوخ أمريكا، ـ بموافقة 75 صوتاً ورفض 23 صوتاً ـ أكثر من خلاصة لخلاص أمريكي من كوابيس “أرض الطوائف” ولذلك فهي لا تعدو مجرَّد إعلان عن أوان، ليس أكثر؟
تبدو خلفيات فكرة تقسيم العراق غاية في التعقيد وتلتفُّ أشجارها الخضراء، التي أينعت مؤخراً في حقول الدراسات ومراكز البحوث، وفي عقول مهندسي الخرائط والمصائر وفراجيلهم، في عالم ليس دائرياُ تماماً، تلتفُّ خلف أثمارها اليانعة على جذور سوداء موغلة في القدم تعود إلى تاريخ متراكم ومتفاعل من الغزوات وتنازع الإمبراطوريات على “كنوز بابل” و”أرض الطوائف” و”وبلاد النهرين” حتى قبل لمعان “الذهب الأسود”.
إنها جذور شديدة التشابك، منذ ميراث الاسكندر. فعندما أنجز فتى مقدونيا غزو أرض بابل ونهب كنوزها لتمويل حملاته اللاحقة، أوصاه أساتذته الإغريق بتقسيم مملكة بابل، وبدأ في “وادي الرافدين” أوَّلُ عهد لملوك الطوائف كما يشير المؤرِّخُون العرب، وهو الميراث القديم والكبير “لذي القرنين” المقدس في الكتب المقدسة، ميراث منقسم في ثلاث إمارات كبرى تقاسمه قادته من بعده، مؤسسين لثقافات متصادمة وأقوام متحاربة في جغرافيا منقحة.
لكن ما يتركه الجمهوريون للديمقراطيين اليوم ليس بحجم تلك الإمبراطورية القلقة التي أسسها الاسكندر في فترة وجيزة.
العراق الحالي ـ الذي على وشك أن يصبح في طور السابق ـ من وجهة نظر راسمي مشهد نهايته، ما هو سوى مصطنع من تصورات ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطانية في الحرب العالمية الأولى الذي كلف بتقسيم إرث الولايات العثمانية المهزومة. كان الدور الأساسي للمسؤول عن إدارة مصالح التاج البريطاني في المستعمرات الجديدة، يتركز في تأمين تلك المصالح، لذلك سعى في تشكيله للجغرافيا السياسية “للمستعمرة العراقية” إلى إيجاد رابطة وصل بين حقول النفط الجنوبية بتلك الشمالية في كركوك التي بدأت تظهر للتو، ولم يكن معنياً بقيام دولة حاضنة لهذه الفسيفساء القومية الطائفية وتفاعلها في كيمياء ثقافية اجتماعية قائمة على التعايش السلمي لا على التنافر الإثني والطائفي.
لكن المبررات الحالية لفكرة تقسيم العراق تبدو وكأنها استعادة معكوسة لتلك المبررات التي دفعت إلى إعلان كيانه السياسي الذي ينقل عن تشرشل في وصف ولادته بقوله “إنه بلدٌ ولِدَ في لحظة جنون”. ذلك أن مسألة إيجاد العراق ككيان سياسي كانت بمثابة خشبة الخلاص لبريطانيا من مستنقع لا تعرف عواقبه. وبفحص تفاعلات تطور مشروع التقسيم خلال العقدين الأخيرين ستتجلى الفكرة صادمة، لناحية اتصالها بالتراث العاطفي القاسي لتجارب التقسيم وتمزيق الأمم، وهو تراث سيغمر المشاعر في أماكن أخرى خارج الحدود القديمة والجديدة، خاصة في ما يتصل بقضية تقسيم فلسطين.
فتقسيم فلسطين نضج بالتدرُّج كما يحدث الآن في “الحالة المريحة لتقسيم العراق” وعلى مراحل زمن ما بين الحربين، ابتداءً من وعد بلفور مروراً باضطرابات الثلاثينات التي أسفرت عن “تقرير لجنة بيل الملكية البريطانية” مروراً بالتزام الرئيس الأميركي ترومان، وصولاً إلى توصية لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين “بتقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق” إحداها يهودية والأخرى عربية وتبقى الثالثة (القدس) منطقة دولية، تماماً كما يخطط لمصير بغداد في القرار الأمريكي قبل أن يتدرَّج بتفاعلات سريعة على الأرض ليتوَّج بقرار التقسيم الشهير في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1947، أي بعد شهر واحد فقط من تقرير لجنة الأمم المتحدة.
