في اجتماع ضم نائب الرئيس الاميركي جو بايدن ورئيس مجلس النواب العراقي اسامة النجيفي ونائب رئيس الوزراء صالح المطلك ووزير المالية السابق رافع العيساوي عشية التوقيع على ما يسمى بالاتفاقية الامنية بين العراق والولايات المتحدة الاميركية حاول بايدن طمأنة محاوريه الذين ابدوا خشيتهم من انسحاب قوات الاحتلال الاميركي وانفراد نوري المالكي بمقادير القوات المسلحة العراقية بان القوات الاميركية ليست بعيدة عن بغداد ولا نحتاج الى جسر جوي او سفن لنقلها (في اشارة الى تمركز اغلب تلك القوات في الكويت وقدرة البيت الابيض على تحريكها نحو بغداد في الوقت المناسب) وان المالكي لا يمكن ان يخرج عن النص الاميركي ولو حدث وان خرج فسيكون هناك حديث اخر معه (في اشارة ايضا الى امتلاك البيت الابيض قدرة ازاحة المالكي متى شاء).
ورغم ان تلك الطمأنة كان لها وقع السحر على المسؤولين العراقيين الثلاثة الا انهم وتحت حث من (جوانياتهم النفسية) و(خبرتهم في التعاطي مع المالكي) وتحت عنت (خليجي تركي) ملزم لهم بوضع العصي امام عربة المالكي، احتفظوا بالطمأنة البايدنية ومضوا الى امرين: استمرار احتفاظ كتلهم بنصيبها من كعكة مناصب الحكومة ومنافعها وامتيازاتها، ومهاجمة الحكومة في كل حين وتحميل المالكي مسؤولية كل اخفاقاتها سواء كان المالكي مسؤولا عنها او كان وزراؤهم المسؤولين عنها.
وبعد طيران المالكي صوب موسكو وابرام اتفاقيات تسليحية معروفة معها مما اطار صواب واشنطن، حط توني بلنكن مستشار الامن القومي لنائب الرئيس الامريكي جو بايدنفي بغداد (ايلول 2013) حاملا قائمة من خمسة اسماء بديلة للمالكي، فقد رفعت واشنطن غطاءها عنه لسببين: اولهما انعطافته الروسية، وثانيهما اهماله تحذيرات واشنطن من مغبة عدم الانخراط في محفل المؤامرة الكونية ضد سورية، وضمت القائمة حسب تسلسل عرضها من قبل بلنكن على النجيفي وعلاوي والمطلك والجعفري ومسعود بارزاني اسماء: احمد الجلبي وعادل عبدالمهدي وطارق نجم وفالح الفياض وباقر جبر الزبيدي.
ورغم ان بلنكن لم يحصل على خيار محدد من الاسماء الخمسة الا ان الذين اجتمعوا معه لم يخفوا ميلهم الى الجلبي ورفضهم لباقر الزبيدي على خلفية آثار توليه وزارة الداخلية، وعادل عبدالمهدي على خلفية قيام عناصر حمايته بسرقة مصرف الرافدين فرع الزوية في منطقة الكرادة ، وطارق نجم وفالح الفياض على خلفية عملهم المشترك مع المالكي (الاول مدير مكتبه والثاني مستشاره للامن الوطني).
وكما هو شأنها دائما، فان ادارة البيت الابيض التي تستظهر امرا وتستبطن غيره كانت امام خيارين: الاستمرار في تجربة (رجال اميركا في العراق) او اللجوء الى تجربة ( رجال حليفتها بريطانيا في العراق)، ورغم انها لم تسرب شيئا من هذا التوجه الا ان السياسيين العراقيين من ذوي الحظوة لدى السفارة الاميركية في بغداد التقطوا اشارة الى ان اميركا ستجرب (احتياطيها المضموم من رجال لندن).