ربما هي الذاكرة نفسها، وإن بمشاعر أخرى، جعلت الرئيس الأميركي يطلق تلك العبارة التي جرى تبريرها بأنها من زلات اللسان تماماً كسابقتها عبارة الحرب الصليبية “أريد أن أرى عراقاً ديمقراطياً على وفق النموذج الإسرائيلي”، ويبدو أن جدار الأعظمية الذي انتهى جنوده من تشييده في بغداد للتو كان ملهماً تذكيرياً للرئيس بوش..
أهل الدول الطائفية
قد يبدو هذا التذكير ضرورياً. فلطالما ظلت “طائفة” من نخبة “الأنوار” العربية، والعراقية بشكل أكثر تحديداً، تتعامل مع المخاوف المطروحة من إمكانية تقسيم العراق بعد إسقاط نظام صدام عسكرياً على أنها إما ارتجاعات لمخاوف غير مبررة ومبالغ فيها لتبرير رفض التغيير، أو هي من قبيل الدعاية المضادَّة لمناهضي المشروع الأمريكي للديمقراطية في المنطقة. وفي أحسن الأحوال كان يجري التعاطي مع أية مناقشة تسعى لتفنيد مشروع الفيدرالية في العراق ـ الوجه التجميلي للتقسيم ـ على أنها مناقشة لا تتَّسم بالدقَّة ويجري اتهامها بافتقارها إلى حسِّ قبول التعددية ومبدأ اللامركزية في إدارة الدولة، وعادة ما يغالي “أهل الدولة هؤلاء” باتجاههم نحو التذكير بالنماذج الفيدرالية المتحققة في العالم المتحضر على غرار سويسرا وألمانيا وسواهما من تجارب متقدمة، لجعل الفيدرالية في “أرض الطوائف” منارة أخرى في مدن المنائر!
بيد أن واحدة من أهم خصائص الفيدرالية هي الهوية الوطنية. وعندما نتحدث عن العراق فمن المفترض إننا نتحدَّثُ عن “وطن” حاضن للجماعات، لا عن جماعات وطوائف تتداول مفهوم الوطن.
وبينما تقتضي الفيدرالية بجوهرها نظاماً ديمقراطياً قائماً على التعددية والحرية الفردية في المجتمع فإن النظام “الديموقراطي” في العراق يقوم على محاصصة في بنية السلطة ورموز سيادة الدولة، على تقاسمها كغنيمة لجماعة وليس بصيغة مشاركة مجتمعية في السلطة وتناوب على إدارة مؤسسات الدولة… وهكذا فإن تنازع الولاء في “الوطن الفيدرالي” ينبغي أن لا يكون على حساب الوطن لصالح الطائفة.
ومع هذا كله فثمة من بقي حتى الآن يجادل في الفرق النوعي بين الدكتاتورية والاحتلال ـ عادة بين المستقبليين الذين يهرعون إلى ما سيكون ضد ما كان. الخائضون في هذا الجدل الطازج، على الدوام، سيجدون أنفسهم اليوم ينتقلون إلى نوع آخر من الجدل حول شرعية مقاومة التقسيم بدل مقاومة الاحتلال، بينما يجري التجديد لمعاهدة “بورتسموث” جديدة تتيح بقاء تالياً للمحتلين.
ويتجدد سؤال التخيير بين الدكتاتورية والاحتلال، ليصبح تفاضلاً بين الاحتلال وما قد يبدو أبشع منه.
لكن “ما” الأبشع من الاحتلال في الراهن العراقي؟ إنه التقسيم، ولعلَّ جزءاً من بشاعته الراسخة في الوجدان العربي يتجذر بما يستدعيه من ذاكرة دامية حتى اللحظة بالتذكير بتقسيم فلسطين.
فبالتوازي مع تقرير بيكر ـ هاملتون الذي قدم توصيات للإدارة الأمريكية من بينها التحذير من تقسيم العراق، أو سحب القوات الأميركية قبل الأوان، كانت هناك طروحات عدة من مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة تدعو إلى توجه آخر، من بينها تقرير صدر عن معهد بروكينغز تحت عنوان “حالة التقسيم المريح في العراق” استخدم التقرير عبارة soft partition وهو التقرير الذي عرف كذلك باسم رمزي رديف يحمل دلالة حركية استخبارية: “الخطة باء” ومن اللافت أن واضع التقرير جوزيف أدوار الباحث في معهد بروكينغز له تجربة تقسيمية في إدارة الصراعات من خلال تجربة دول البلقان، لكنه لا يكاد يعرف شيئاً عن العراق ربما إلا ما يُتناقل من أخبار الفشل الأميركي، وما عدا تلك الخريطة التي اقترحها بيسر وسلاسة.
لكن هذا الأمر لا ينطبق على مؤلف كتاب “نهاية العراق” بيتر جالبريث الذي ينطلق فيه من الفشل الأميركي لإعلان تلك النهاية لكيان سياسي لم يصمد لقرن من الزمن. فالغزو الأميركي أو التجربة لإقامة الديمقراطية في العراق انتهت إلى واقع لا يسرُّ أميركا كثيراً أو قليلاً، حيث نشأت “كردستان” بصيغة موالية إلى أقصى حدٍّ ممكن للغرب، ونائية عن مشكلات العرب الرئيسية، بينما استطاعت إيران فرض نفوذها القوي في السيطرة على الإدارات المحلية وعلى العمق الاجتماعي الثقافي للمناطق الجنوبية من العراق. أما المناطق الوسطى والغربية من البلاد فبقيت في حالة فوضى مستمرة، فيما يمكن حصر السلطة في بغداد بالمنطقة الخضراء لإثبات المدى الذي وصلته من الضعف وعدم القدرة على السيطرة والتحكم بسائر أنحاء البلاد.
لكن جالبريث صاغ تصوراته تلك ليس من واقع الأحداث فحسب وإنما، كما صيغ احتلال العراق، بإلهام ممن استمع إلى أفكارهم “عن العراق الجديد” وبجهود المشورات التي قدمها له “عراقيون” يدأبون على “التبرع” بإسداء النصح للباحثين الأمريكان باستمرار، وهي نصائح عادة ما تأتي بخراب البلاد. فسفير الولايات المتحدة السابق في كرواتيا خلال عهد تقسيم يوغسلافيا السابقة يرتبط بعلاقة قديمة وخاصة مع رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق عبد العزيز الحكيم وعدد آخر من “المعارضين” المشاركين في مؤتمر لندن للمعارضة العراقية كانون الأول / ديسمبر 2002. ولعلَّ “غيلب ليزلي” واحد من العناصر التي تدفع إلى البحث عن كلمة السر المشتركة في توقيت الدعوة إلى حفلة التقسيم، ليس بين جوزيف بايدن وجالبريث، أو بين عمار الحكيم الإبن وجالبريث، أو بين هذا الأخير وأصدقائه الحميمين من الأكراد الذين يحاولون الخروج من نمط المقولة الفولكلورية بأن لا صديق للأكراد غير الجبل، فليس الجبل وحده اليوم، من يصيغ الخريطة، وإنما بين هذه التحالفات السياسية المتعددة التي خلقت في العراق بعد الاحتلال.
لكنْ ما فائدة “المجلس الإسلامي” من هذا الحفل الذريع كله؟ لا شكَّ أن المجلس الأعلى يذهب بالولاء نحو إيران أكثر من العراق، وعندما يتمُّ التقسيم فأن جنوب العراق سيعود إلى تلك الصورة القديمة: عراق العجم، في مقابل عراق العرب.
هذا هو التفسير الطبيعي لموقف المجلس الأعلى من “التقسيم”، المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، الذي اختصر اسمه مؤخراً إلى المجلس الإسلامي الأعلى، بلا ثورة، بعد أن رأى القائمون عليه على ما يبدو بان ثورتهم تحققت فعلاً عندما دخل جنود المارينز بغداد. فالمجلس نأى بموقفه من قرار التقسيم، عن التكتلات الرئيسية في البرلمان التي وقعت على بيان يرفض القرار. البيان الذي التقت فيه للمرة الأولى قائمة علاوي بالكتلة الصدرية، رغم ما بين الطرفين من دماء!