ولذلك، نشطت السفارة بعد تعيين فؤاد معصوم رئيسا لجمهورية العراق باستمزاج اراء الكتل السياسية بشأن اختيار ابراهيم الجعفري مستغلة الخلاف العميق بين الصدر والحكيم من جهة والمالكي من جهة اخرى، ورغبة الجعفري في الثأر لتنحيته من قبل المالكي عام 2010، الا ان هذا النشاط جوبه برفض من قبل مسعود بارازاني ماكان من الممكن تبديده الا بمحورين: محور قاده فؤاد معصوم وسليم الجبوري رئيس مجلس النواب الجديد لتخفيف حدة الاعتراض البارازاني بحوار مباشر اضطر معصوم والجبوري معه الى ركوب طائرتين باتجاه اربيل، ومحور قاده السفير الاميركي ببغداد باملاء سبعة شروط على الجعفري.
ومع توقيع الجعفري ليلة التاسع من آب 2014 على الشروط السبعة ( انهاء الازمة مع الاكراد، والاستجابة لمطالب السنة، ومنع التدخل الايراني في العراق ومنع استخدام الاجواء العراقية من قبل الطيران الايراني لتمرير الاسلحة الى دمشق، ورسم سياسة خارجية جديدة خلافا لسياسة المالكي تضمن انهاء القطيعة مع دويلات الخليج، وتحقيق توازن لتمثيل المكونات العراقية في كل اجهزة الدولة ، واعادة تأسيس الجيش على اسس مهنية والغاء المؤسسات الامنية والعسكرية التي استحدثها المالكي، ومشاركة جميع الكتل الممثلة للمكونات العراقية في صنع القرار) ابلغ السفير الاميركي معصوم بتحقق الاتفاق مع الجعفري، فطار معصوم الى بغداد ليوجه في ما يشبه الاستعراض المسرحي نداء الى كتلة التحالف الوطني محدد بمهلة زمنية معلومة للاعلان عن مرشحهم لرئاسة الحكومة الجديدة.
وفي موازاة هذا النشاط كان هناك نشاط آخر مشترك بين السفيرين الاميركي والبريطاني في بغداد يذهب في اتجاه ثان يرمي الى تفريغ كتلة المالكي من قوة ورقة فوزها الانتخابي وحضورها ككتلة اكبر في اولى جلسات مجلس النواب العراقي، واعتمد النشاط على وخز خاصرة ما يسمى بالقيادات التاريخية لحزب الدعوة الاسلامية الذي يتزعمه المالكي بدبوس ترجيح المالكي لكفة افراد اسرته واقاربه واصهاره عليهم ، بل ووضع بعضهم على مصطبة التفرج المهمل في سباق الانتخابات الاخيرة، ولقي هذ الوخز استجابة موضعية عند صقور حزب الدعوة وحمائمه ايضا فتداعوا الى اجتماع عاجل طالبوا فيه المالكي بالتخلي عن الترشيح، واختيار آخر من قيادات الحزب بديلا عنه مع عرض ابقائه مشرفا على الوزارات الامنية وبصلاحيات القائد العام للقوات المسلحة، لكنه رفض بغضب شديد وعد هذه الطروحات مؤامرة تستهدف الحزب وتستهدفه شخصيا، وغادر الاجتماع.
وفي اثناء هذا الحراك الموغل في سرية اجنداته كان بان كي مون الامين العام للامم المتحدة يذرع ازقة مدينة النجف القديمة الضيقة للقاء بالمرجع الديني السيد علي السيستاني في منزله والاعراب عن (قلقه) وقلق الاسرة الدولية من تولي المالكي رئاسة الحكومة مرة ثالثة، ومع سماعه لوجهة نظر المرجعية في ان التغيير المنشود في الحكومة المقبلة تحكمه آليات نتائج الانتخابات والدستور لم يجد كي مون ضيرا في ان يوجه للمرجع السيستاني سؤالا مدببا خطيرا هو (هل انت مع العراق ام مع المالكي؟) واذ يجيب السيستاني بانه مع العراق يطالبه كي مون بان يستخدم سلطته الدينية لازاحة المالكي.
ويبدو ان مسارات هذا الحراك قد بلغت مسامع المالكي فخرج بخطاب متلفز ملتهب حذر فيه رئيس الجمهورية من مغبة عدم تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة وتوعد باللجوء الى المحكمة الاتحادية كما توعد بفتح ابواب جهنم ان تم تكليف غيره، كما تدافع بعض اركان كتلته من غير الاساسيين نحو القنوات الفضائية لشن هجومات عنيفة ضد معصوم والتحالف الوطني والكتل النيابية الاخرى حتى بلغ الامر باحداهن ان لوحت بتحويل بغداد الى بحيرة دم.