وللمجلس تراث واضح في الإعداد لحفلة التقسيم فهو صاحب أول فكرة لفيدرالية شيعية في “إقليم الجنوب”، على غير ما يريد شيعة العراق طبعاً. وهو صاحب مشروع تقسيمي قديم نوعاً ما يعود إلى العام 1992، حين طالب بمناطق آمنة في الجنوب يحظر فيها التحرك العسكري لنظام صدام على غرار إقليم كردستان وحظر مجمل النشاط العسكري لنظام صدام شمال خط العرض 36.
وقتها استجابت الإدارة الأميركية بطريقة جزئية للمشروع فأعلنت في شهر آب عام 1992 جنوب العراق منطقة محظور فيها الطيران على الطائرات العراقية ابتداء من خط عرض 32 درجة جنوباً وأخضعت تلك المناطق للمراقبة الجوية المستمرة.
وبين خطوط العرض 36 درجة شمالاً و32 درجة جنوباً ولدت الصورة الجوية الأولى لمواقع أحياء حفلة التقسيم في “أرض الطوائف” وتصفية إرث الدكتاتورية بين أمراء تلك الطوائف.
لكن ما جرى في العراق منذ ما قبل احتلاله في ما يتعلق بتفاعل “طائفة” من نخبه مع الأحداث يبدو حالة غير مسبوقة في تاريخ الشعوب. فخلال كل صدامات الإمبراطوريات والأقوام في تاريخ الإنسانية، وتاريخ الغزو، لم نجد أمة من الأمم أو بلد من البلدان، بادر أكثر من ثلاثمائة وخمسين من نخبتها بالتوقيع العلني على رسالة شكر لكل من الرئيسين الأميركي جورج بوش والبريطاني طوني بلير على “احتلال بلادهم” الذي لا ينفكُّون عن تسميته بـ”التحرير”.. نعم نعرف عن “متعاونين” في السرِّ ظهر تعاونهم مع المحتل لاحقاً ، لكن لم يترك لنا كلُّ من عرفنا من هؤلاء “المتعاونين” في تواريخ الغزو مثل هذه العلانية الشفافة من الوثائق التي تدلُّ على عمق الانهيار الأخلاقي لثقافة سهلت المهمة وجعلت من التقسيم “حالة مريحة”.
هذه “الطائفة” ومعها شتات المبشرين بالعراق الجديد الذين يقصدون اللا “عراق” حسب ما خلص إليه جالبريث، يمكن وصفها بلا تبكيت ضمير بأنها واحدة من أخطر الطوائف التي أسست لانشطار “العقل” العراقي ومنعته من تأسيس موقف متوازن من الغزو. ومهدت لحالة التقسيم المريح.
ما يجعل الأمر أكثر غرابة وسوريالية، أن من بين الموقِّعين على ذلك البيان من صار يدعو اليوم لاجتماع المثقفين العراقيين وتوقيعهم على بيان يرفض مشروع التقسيم، ويؤكد حق الشعب العراقي في تقرير مصيره بنفسه! لكن هؤلاء في الواقع ليسوا أكثر من طلاب دعوة لحضور تلك الحفلة.
وستصبح الحالة في منتهى الغرابة، عندما تجري مقارنتها بقرين من “الجبهة الأخرى” تمثلت في البيان الشهير لأكثر من ألف مثقف أميركي تحت عنوان “ليس باسمنا” يعلنون فيه براءتهم من النزوع العدواني للإدارة الأميركية بصدارة عبارة ذات مغزى “كي لا يقال إن الشعب في الولايات المتحدة الأميركية لم يفعل شيئاً حينما أعلنت حكومته حرباً لا حدود لها وأسست لمبادئ قمعية متصلبة جديدة”.
وسوى هذا وذاك فإن عشرات الندوات والبحوث والمقالات التي تبين أن الديمقراطية لم تعد مجرد انتخابات لكنها ينبغي أن تمضي إلى أبعد من ذلك،إلى أين؟ إلى حقوق أخرى متاحة وأكثر أهمية: ولعل التقسيم هو أعلى مراحل تلك الحقوق الديمقراطية، بعد أن أنجزت الولايات المتحدة كل مراحل الديمقراطية أو أحرقتها تقريباً في العراق.