وفي المقابل كان اقطاب التحالف الوطني (الحكيم والجعفري على وجه التحديد) يحاولون تمرير تحالفهم ككتلة اكبر رغم انها لم تحز اكثر من 77 مقعدا نيابيا بينما حاز ائتلاف المالكي على 92 مقعدا نيابيا، وكانت كل المحاولات تصطدم بجدار التفوق العددي لكتلة المالكي، فتسارع خطان ، خط يقوده الجعفري، وخط يقوده السفيران الاميركي والبريطاني لتفجير ائتلاف المالكي من داخله، فاستطاع الجعفري استمالة حسين الشهرستاني وكتلته (مستقلون) وضمها الى التحالف قبل ساعات من نهاية المهلة، واخفق في استمالة هادي العامري وكتلته (بدر)، واستطاع السفيران الاميركي والبريطاني تحقيق انشقاق حيدر العبادي وعلي الاديب و36 نائبا عن المالكي وابرم اتفاق سري على التحاق المجموعة المنشقة بالتحالف الوطني ولن يكون رئيس الوزراء المقبل من سواها من مكونات التحالف.
في العاشر من تموز وقبيل انتصاف الليل حيث موعد انتهاء المهلة كانت قيادات التحالف الوطني ومعهم حيدر العبادي تجتمع في منزل باقر جبر الزبيدي لابرام الاتفاق على اختيار ابراهيم الجعفري لرئاسة الحكومة المقبلة، فبادر بعض المجتمعين الى طرح فكرة الاستئناس برأي المرجع الديني السيستاني، فلقيت الفكرة قبولا، لكن رد السيستاني عبر مكتبه كان حازما (المجرب لا يجرب )، فاسقط في يد المجتمعين، وساد صفوفهم ارتباك خاصة مع قرب انتهاء المهلة، وبينما هم كذلك كان حيدر العبادي يجري اتصالا هاتفيا (لعله مع السفير الاميركي او البريطاني) ما ان انهاه حتى اعلن عن ترشيح نفسه، فلم يجد المجتمعون امامهم وقد حصلوا على الفرصة الاخيرة لانتزاع رئاسة الحكومة من نوري المالكي غير ان يتفقوا على اختيار العبادي والحصول على مباركة السيستاني وابلاغ رئيس الجمهورية بالاتفاق والطلب منه تمديد المهلة 15 ساعة فقط تنتهي في الساعة الثالثة من ظهر الحادي عشر من تموز 2014.
وقبيل انتهاء المهلة كان الجعفري وحيدر العبادي وباقر جبر الزبيدي وعمار طعمة يتوجهون خلسة الى غرفة صغيرة في مكتب معصوم في طقس كئيب بدا فيه المجتمعون وكأن على رؤوسهم الطير ، وفي جو مريب استبعدت عنه قناة الفضائية العراقية (الرسمية) وخصت قناة بلادي المملوكة للجعفري ببث الوقائع الملتبسة لتكليف العبادي بتشكيل الحكومة.
واستقبل المالكي هذا الامر بشبه هستيريا اذ هدد بخطاب متلفز بمقاضاة رئيس الجمهورية بتهمة الخروج على النص الدستوري، وفيما كانت قوات امنية خاصة تحيط المنطقة التي يسكن فيها معصوم والعبادي، كانت ثمة قوات اخرى تسارع الى نقل العبادي الى مكان آمن، بينما سخنت خطوط الاتصالات الحمراء بين مسعود بارازاني ومعصوم من جهة والبيت الابيض ووزير الخارجية التركية من جهة اخرى، وسخنت خطوط اتصالات الاخير مع البيت الابيض وكيري في السعودية والاتحاد الاوربي، وكانت النتيجة انذارات شديدة اللهجة للمالكي انتهت يوم الرابع عشر من آب بمهلة اميركية امدها خمس ساعات فقط ليعلن المالكي تنحيه، فلم يجد المالكي الا الاذعان ودعوة اصحابه وانداده والمنشقين عنه الى الحضور في الساعة الحادية عشرة من ليل 14-8-2014، ليلقي خطاب انسحابه الملغوم لصالح العبادي.